دور القضاة في السياسة المصرية هو جوهر الصراع السياسي المحتدم والصاخب بين السلطة السياسية الحاكمة ومعها بعض الأحزاب السياسية الإسلامية, ومن ثم نحن إزاء صراع علي طبيعة وتركيب الدولة/ الأمة الحديثة والمعاصرة الدولة الوطنية وتقاليدها الدستورية والمؤسسية والعلاقات بين السلطات وتوزيعات القوة فيما بينهما وكيفية الإدارة الدستورية والسياسية لمبدأ الفصل بين السلطات في إطار التعاون فيما بينهما وفق النظام الدستوري السائد. هذا الصراع الضاري قد يبدو لدي بعضهم جديدا علي ساحة الدولة وسلطاتها بعد الانتفاضة الثورية, لكن إمعان النظر في تاريخ العلاقات بين السلطات, يبدو جزءا من تطورنا السياسي والدستوري, لاسيما بعد ثورة يوليو1952 من هنا يبدو لدينا أن الخطاب السياسي حول تطهير القضاء والقضاة, هو تعبير عن منطق وذهنية الغلبة السياسية ونزعة الاستئثار السياسي والرغبة في إعادة تطويع الدولة علي هوي ومصالح وأهداف النخبة السياسية المسيطرة بيد أن هذا المسعي السياسي يشكل أحد مظاهر غياب الحس السياسي البناء والخلاق لصالح نمط من الأثرة والاستحواذ السياسي علي السلطة والرغبة الجامحة والعارمة لصياغة دولة وسلطات تأسيسا علي الأهواء السلطوية دونما استيعاب لمنطق وعقل وثقافة الدولة الحديثة وشبكاتها وتعقيداتها وعلاقاتها البينية. الحديث عن تطهير القضاء, أو استبعاد بعض كبار ومشايخ رجال القضاء, هو الوجه الآخر للعقل السياسي اللا تاريخي الذي يسيطر حاليا علي عملية صناعة القرار السياسي, وسياسة التشريع في المرحلة الانتقالية الثانية, حيث يتم تغليب المصالح السياسية الضيقة علي منطق ومصالح الدولة والأمة! وتبدو النزعة اللا تاريخية في اتخاذ القرار السياسي, وفي سياسة التشريع في عديد المظاهر التي يمكن رصدها فيما يلي: 1- عدم استيعاب تجارب التاريخ السياسي والدستوري المصري فيما صدر من إعلانات دستورية وقرارات بقوانين من السلطة الفعلية في البلاد. 2- إصدار إعلانات دستورية من رئيس منتخب لا يملك سلطة إصدارها, بكل آثار ذلك الدستورية والقانونية وهي الانعدام. والأخطر عدم إدراك مآلات هذا العمل من حيث المسئولية السياسية والقانونية في المنظور التاريخي والمستقبلي عندما تستقر أوضاع الدولة ومؤسساتها, ومن ثم استقرار التوازنات السياسية والاجتماعية, وقواعد العمل السياسي في البلاد. 3- الخلط في إدارة شئون البلاد بين الدولة والمؤسسات التمثيلية وبين الحزب السياسي أو الجماعة الدينية أيا كانت, وأن منطق الدولة وثقافتها ورأسمالها الخبراتي يشير إلي إدانة هذا الخلط الذي يشكل عملا مناهضا للدولة ذاتها, ومن ثم سيغدو جزءا من عملية المراجعة التاريخية وتقويم ما حدث من اختلال وازدواجية في عمل الدولة وسلطاتها, وبين منطق الجماعة والحزب السياسي, وبين مفهوم الاستقلالية النسبية للدولة وسلطاتها, وبين الحزب السياسي المسيطر والقادم إلي سدة الحكم وفق صناديق الاقتراع وأيا كان التحفظ علي ربط مفهوم الشرعية السياسية بأحد الجوانب الإجرائية الجزئية في إطار مفهوم الشرعية الانتخابية. 