كانت الإغارة علي الآخرين ونهبهم لتكوين الثروات عرفا أوروبيا مقبولا اجتماعيا, بل امتهنها سكان مناطق بأكملها مثل الفيكنج في الشمال, الذين حكم ملكهم كانوت انجلترا أيضا في القرن الحادي عشر. المدهش أن دولة في جزيرة كإنجلترا مكثت طويلا دون أسطول رسمي قوي, واعتمدت علي استئجار السفن التجارية الخاصة لخدمة التاج. حيث رخص هنري الثالث عام1243 لسفن تجارية بمهاجمة فرنسا. وتنافست الإمبراطوريات الأوروبية بشدة للتوسع ومراكمة الثروات. فاكتشف كولومبس شعوبا بأكملها فنهبها واستأصلها, وفرضت إسبانيا سيطرتها علي منطقة الكاريبي والمكسيك وأمريكا الوسطي منذ عصره. وباضمحلالها, سعت هولنداوإنجلتراوفرنسا للاستيلاء علي ثرواتها ومستعمراتها. وشعر الإنجليز بالكراهية الشديدة لاسبانيا لمحاولتها منعهم من التواجد في العالم الجديد, فبدأ قراصنتهم الجدد عام1530 يغيرون علي قدامي قراصنة الإسبان وسفنهم المحملة بالذهب والفضة عند عودتها من العالم الجديد. وكانت غنائم( كلاب البحر) من أمثال السير جون هوجنز هائلة. وكان السير فرنسيس دريك من أشهر القراصنة( وكان أيضا من قادة البحرية الإنجليزية) حيث أسهمت خدماته كقبطان لأسطول تجاري مستأجر في حسم الحرب ضد إسبانيا, وكانت غاراته(1570-1587) مدعاة لفخر الإنجليز, ووسيلة لزيادة ثروته الشخصية. وقد أبحر من إنجلترا عام1577 بدعم ومباركة الملكة, إلي مضيق ماجيلان ثم الساحل الغربي لأمريكا الشمالية ناهبا في طريقه كل المستوطنات الإسبانية. ثم أبحر عبر المحيط الباسيفيكي إلي جزر التوابل فرأس الرجاء الصالح عائدا إلي إنجلترا, حيث أنعمت عليه الملكة بلقب سير, وكان نصيبها من غنائم رحلته263 ألف جنيه إسترليني, وبلغت أرباح الممولين لرحلته كمشروع تجاري أربعة آلاف في المئة! كانت حملات القراصنة الخصوصي(Privateer) تعتبر نشاطا تجاريا يموله التجار والمستثمرون, ويعملون بمباركة الحكومات في زمن الحرب, فيعاملون معاملة أسري الحرب عند أسرهم, وكمجرمين إذا قبض عليهم في زمن السلم. وكان قائد سفينة القراصنة ينتخبه ويعزله البحارة بالاقتراع الحر. وراجت في ذلك العصر الحكايات الشعبية عن هؤلاء القراصنة الشجعان الخطرين الذين يبحرون فيما وراء البحار لإحراز الثروة والمجد, وذاعت شهرة أوغاد مثل ذي اللحية السوداء وكابتن كيد وكابتن أفري وكابتن مورجان وغيرهم كأبطال شعبيين( كنجوم الغناء حاليا) تخلد الأفلام سيرهم حتي الآن. واشتبكت الشهرة الأسطورية والحقيقة التاريخية تماما في ذلك العصر الذهبي للقرصنة, في كتب التاريخ وفي الإدراك الجمعي للثقافة الأنجلوأمريكية. وبتحالف إنجلتراوهولندا البروتستانتيتين ضد فرنسا وأسبانيا الكاثوليكيتين في الحرب التي أعلنها ويليام الثالث ملك إنجلترا عام1689 اكتسبت القرصنة ضدهما مزيدا من الشرعية كحرب دينية مقدسة. وبعد معاهدات السلام بين المتحاربين عام1697 تحولت القرصنة الخصوصي لنشاط خارج عن القانون( إذا كان لهذا الفرق قيمة فعلية) وعاد نشاطا قانونيا عندما أعلنت الحرب ثانية ضد إسبانيا بعد أربعين سنة. وكانت رواتب البحارة تنخفض في زمن السلم, رغم اعتيادهم علي الغنائم الثمينة المنهوبة في نشاط القرصنة. وهكذا أدي التنافس القومي والديني والرغبة في الهروب من التمييز الطبقي وتحقيق الربح المادي وأيضا جاذبية نشاط القرصنة في الثقافة الشعبية بالكثيرين إلي امتهان مهنة القرصنة بصفة دائمة, فيما عرف بالعصر الذهبي للقرصنة. ورغم أن نشاط القرصنة شمل العالم كله في ذلك الوقت, إلا أنه كان مركزا في منطقة الكاريبي وإفريقيا اللتين كانتا محور حركة سفن التجارة. ولهذا رحبت كثير من مستعمرات الكاريبي بحماية كبار القراصنة في المناطق التي كان الأسطول الإمبراطوري يعجز عن توفيرها فيها. ومع حلول عشرينيات القرن الثامن عشر, امتد نفوذ الأسطول الإمبراطوري إلي مناطق كثيرة وبذلت الجهود لوضع القراصنة تحت السيطرة, فتحول كثير منهم إلي المحيط الهندي والباسيفيكي. ومع تطور مستعمرات الكاريبي وتحولها من قواعد استيطانية تستهدف الإغارة علي ما حولها, إلي مراكز كبري لإنتاج السكر والقطن وغيرهما من المحاصيل باستخدام العبيد,وتنتج ثرواتها بغير طريق الإغارة علي الآخرين, بدأ القراصنة يهجرون مهنتهم إلي الزراعة, ويطردون من مناطقهم, وهكذا انتهي العصر الذهبي للقرصنة. كان هنري مورجان(1635 1688) من أشهر القراصنة الإنجليز وأشدهم قسوة ووحشية. وبتأييد إنجلترا غير المعلن, أضعفت هجماته الجريئة سيطرة الإسبان علي مستعمراتهم, وأكسبته لقب فارس, رغم أنه في رحلة العودة من بعض جولاته ترك أتباعه وانطلق بالغنيمة كلها! ولأنه أغار علي بنما بعد توقيع معاهدة السلام مع إسبانيا, فقد القي القبض عليه. ومع تدهور العلاقة بينهما مرة أخري, أطلق سراحه وعين حاكما لجامايكا. واشتهر مورجان بشن غاراته بانضباط ونظام عسكري ودون رحمة, وعاش في جامايكا حتي وفاته مزارعا يحظي بالاحترام. وقد مكنت الشعبية الجارفة للقرصنة مورجان من اختراق النظام الطبقي الإنجليزي الجامد, حيث استخدام الثروة التي كونها من القرصنة للارتقاء من الطبقات الدنيا في المجتمع إلي طبقاته العليا. كما تحول ويليام كيد من بحار بسيط إلي قرصان خصوصي حتي أصبح صاحب ثروة ونفوذ سياسي كبير في حزب المحافظين القديم في لندن. وتروي إيلين براون في كتابها مصيدة الديون كيف احتفل العاملون في ووال ستريت بأرباحهم من انهيار عملة الأرجنتين التي استهدفوها بالمضاربة( مما حول الملايين هناك إلي معدمين بؤساء) بالضحكات واحتساء الشامبانيا! تاريخ تليد وقيم رفيعة وحقوق مؤكدة للأقوياء, لايزال الكثير منها متوارثا حتي عصرنا الحالي! لمزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم