خرج آلاف المواطنين المصريين إلى الشوارع، قاصدين الحدائق العامة والمتنزهات، احتفالاً بأعياد شم النسيم. وشهدت الأماكن العامة خاصة تلك التي تحتوي على مساحات خضراء بالقاهرة والمحافظات، والشواطئ على البحرين المتوسط والأحمر، وضفاف النيل، توافدًا كبيرًا من المواطنين الذين يحتفلون بأقدم الأعياد المصرية على الإطلاق. وفتحت حدائق الحيوان بالمحافظات، والحديقة الدولية بالقاهرة والإسكندرية، والحدائق المفتوحة بجميع المحافظات أبوابها منذ الصباح الباكر، استعدادًا لاستقبال آلاف المواطنين الطامحين للاستمتاع بالطقس المعتدل في فصل الربيع، والحريصين على ألا تجور الاحتفالات على ميزانيات بيوتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية المتواضعة لقطاع كبير من الأسر المصرية. ولم ينسَ المصريون اصطحاب أكلاتهم المفضلة في هذا العيد معهم، وهي عبارة عن الأسماك المملحة والمدخنة، التي ترتفع أسعارها بشكل ملحوظ قبيل شم النسيم، وسط مخاوف من أن تكون الأسماك مغشوشة، حيث تتصدر أخبار ضبط أسماك فاسدة صفحات الجرائد وأخبار وسائل الإعلام منذ أيام. وشم النسيم من أعياد الفراعنة، توارثته الأجيال حتى صار عيدًا شعبيًا، حيث يحتفل به أهل مصر من مسلمين ومسيحيين. وكانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة، ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذى حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعى، وهو اليوم الذى يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل، ويقع فى الخامس والعشرين من شهر برمهات حسب التقويم القبطي. وأطلق الفراعنة على ذلك العيد اسم (عيد شموش) أى بعث الحياة، وحُرِّف الاسم على مر الزمن، وخاصة فى العصر القبطى إلى اسم (شم)، وأضيفت إليه كلمة النسيم نسبة إلى نسمة الربيع التى تعلن وصوله. ويسمى عيد شم النسيم بعيد الربيع أيضا، ويذكر المؤرخون أن هذا العيد هو التقليدى الأقدم والأعظم لكل المصريين، ويعود تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وقيل إن المصريين القدماء يرون أن مجيء عيد شم النسيم يعنى مجيء الربيع وانبعاث الكائنات، كما أنه يرمز إلى بداية حياة جديدة، وذلك وفقًا للجداريات المكتشفة التى تسجل الاحتفال بعيد شم النسيم، ويعود تاريخ هذا العيد إلى عام 2700 ق.م. وكان احتفال المصريين القدماء بعيد شم النسيم مثل احتفال الصينيين القدماء بعيد دوانوو بمسابقة قوارب التنين نوعًا ما، حيث يضعون زورقًا شمسيًا على سفينة مزخرفة جميلة لتسير مع تيار النيل، بينما يدق الرهبان والجنود الطبول ويغنون على شاطئ النيل، ويتمتع الفرعون والوزراء والجماهير بذلك المنظر ويفرح الأطفال وهو يركضون ويصيحون فرحين. وموعد عيد شم النسيم ليس محددًا على التقويم الميلادي، فهو يكون بين أواسط مارس وأوائل مايو تقريبًا، إلا أن تقارب موعده مع موعد الصيام الكبير للمسيحيين الذى يمنع تناول اللحوم والأسماك، ولطقوسه التى ترتبط بأكل السمك المملح حدد موعد هذا العيد فى اليوم الثانى بعد عيد الفصح، أى يوم الاثنين بعد عيد الفصح كل عام. ويرى بعض المؤرخون أن الاحتفال بعيد شم النسيم كان معروفًا ضمن أعياد هليوبوليس ومدينة (أون) وكانوا يحتفلون به فى عصر ما قبل الأسرات. ويبدأ الفراعنة بالاحتفال فى الليلة الأولى أو "ليلة الرؤيا" بالاحتفالات الدينية، حيث ورد ذكر "ليلة الرؤيا" التى تعلن مولد الزمان وبعث الحياة فى أكثر من بردية من برديات الفراعنة، ثم يتحول العيد مع شروق الشمس إلى عيد شعبى تشترك فيه جميع طبقات الشعب كما كان فرعون، وكبار رجال الدولة يشاركون فى هذا العيد. وكان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم احتفالاً رسميًا كبيرًا حيث يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل للغروب مقتربًا تدريجيًا من قمة الهرم حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم وتخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين. وهذه الظاهرة الفلكية لفتت انتباه عالم الفلك البريطانى "ركتور" الذى كان يؤكد فى دراساته الطويلة أن مختلف علوم المعرفة عند الفراعنة كانت ترتكز على علم الفلك وأسراره وأن مايطلق عليه كلمة "سحر" من خوارق ومعجزات ماهى إلا نظريات علمية بحتة ترتبط بالظواهر الفلكية التى اتخذوا منها مفتاحا لفك كثير من أسرار المعرفة المقدسة المرتبطة بعلوم الحياة. وقد قام عالم الفلك البريطانى بدراسة دورة الشمس فى الأفق فى يوم 21 مارس وتحديد مرورها فوق قمة الهرم وقت الغروب، وفى عام 1930 قام بالتقاط عدة صور خلال عشرين دقيقة ابتداءً من الساعة السادسة مساء يوم 21 مارس، وذلك بالتحليق بإحدى الطائرات فوق قمة الهرم وظهر قرص الشمس للعيان، وكأنه يتربع فوق قمة الهرم وظهر ضوء الشمس وكأنه يشطر واجهة الهرم إلى شطرين. وفى عام 1934 قام العالم الفرنسى "أندريه بوشان" بمحاولة مماثلة باستعمال الأشعة تحت الحمراء، حيث نجح فى التقاط عدة لقطات سريعة استغرقت ثلاث دقائق أمكن بواسطتها تسجيل تلك الظاهرة المثيرة التى فسرت حقيقة أسطورة الرؤيا وانشطار الهرم ليلة عيد الربيع. ودينيًا، تقول المراجع التاريخية إن بني إسرائيل نقلوا عيد شم النسيم عن الفراعنة لما خرجوا من مصر، وقد اتفق يوم خروجهم مع موعد احتفال الفراعنة بعيدهم، حيث احتفل بنو إسرائيل بالعيد بعد خروجهم ونجاتهم وأطلقوا عليه اسم "عيد الفصح"، حيث إن "الفصح" كلمة عبرية معناها (الخروج) أو (العبور)، كما اعتبروا ذلك اليوم - أي يوم بدء الخلق عند الفراعنة - رأسًا لسنتهم الدينية العبرية تيمنًا بنجاتهم وبدء حياتهم الجديدة. وهكذا انتقل هذا العيد من الفراعنة إلى اليهود، ثم انتقل عيد الفصح من اليهود إلى المسيحيين الذين أعطوه رمزًا جديدًا، حيث تم ربطه مع عيد القيامة المسيحي، ويقع دائما فى اليوم التالى لعيد الفصح أو القيامة. وشعبيًا، تعود المصرى القديم أن يبدأ صباح هذا اليوم - كما جاء فى البرديات القديمة - بإهداء زوجته زهرة من اللوتس وكان القدماء يطلقون على هذا اليوم عيد الربيع. وتحفل مائدة عيد الربيع بالأطعمة المحببة للمصريين فى ذلك اليوم مثل "البيض الملون"، وبدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع (شم النسيم) مع بداية العيد الفرعونى نفسه أو عيد الخلق حيث كان البيض يرمز إلى خلق الحياة، كما ورد فى متون كتاب الموتى وأناشيد (أخناتون الفرعونى)، وهكذا بدأ الاحتفال بأكل البيض كأحد الشعائر المقدسة التى ترمز لعيد الخلق، أو عيد شم النسيم عند الفراعنة. أما عادة تلوين البيض بمختلف الألوان وهو التقليد المتبع فى جميع أنحاء العالم، فقد بدأ فى فلسطين حيث أمر القديسون بالديانة المسيحية بأن يصبغ البيض باللون الأحمر ليذكرهم بدم المسيح الذى سفكه اليهود، حسب معتقدات الديانة، حيث ظهر بيض شم النسيم لأول مرة مصبوغا باللون الأحمر، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليه المسيحيون بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية. ومن أطعمة شم النسيم السمك المملح - وفقا لما جاء فى موسوعة أغرب الأعياد وأعجب الاحتفالات لسيد صديق عبد الفتاح - حيث كان من بين الأطعمة التقليدية فى العيد فى الأسرة الفرعونية الخامسة عندما بدأ الاهتمام بتقديس النيل - نهر الحياة - وقد كان للفراعنة عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ والملوحة واستخراج البطارخ كما ذكر هيرودوت المؤرخ الإغريقي. أما البصل فقد ظهر ضمن أطعمة عيد شم النسيم فى أواسط الأسرة الفرعونية السادسة، وقد ارتبط ظهوره بما ورد فى إحدى أساطير مدينة "منف" القديمة التى تروى أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد أصيب بمرض غامض، واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وأمر الكاهن بوضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الأمير فى فراش نومه عند غروب الشمس . وتشرح الأسطورة كيف غادر الطفل فراشه، وخرج ليلعب فى الحديقة وقد شفى من مرضه، فأقام الملك الأفراح فى القصر لأطفال المدينة بأكملها، وشاركه الشعب فى أفراحه، ولما حل عيد شم النسيم بعد أفراح القصر بعدة أيام قام الملك وعائلته، وكبار رجال الدولة بمشاركة الناس فى العيد، كما قام الناس بتعليق حزم البصل على أبواب دورهم. كما كان الخس من النباتات التى تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها ونضجها، وقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشًا دائمًا تحت أقدام الإله فى معابده ورسومه.