4- إن خطاب تطهير القضاء هو إعادة إنتاج لمفهوم سياسي بغيض استخدمته سلطة يوليو مرتين في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فيما سمي بمذبحة القضاة في الحالتين, وأن كان ما تم بعد هزيمة يونيو, وبيان نادي القضاة زائع الصيت الذي طالب باستقلال القضاء ودولة القانون وضرورة احترام مبدأ سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات الشخصية والعامة من انتهاكات السلطة البوليسية آنذاك! 5- إن الجماعة القضائية المصرية ساهمت تاريخيا في إرساء قواعد الدولة الحديثة ومؤسساتها وسيادة دولة القانون وعلي نحو يحمي حريات المواطنين حتي في ظل الاعتداءات البوليسية والأمنية والاستخباراتية علي حقوق وحريات بعض المعارضين السياسيين للسلطة الحاكمة. 6- أن الجماعة القضائية في الغالب الأعم ساهمت في إطار الصراع السياسي ما قبل25 يناير2011 في دعم تطوير جماعة الإخوان المسلمين لأدائها السياسي والتنظيمي في إطار إشرافها علي الانتخابات العامة في حصول الجماعة علي20% من مقاعد برلمان2005 وهي نسبة لم تحصل عليها الجماعة من قبل, وذلك بفضل دور غالب القضاة الذين شاركوا في الإشراف علي الانتخابات. ساهم القضاة في وصول الإخوان والسلفيين إلي السلطة. مما سبق يتبين أن خطاب التطهير سيئ الصيت ليس جديدا, وأن محاولة استبعاد شيوخ القضاة هو محاولة لتصفية ميراث وثقافة الاستقلالية لدي الجماعة القضائية, والذي تربت عليها أجيال تلو أخري في غمار الكفاح المشرف لاستقلال السلطة القضائية والقضاة إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية. إن تصفية هذا التاريخ من الخبرات والممارسات القضائية المستقلة هو في ذاته تعبير عن نزعة الغلبة والسعي إلي هدم جزء مهم من التراث الوطني حول العدالة الحديثة والمعاصرة ومبادئها وتراثها المؤسسي, وهو أحد أهم قلاع ومواريث الدولة الحديثة التي تتعرض بعض مبادئها وأسسها ومقوماتها لشروخ بنائية وتحديات خطيرة! إن الجماعة القضائية المصرية محافظة في توجهاتها الرئيسية, ولكنها لعبت ولا تزال دورا مهما في العمليات السياسية كطرف فاعل في إصلاح بعض القوانين الأساسية من خلال القضاء الدستوري, والإداري, وأحكام محكمة النقض, من ناحية أخري اتسع نطاق هذا الدور من خلال الدور السياسي المباشر وغير المباشر لأحكام المحكمة الدستورية العليا رفيعة المكانة والمقام والإنجاز علي نحو استطاعت أن تكون أحد أبرز المحاكم الدستورية علي المستوي العالمي المقارن. إن السعي إلي استبعاد شيوخ القضاة هو تعبير عن منطق هدم لرأسمال الدولة الوطنية وخبراتها الثمينة, والسعي إلي استكمال مشروع التسلطية السياسية الطغياني الذي ساد طيلة عقود ثورة يوليو1952, والذي تحاول تقويضه باستكمال مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحامية للحقوق والحريات العامة والشخصية والمواطنة وحقوق الإنسان بأجيالها علي اختلافها. نحن أمام نزعة هدم لا نزعة بناء, وإزاء عقل سياسي لا تاريخي, ومن ثم لا يستوعب منطق الدولة وثقافتها, واستقلال سلطاتها ومؤسساتها وخضوع جميع الفاعلين في ساحتها لدولة القانون الحديث لا الأهواء الفردية أو مصالح جماعة دينية ضد تاريخ الدولة والمجتمع في واحدة من أهم الدول الوطنية في هذه المنطقة من العالم! إنها لحظة استثنائية وانتقالية ولن تمر تاريخيا! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح