المشهد المصري يبدو للجميع متناقضا: ديمقراطية بدأ بناؤها من خلال انتخابات لمجلس الشعب أيا كانت عيوبها الإجرائية فإن صفتها التمثيلية لا شك فيها. وحالة من الفوضي المستمرة علي مدي الشهور التي مضت وتلت الإطاحة بالسلطة الحاكمة ونجم عنها مواسم للتناحر والصدام أحيانا بين جماهير مصرية وقوي أمنية مختلفة, وأحيانا أخري بين جماعات قيل إنها ليبرالية وجماعات أخري قيل إنها إسلامية. وبينما كانت ساحة الديمقراطية منتظمة في طوابير حضارية يصير فيها الشعب والجيش والشرطة والقضاء يدا واحدة; فإن ساحة الفوضي انقسمت بين مليونيات دار كل منها بين مرجعيات عقائدية متناحرة. المعضلة بين المشهدين كانت أن مصر شحب اسمها ومصيرها, بل أن الغرض الأصلي للثورة في رفعة الدولة ومكانتها وتقدمها كما قيل لنا لم يلبث أن ذهب إلي غير رجعة. وتوالت الوزارات والمليونيات وحوارات المحطات التليفزيونية التي جاءت لكي تناقش حوارات سياسية جري بعضها رسميا وبعضها الآخر شعبيا; ومع ذلك لم تنبت أفكارا يجري وراءها الشعب المصري ويلتف حولها. كانت الفكرة الوحيدة هي الانتخابات كوسيلة للانتقال من مرحلة إلي مرحلة أخري; ومن نتائجها نعرف أن آمالا كثيرة انعقدت علي التيار الإسلامي لكي يأخذ البلاد إلي حيث انطلقت بلدانا أخري أو علي الأقل يخلصنا مما نحن عليه من فوضي. كل ذلك أقل مما كنا نصبو إليه, أو ما كان التيار الليبرالي الثوري يبشر به فوجد نفسه في حيرة بالغة وربما ندم عميق, وبدلا من الاعتراف بالمسئولية التاريخية عن بعض ما جري فإنه يلقي اللوم علي المجلس العسكري مرة, والفلول مرة أخري, والقوي الخارجية مرة ثالثة, ولكنه لم يكن أبدا علي استعداد لكي يتحمل مسئولية تشرذمه, وفشله التنظيمي, وعدم قدرته علي إلهام الجماهير بأفكار تأخذها إلي مستقبل أكثر إشراقا. ولكن البكاء علي اللبن المسكوب لا يجدي, ومن يحاولون استغلال الفوضي باسم الثورة مرة أخري سوف يجدون أمامهم جماهير منتظمة في طوابير المرحلة الثالثة من الانتخابات حيث تستعيد الدولة المصرية سلطتها التشريعية المنتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا. لقد فشل المصلحون المصريون في اتخاذ هذه الخطوة فيما مضي, والآن فإن الفرصة قائمة لكي تجتمع الديمقراطية مع التنمية في إطار مدني واحد يأخذ بيد البلاد لكي تخرج من عثرتها. وبالتأكيد فإن المهمة لن تكون سهلة لأن هناك من أدمنوا الفوضي باسم الثورة, والتراجع باسم التقدم, والخسارة بعنوان المكسب, والانتصار تحت مظلة الهزيمة, ورؤية الماضي علي أنه المستقبل. ولكن علي قدر العزائم تتقدم الأمم. المزيد من أعمدة د.عبد المنعم سعيد