استعادت الشعوب العربية ثقتها بنفسها وتفاخر ابناؤها بالثورات التي اندلعت في تونس ومصر والتي لاتزال تواصل كفاحها في ليبيا واليمن وسوريا.. ومن دلائل التباهي العربي انه عندما قامت إسرائيل بتحركاتها العسكرية الهمجية علي الحدود مع مصر اثر الحادث الذي تعرض له جنودها نهاية الأسبوع الماضي فان شبابا من المملكة العربية السعودية دخلوا علي المواقع الإسرائيلية في شبكة المعلومات الدولية النت ووضعوا مشاهد من ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية مع تعليق بأن علي الإسرائيليين ان يحذروا فان مصر بعد يناير ليست مصر قبلها! واعتقد أن المعني واضح واللافت المبهر للنظر أن التحذير المعبر عن المباهاة جاء من السعودية.. والأكثر إبهارا ان دعما اضافيا تراكم عليه من شباب في بلاد عربية متفرقة.. وهذا أمر يدعو إلي الاطمئنان باعتباره مؤشرا له دلالاته علي إحياء الثورة العربية لمبادئ القومية العربية ومشاعرها المتجذرة في العقل العربي. لكن هذا كله مع أهميته لا يطرد هاجسا غير مريح وهو ان البعد القومي العربي لم يعد واضحا في السياسات الحكومية الرسمية في حين ان الوضع الداخلي في كل دولة قد صار هو وليس غيره الهم الاساسي الذي يشغل بال الحكومة بل القوي السياسية الساعية إلي السلطة! وإذا كان ما نقوله يبدو للوهلة الأولي متناقضا.. فانه لا يصبح كذلك إذا تفكرنا في روية وهدوء ورصدنا المواقف الشعبية والحكومية في منطقتنا العربية منذ بداية هذا العام حتي الآن! وفي نفس الوقت فاننا قد نحصل علي مزيد من الضوء ينير لنا الطريق ويساعدنا علي دقة التحليل إذا ما رجعنا بالذاكرة إلي السنوات الماضية التي برزت فيها الاستراتيجية الأمريكية اتصالا بسابق سياساتها لإنشاء شرق أوسط جديد.. كبير.. وأيا كان الاتفاق أو الاختلاف حول ما الدول التي سيضمها.. فان الأكثر أهمية وهو المطلوب أولا وأخيرا القضاء علي القومية العربية.. لنسف أي تكامل بين بلدان هذه الأمة التي تضم ما يقرب من ثلاثمائة مليون من البشر وخيرات وكنوزا من موارد طبيعية لاتحصي ولا تعد فوق الأرض وفي باطنها والتي تعد قلب عالم إسلامي يضم بخلاف دولها 32 دولة أخري وبهذا فانها يمكن أن تكون كما كانت في الستينيات من القرن العشرين المحور الاساسي لمجموعة عدم الانحياز, فضلا عن أنها جغرافيا تحتل موقعا ممتازا بين قارات العالم, وتاريخيا لها مكانة وحضارة ويكفي انها مهد الرسالات السماوية, وذلك كله اضافة إلي خصائص استراتيجية عديدة جعلتها هدف الغزاة والطامعين عبر العصور, وهي نفسها في مرحلة بعد الحروب الخمسة من مسلسل الصراع العربي الإسرائيلي التي دفعت وزير الخارجية الأمريكية الأسبق إلي التصريح علانية انه يتحتم القضاء علي القومية العربية وأضاف:.. وايضا قتل فكرة عدم الانحياز!. ولقد عاد نفس هذا الهدف بقوة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وعمل علي ترويجه وان كان بصلف مع وزيرة خارجيته كونداليزا رايس.. وما طرحته من نظرية الفوضي الخلاقة وما قامت به المخابرات المركزية من اساليب وتحركات. ولعل الذين يتذكرون يستعيدون ما قيل عن تقسيم البلاد العربية وتفتيتها.. وهذا والحق يقال لم يكن خافيا علي العرب فكان ان توالت الندوات والكتابات تكشف وتحذر وتصرخ.. لكن والحق يقال ايضا فان معظم الانظمة العربية الحاكمة كانت في غيبوبة اما غرورا أو حمقا وجهالة! وهكذا.. جري ما جري في العراق الذي وإن كان رسميا بلدا واحدا إلا أنه عمليا وواقعيا مقسم.. وكانت شرور الحماقة والغرور هي السبب!! والمهم فيما نتعرض له ان مبدأ القومية العربية قد تراجع.. وكيف يمكن أن يسود وقسم كبير من الشعب يقول إنه كردي وليس عربيا؟! وهكذا صار السودان.. دولتين, بعد أن استحكمت أزمة الهوية وسادت الطائفية والعرقية وكان الرضا كاملا في الشمال علي أساس ان يكون دولة إسلامية أكثر منها عربية!! وهكذا ايضا تمادت انظمة أخري.. تحكمت فيها عقول غير ناضجة وغير محنكة تملكتها غوايات السلطة وأهواء شخصية.. فكان ما حدث في تونس وفي مصر عندما التقت أهداف متعددة وتحركت الجماهير بقطاعاتها التي طحنها غياب العدالة القانونية.. والعدالة الاجتماعية.. ووجدت انها تعاني وتضحي وتنزف.. وليت هذا من أجل المبادئ أو لمشروع قومي وإنما لحساب طبقة النصف في المائة.. كما كان الحال قبل ثورة23 يوليو1952 فكان لابد من الثورة التي انضمت لها القوات المسلحة فتحقق النصر.. ومن بعد تركز الاهتمام علي البناء الداخلي. وإذا نظرنا إلي ثورتي ليبيا وسوريا فان خير ما يعبر عن الموقف العربي إزاء ما يحدث هو نداء الثوار للعرب.. صمتكم يقتلنا! وهو نداء بليغ موجه بالدرجة الأولي إلي الأنظمة الحاكمة وليس إلي الشعوب ورغم معاناة الظروف وقسوتها فان كلا من الثورتين تمضي ولا رجعة إلي الوراء.. لكن لابد من موقف عربي أكثر إيجابية حتي يستشعر الثوار أهمية البعد العربي وحتي لا تنفرد دول وقوي أخري بالتعامل مع الموقف مما يرتب لها فيما بعد.. موقفا ومكانة علي حساب العروبة!! وفي هذا الصدد.. فان معلومات بالغة الأهمية والإثارة خرجت من ليبيا تؤكد أن أيام العقيد القذافي معدودة بعد أن تخلي عنه كثير من اركان نظامه.. وبعد أن اقتحم العاصمة طرابلس. وقالت معلومات مؤكدة إن أسرة معمر القذافي نفسها تخطط للنجاة والهروب وأنها تضغط عليه لتأمين خروجه وإنقاذ حياته. وأكدت المعلومات انه سبق ان جرت اتصالات وافق عليها الناتو لكي تكون تركيا ملجأ للقذافي وأسرته.. لكنها تعثرت في مرحلتها الأخيرة لتردد القذافي وعدم اعطائه ضمانات لتأمين حياته.. كما انه تشكك في إمكانية ان تكون إحدي دول غرب إفريقيا التي له معها صلات مأوي آمنا.. وأخيرا ولضغوط الأسرة فانه اجري اتصالات سرية مع تونس لتقبل استضافة أسرته فيما عدا ابنه سيف الإسلام الذي يصر علي أن يكون بجانبه لكن تونس اعتذرت عن عدم إمكانية ذلك لما يمكن أن يسببه وجود الأسرة من اضطرابات شعبية خاصة مع احتمال ان يلحق القذافي بأسرته.. خاصة ايضا ان تونس تستضيف حاليا أكثر من ستمائة ألف ليبي فروا إليها لاجئين. وفيما أكدته المعلومات.. فان اتصالات تجري حاليا مع جنوب إفريقيا لتقبل استضافة العقيد وأسرته.. ويمكن القول انه تمت الموافقة المبدئية علي هذا.. خاصة ان جنوب إفريقيا سبق ان ارسلت الشهر الماضي طائرتين لنقل القذافي وأسرته لكنه رفض في حينه ثم عاد الآن ووافق وربما ستسبقه أسرته أولا. ويجيء هذا الموقف من القذافي كما أشرنا لتقدم الثوار ولا نفضاض أركانه من حوله.. فان منهم من أعلن استقالته ولجأ إلي دولة أوروبية أو عربية.. ومنهم من ينزوي منطويا في بيته مثل عبدالسلام جلود, ومنهم من اصيب بحالة هلوسة وخلل عقلي مثل الخويلدي الحميدي أحد قادة ثورة الفاتح1969 الذي كان مؤيدا للعقيد ويقيم في بيت جعله مقر قيادة عسكرية لكن طائرات الناتو قصفته فلقيت أسرته الزوجة والأبناء مصرعهم.. وأصيب هو بهلوسة إذ أخذ يردد للمحيطين به ان الوحي جاءه من السماء بأنه سوف يخلف القذافي ويتولي قيادة ليبيا وإنقاذها! وعلي الجانب الثوري تؤكد المعلومات العليمة ان موجة من التفاؤل تسود الثوار وانه توجد قيادة جماعية للثورة وان كان يبرز فيها القاضي مصطفي عبدالجليل الذي كان من قبل وزيرا للعدل وانه مع مخطط الثورة.. تجري دراسة كيفية إدارة البلاد بعد نجاحها.. وفي هذا الإطار تشكلت مجموعة عمل لوضع مشروع دستور جديد لإقامة دولة مدنية ديمقراطية باسم الجمهورية العربية الليبية وانه ستتشكل حكومة انتقالية تتولي إدارة شئون البلاد لمدة لا تزيد علي سنة يتم خلالها إصدار الدستور وإجراء الانتخابات مع تأكيد البعدين العربي والإفريقي والعلاقات المتميزة مع مصر والسودان. وجدير بالذكر تضيف المعلومات ان المبعوثين والطلاب الليبيين الذين يدرسون في الخارج.. علي صلة مستمرة بالثورة ويعبرون عنها في البلاد الموجودين بها.. كما انهم ينظمون أنفسهم علي أساس ايفاد مجموعات منهم كل شهر للانضمام إلي صفوف الثوار والعمل معهم ثم العودة ليجيء غيرها.. وهكذا. والمهم فيما نتعرض له ان هذا كله يجري في إطار تحركات دولية ليس للعرب فيها دور مؤثر.. فأين سيكون البعد العربي بعد نجاح الثورة وسط مؤثرات القوي الفاعلة.. ومنها مثلا دول أوروبية طردت البعثات الدبلوماسية القذافية. وسلمت مقار السفارات للثوار واعترفت بمبعوثي الثورة! أما سوريا.. فإن الكلام عنها دقيق.. لكن ما يمكن قوله عنها الآن ان الخناق قد أخذ يضيق علي الرئيس بشار الأسد.. خاصة ان تركيا التي هرب إليها نحو مليون سوري قد اتخذت موقفا محددا ضد النظام.. وان الأسد لايجد حليفا سوي إيران التي لا تجد غيره جسرا للمشرق العربي والقوي السياسية التي علي صلة بها خاصة في لبنان وغزة!! وفيما يقوله المتمسكون المؤمنون بالعروبة.. قومية ومبدأ.. مصيرا ومستقبلا.. فانه يتحتم ان تتحرك الدول العربية ولا أقول الجامعة العربية لانها ليست إلا منبرا وتعبيرا عن الإرادات العربية لاتخاذ موقف واضح محدد.. هل لاتزال تؤمن بالأمة العربية.. أم.. انها تترك الساحة لشرق أوسط.. تضيع فيه العروبة.. وتحل مكانها نظريات واستراتيجيات أخري؟!