انطلق الاوروبيون في العالم بفكرهم الفردي العنصري,معتبرين أنفسهم أعلي صور التطور الدارويني لسلالة الإنسان, وغيرهم أقل تطورا, مستهدفين غزو الآخرين ونهب ثرواتهم وفتح الأسواق وتراكم الثروة, متجردين في نشاطهم الرأسمالي من قيود الخلق والدين حسب فكر التنوير. وكان فتح المستعمرات وحراستها واستغلالها يتم بصورة تعاونية بترخيص ملكي خاص لشركات تنشأ خصيصا لهذا الغرض تمولها النخب ويتقاسمون غنائمها حسب قواعد التجارة, كشركة الهند الشرقية التي كان لها جيش قوامه150 ألف جندي وظلت متحكمة في الهند قرابة ثلاثة قرون.وكما حدث في العالم الجديد وفي جنوب آسيا.كما أصبحت القرصنه واختطاف البشر واستعبادهم أنشطة شرعية وشعبية. وكانت الحدود دائما ملتبسة بين النشاط التعاوني( الشركات)لتوسيع الامبراطوريات وفتح الأسواق وحراستها واستنزافها من ناحية, ونشاط نهب الآخرين بكل الوسائل بما فيها القرصنة والاستعباد والإبادة من ناحية اخري.وطوال عصور الامبراطوريات الغربية, ظل الاشتباك بين المشروعات الامبراطوية للسيطرة وامتلاك المستعمرات ومصادر الخامات والعمالة,وبين المشروعات الخاصة التجارية للأفراد والشركات باقيا ومعمولا به. وتفوقت امبراطورية التمويل البريطانية علي منافسيها الأوروبيين في فتح المستعمرات وتكوين اسطول ضخم بحسب طبيعتها كجزيرة, وأيضا في تحقيق تقدم صناعي كبير واكب الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.ووجدت النخب الانجليزية( وبعدها الأمريكية) أن أنسب سياسة تضمن لها استمرار التفوق هي الدعوةلسياسة تحرير التجارة, بحيث تفتح الاسواق وتلغي الجمارك فلاتستطيع دولة أقل منها أن تلحق بها, وذلك لقدرة الصناعة الانجليزية علي استخدام الخامات الرخيصة من المستعمرات, وتشغيلها بالمصانع الانجليزية المتقدمة, ونقلها بالاساطيل التي تسير بأمان في حراسة السفن الحربية البريطانية, في حين يتعرض غيرها لهجمات القرصنة التي تغمض عنها أعين الرضا والتشجيع الامبراطورية, بل تقوم بترتيب هجماتها. وقد أطلق المؤرخون والدارسون علي سياسة التجارة الحرة سياسة دفع السلم بعد الصعود عليه حتي لايصعد عليه الآخرون. ولم يكن هناك مانع أيديولوجي أو خلقي من زراعة وتجارة المخدرات, بل كانت متعددة المنافع. فهي نشاط مربح يسهم في ضبط الميزان التجاري, ومفيد في إضعاف حيويةالعدو, ويمكن إستخدام عوائده لتمويل الاستخبارات وتسليح الفرق المتناحرة في مناطق النفوذ والمستعمرات فتكون الفائدة مضاعفة! وهو أيضا مفيد في إلهاء الطبقات الدنياخصوصا السود والملونين في الغرب لتبقي مستسلمة للنظام. ولقد حاربت انجلترا الصين حربين( ومعها فرنسا وقبلهما هولندا في أندونيسيا) في القرن التاسع عشر لفتح أسواقها عنوة لتجارة الافيون الذي تنتجه بريطانيا في الهند لدفع مقابل الشاي الصيني وضبط الميزان التجاري بينهما! كما أعادت أمريكا زراعة الأفيون في أفغانستان بعد أن قضت عليها طالبان.فكان هذا دليلا علي امتزاج أفكار التنوير والرأسمالية والاقتصادوالدراوينية الاجتماعية في الفكر السياسي الامبراطوري الغربي. وهكذا اتفقت مصلحة الجميع, رجال المال والأعمال والساسة والاستخبارات والعصابات علي فائدة وأهمية هذا النشاط. وظهر نشاط آخر هائل الحجم والأرباح, لغسيل أموال تلك التجارة الغريبة وإخفاء مصدرها عن الأعين, حتي أنه يقال إن كل بنوك العالم الكبري مشتركة, بل وتتقاتل علي نصيب في هذا النشاط. وتقدر الأموال المتداولة فيه سنويا في تسعينيات القرن الماضي بخمسمائة مليار دولارعلي الأقل, وهو رقم يتجاوز حجم نشاط كل شركات الكمبيوتر والمعلومات في العالم في أوج عزها. واستقرت السياسة الإمبراطورية الغربية دائما علي دعائم هي البنوك والحكومة والساسة ورجال الصناعة والأعمال والجيوش والاستخبارات وعلوم السيطرة السياسية والاقتصادية والإعلام وصناعة الرأي العام ومؤسسات الجريمة المنظمة.فللتغلب علي مشاكل إدارة المستعمرات البعيدة والشاسعة والمزدحمة بسكانها, لجأت الإمبراطوريات الأوروبية والشركات الحاصلة علي امتياز إدارة المستعمرات للأعمال السرية للإيقاع بين الخصوم والتفريق بين السكان المقاومين للسيطرة. ومع الوقت أصبح هذا العمل منظما ومؤسسيا. وتطور بالتدريج لمؤسسات المخابرات والإعلام والتعليم التي أصبحت أعمالها متشابكة تماما مع أعمال الشركات والبعثات الدبلوماسية. وانهمكت الشركات في صراع سياسي عجيب في أمريكا في القرن التاسع عشر, استخدمت فيه كل الوسائل لإصدار قانون يعطيها حق الأفراد الدستوري في حرية التعبير! ونالت مرادها عام.1886 وأصبح من حق الشركات قانونا الاتصال بالساسة وأعضاء الكونجرس لشرح وجهة نظرها وإقناعهم بطلباتها. وأصبح للشركات بحكم إمكانياتها المادية الهائلة بالقياس بالأفراد الطبيعيين, تأثير هائل علي قرارات الإدارة الأمريكية, ظل يتزايد حتي قال رئيس شركة جنرال موتورز في عام1952 أن مصلحة جنرال موتورز هي مصلحة أمريكا.ومع الوقت, استمر تطور الشركات وتضخمهاوأصبحت بتحالفها الطبيعي مع المؤسسات المالية والحكومات ورجال الجيش والاستخبارات قوة هائلة, تشعل الحروب وتستولي علي الثروات لزيادة ثرواتها وأعمالها, حتي أصبحنا اليوم في عالم أكبر مائة كيان فيه يتضمن51 شركة و49 دولة!. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم