التاريخ مجموعة من الأحداث, بمرور الوقت تتحول لحكايات مكتوبة أو شفهية نرويها أحيانا للترفيه و غالبا للقياس عليها و محاولة الفهم أو استخلاص العبرة. و قد يتواري الحدث التاريخي أو تغييب تفاصيله و ربما أسماء أبطاله, وقد يسقط من الذاكرة أصل الحكاية و تتلون تفاصيلها لكن يبقي في خزانة الوعي الجمعي لأبناء الأمة مغزي أو معني, إذا ما فقده أو تخلي عنه يتحول لمسخ أو كيان هلامي يفتقد أهم أسباب وجوده و دعائم هويته. وفي تاريخنا المصري علي مر العصور أحداث و حكايات من المؤكد أن معظمنا لا يعرف تفاصيلها أو أسماء أبطالها لكنها ترسبت في وجدان المصريين وباتت جزءا من عادتنا وتقاليدنا الأصيلة التي يمارسها الجميع. ومثلما روي التاريخ أن الأسر الحاكمة الفرعونية القديمة وظفت الدين لإضفاء الشرعية علي الحاكم, روي حكايات البسطاء الذين أضفوا بعدا دينيا وأسطوريا علي احتفالاتهم و ممارستهم الحياتية تجل في الربط بين بداية الربيع وبدء دورة الزراعة. فتحكي البرديات عن ليلة شم النسيم التي أو ليلة الرؤيا التي تبدأ بالاحتفالات الدينية, حيث ورد ذكر ليلة الرؤيا التي تعلن مولد الزمان وبعث الحياة في أكثر من بردية من برديات الفراعنة, ثم تحكي البرديات عن عيد شعبي يبدأ مع شروق الشمس, تشارك فيه جميع طبقات الشعب,فيضعون زورقا شمسيا علي سفينة مزخرفة لتسير مع تيار النيل, بينما يدق الرهبان والجنود الطبول ويغنون علي شاطئه, تقول المراجع التاريخية إن بني إسرائيل نقلوا عيد شم النسيم عن الفراعنة لما خرجوا من مصر, وقد اتفق يوم خروجهم مع موعد الاحتفال بشم النسيم الذي حدد المصريون موعد الاحتفال به في اليوم التالي لعيد الفصح بعد انتهاء صيام مسيحيي مصر. . وعن العصور التالية يقول د. بهاء حسب الله- أستاذ التاريخ بكلية أداب حلوان عرفت مصر منذ تاريخها الإسلامي القديم وتحديدا في الدولة الفاطمية ومن بعدها الأيوبية ثم المملوكية الاحتفالات ذات الطابع الخاص, لاعتبار مهم ألا وهو أنها أعطت مصر شكلا متميزا في عاداتها وتقاليدها وصور احتفالاتها الخاصة بالأعياد, وانعكس ذلك بطبيعة الحال علي أدبها بصفة العموم, وفي شعرها بصفة خاصة, وهذا ما لاحظه المقريزي وسجله في كتابه( الخطط) حيث لاحظ أن مصر وتحديدا منذ أن وطأها الفاطميون سنة362 ه, وهي تموج في معمعة من الأعياد وصلت إلي نحو ثلاثين عيدا.. بداية من عيد رأس السنة الهجرية وصولا الي عيد الغدير, وعيد وفاء النيل, وعيد النيروز وهو عيد قدوم الربيع, إلا أن الاحتفالات بأعياد الربيع, كانت تأخذ أشكالا تعبيرية شديدة الخصوصية كما يقول المقريزي: إن الناس في صبيحة عيد النيروز وهو عيد الربيع كانوا يخرجون ويطوفون شوارع القاهرةوالإسكندرية ب( الخيال والتماثيل والسماجات) والخيال هو لعبة خيال الظل المضحكة التي تحولت مع الزمن إلي لعبة الأراجوز المعروفة, والسماجات يقصد بها الملابس التنكرية المضحكة, التي تحاكي ملابس الشعوب الأجنبية في زمانهم, وكانوا يتسلون كذلك بنطاح الكباش وعراك الكلاب والديكة, ويقول ابن تغري بردي في كتابه( النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة): إن مصر عرفت صورة الكرنفالات والاحتفالات الكبيرة في أعياد النيروز حيث اتسعت فنون التسلية, ومنها الخروج للتنزه في أمكنة كثيرة علي شاطئ النيل من ناحية الأزبكية, وفي بولاق وجزيرة الروضة, وكانوا يستأجرون القوارب والسفن الشراعية للتنزه بها في النيل, وذات الأمر علي شاطئ الإسكندرية من ناحية الرمل, وكان المتنزهون في القاهرةوالإسكندرية يستأجرون المغنيين والمغنيات ليعيشوا معهم فرحة أعياد الربيع بالأغاني والأهازيج, كما كانت تقام في تلقي الأيام المنتديات والمجالس الأدبية التي يتباري فيها الشعراء في الحدائق العامة ويتنافسون ويحتكمون إلي الخلفاء أنفسهم الذين كانوا يشاركون الناس فرحتهم بأعياد الربيع وكذلك علماء اللغة وكبار النقاد والمبدعين في زمانهم, وحتي شيوخ الأزهر آنذاك. و يشير د. حسب الله إلي أن المجالس الأدبية في مصر الإسلامية كانت تعقد دائما في أعياد الربيع و أنها قد بدأت أولي مراحلها, وعلي حد تعبير الدكتور غريب محمد علي في أيام الخليفة الأموي عبد العزيز بن مروان, ثم أخذت تنمو في العصرين الطولوني والأخشيدي, حتي إذا ما جاء العصران الفاطمي والأيوبي ومن بعدهما العصر المملوكي وجدنا تلك المجالس الأدبية قد بلغت القمة وأوفت علي الغاية, وخاصة في أيام الربيع,. وكانت تلك المجالس تتحول في أعياد الربيع إلي مهرجان يتغني فيه الشعراء بوصف اليوم الربيعي نفسه, ومديح السلطان, ومن أبرز الشعراء الذين كانوا يتبارون في تلك المجالس ظافر الحداد والقاضي الفاضل والبهاء زهير والشاب الظريف وابن قلاقس وابن سناء الملك في الحدائق العامة, بل إن الشاعر المملوكي الكبير ابن دانيال دعا السلطان المملوكي الظاهر بيبرس لحضور ثلاث مسرحيات شعرية في نهار أحد أيام عيد الربيع تمثل مواقف كوميدية ساخرة, وعرضها عليه عن طريق مسرح خيال الظل الشعبي, ويقول السيوطي في كتابه( حسن المحاضرة) إن من سبيل تسلية الناس في هذه الأيام آنذاك سماع سيرة عنترة وذات الهمة وأبي زيد الهلالي وسيرة الظاهر بيبرس في الحدائق العامة بالقاهرة والفسطاط والإسكندرية, وكانت الأفراح بأعياد الربيع تزداد وتتسع وتأخذ أشكالا جديدة حينما كان يصل إلي مسامع المصريين أخبار الانتصارات علي الصليبيين والتتار. وعن طرق الاحتفالات الرسمية يقول د. حسب الله كان الخلفاء في العهد الفاطمي علي وجه التحديد ومرورا بالعهدين الأيوبي والمملوكي يحرصون علي الخروج في صبيحة يوم الربيع في مواكب رسمية من أبواب القلعة وحتي روضة المنيل تحديدا, ومن العادات الطريفة الباقية إلي يومنا هذا عادة إقامة الزينات في البيوت, وإيقاد المصابيح أمامها, وإضاءة الدكاكين والحوانيت بالشموع والقناديل وعمل الولائم الجماعية في الشوارع والحواري, وقد تعجب وانبهر ابن بطوطة من تلك المظاهر عندما زار القاهرة في القرن السابع الهجري, وسجل ذلك في كتابه( رحلات ابن بطوطة في الجزء الأول), ووصف تفنن تجار الأسواق في تزيين أسواقهم, كما لاحظ ابن بطوطة أن الأسر المصرية في تلك الفترة من العهد المملوكي كانت تحرص علي إقامة حفلات الزواج, وعقد القران في فترة الأعياد, وخاصة في أيام الربيع, لاعتدال المناخ وارتياح النفوس بعد أيام الشتاء القارسة. هذا ما يرويه التاريخ و هذا ما بقي أثره في وجدان كل المصريين.. هكذا عاش أجدادنا واحتفلوا بأعيادهم واحتفوا بدنياهم ودينهم وهكذا سيظل المصريون ما بقيت تلك الذرات التي شكلت هويتهم و ووعيهم.. وكل عام وكل مصري بخير..