كان الاعتقاد أن القرصنة هى من تراث الماضى، وأنها اندثرت إلى غير رجعة، وإذ بالأخبار تنبؤنا بأن القراصنة قد عادوا من جديد أمام السواحل الصومالية، وأنهم يعملون بنجاح كبير ليس فقط على مداخل جنوب البحر الأحمر وإنما على اتساع المحيط الهندى وبحر العرب. فهل صحيح أن القرصنة قد عادت من جديد، أم أنها فى - الحقيقة - لم تفارقنا أبداً، وأن القرصنة المعاصرة تجاوز الأعمال البدائية وأحياناً البربرية التى يمارسها القراصنة من الصوماليين وأمثالهم؟! فالقرصنة المعاصرة أكثر تهذيباً ورقة لكنها أيضاً أشد ضراوة وفتكاً، ولا تعدو أعمال القراصنة من الصوماليين وأجدادهم من العرب أن تكون مجرد «لعب أطفال» بالمقارنة بأعمال القراصنة الجدد والذين لا يختبئون فى البحار والجزر وإنما يعيشون فى وسط المدينة وفى أرقى المنتجعات. ولنلق نظرة على كل من أولئك وهؤلاء من القراصنة القدامى والجدد. يذهب بعض المؤرخين الأوروبيين إلى أن العرب، ورغم ما لديهم من باع طويل فى التجارة، فإن جل اهتمامهم كان مركزاً على التجارة البرية عبر القوافل، أما ركوب البحر للتجارة فقد كان غريباً عليهم. وهكذا يدعى هؤلاء المؤرخون أن العرب كانوا على حذر وخوف كبيرين من ركوب البحر فهم لا يأتمنونه. ولم يعرف بالتالى، عنهم استكشافات بحرية واسعة وبعيدة. ولم يمنع ذلك أن تكون لهم معرفة عميقة بسواحل البحار المحيطة بهم، فهم يعرفون خباياها ومسالكها، ولكنها على أي حال معرفة «محلية» وقريبة من أوطانهم. ومن هذا المنطلق كتب المؤرخ الجغرافى الفرنسى بلانول «Xavier de Planhol»، مؤلفاً ضخماً عن «الإسلام والبحر»، يدعى فيه أن الحضارة العربية والإسلامية، وعلى عكس الحضارة الأوروبية، كانت حضارة برية لا تميل إلى ركوب البحر إلا لماماً. ولكن ذلك لم يمنع أن عرف العرب السواحل القريبة منهم معرفة عميقة وتفصيلية على نحو لم ينافسهم فيه أحد. ومن هنا فقد كانت معرفة «ابن ماجد» بأسرار وخبايا البحار فى منطقة بحر العرب والمحيط الهندى أساسية، وهى التى مكنت البرتغاليين بقيادة فاسكو داجاما من الوصول إلى الهند بحراً. وهكذا أصبحت البرتغال - بدعم الأمير هنرى الملاح - أكبر قوة بحرية ثم من بعدها سار الأسبان على الدرب نفسه، فى حين ظل اهتمام التجار العرب مقصوراً على التجارة البرية، وظلت سيطرتهم البحرية مقصوراً على السواحل الملاصقة دون بناء أساطيل كبيرة لتجوب البحار العميقة. واقتصر العرب - غالباً - على الغزوات والإغارة على التجارة البحرية قرب سواحلهم، ومن هنا بدأ تاريخهم مع القرصنة. والمنطقة المحيطة بالصومال موطن القراصنة الجديد ليست بعيدة عن جنوب شرق الجزيرة العربية المعروفة باسم «ساحل القراصنة» pirates Coast، حيث كان القراصنة يتربصون بالتجارة (غالباً البرتغالية) إلى أن تمكنت البحرية البريطانية من السيطرة عليهم فى بداية القرن التاسع عشر وفرض معاهدة أو هدنة تمنعهم من القيام بأعمال القرصنة، وبذا أصبح اسم المنطقة «ساحل الهدنة» Trucial Coast، إشارة إلى هذه المعاهدة التى فرضت عليهم هدنة بعدم الإغارة على التجارة، وظل هذا الاسم قائماً حتى إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة. وإذا كان العرب قد سيطروا - من خلال القرصنة - على مرور التجارة فى الجنوب الشرقى قرب بحر العرب والمحيط الهندى، فإن إخوانهم فى الشمال على سواحل البحر الأبيض لشمال أفريقيا كانوا يهددون بدورهم تجارة الأوروبيين ويفرضون عليها الإتاوات؛ مما أدى إلى دخول الولاياتالمتحدة معهم فى أول حرب لها بعد الاستقلال، وهى المعروفة بحرب البرابرة Barbary War فى بداية القرن التاسع عشر. وهكذا فإن ظهور القراصنة الجدد على سواحل الصومال ليس بالأمر الغريب، فللمنطقة تاريخ سابق فى هذه الممارسات. ولكن هل القرصنة هى أمر خاص بالمنطقة أم القرصنة هى ظاهرة عالمية ومستمرة؟ ومن هو القرصان؟ القرصان فيما يبدو هو شخص - أو جماعة - يرى تيار التجارة، وبالتالى الثروة، تمر أمام عينيه فيقرر الانقضاض عليها عن طريق «الغزوة» أو «الإغارة» للحصول على نصيب منها. فهو يتطلع للحصول على نصيب من الثروة، ولكنه يريد أن يحصل على هذه الغنيمة دون مشاركة حقيقية فى توليد تلك الثروة. فهو يترك الآخرين للقيام بكل ما يلزم حتى تتولد الثروة، وبعد أن تحمل هؤلاء الآخرون جميع المشاق ومواجهة جميع المخاطر، وظهرت الثروة فى شكل شحنة تجارية فى الطريق، ينقض عليها القرصان مطالباً بنصيب له. هذه هى أعمال القرصنة، وهى أعمال طفيلية تعيش على جهود الآخرين. فالقرصنة هى فى الواقع نوع من السرقة، والقرصان والحال كذلك يعتمد على التجارة وازدهارها، فهو ليس عدواً لها بل إنه يتعيش من ورائها، لذلك فهو يكتفى عادة «بإتاوة»، ويترك التجارة فى سبيلها، بل إنه يحميها أيضاً. فالقرصان مثل «الفتوة» يهدد الأمن ويحميه فى الوقت نفسه ويحصل على «إتاوة». ومع تقدم العلاقات الدولية وازدهار التجارة العالمية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أصبحت قضايا أمن الطرق والمواصلات الدولية من أهم مسؤوليات الحكومات، التى أصبحت تراقب شواطئها، فضلاً عن أن مختلف أساطيل الدول التجارية الكبرى تجوب البحار والمحيطات، وهكذا اختفت القرصنة أو كادت، وأصبحت التجارة الدولية تدفع رسوماً وضرائب للحكومات التى تحميها بدلاً من القرصنة. وبذلك اختفت القرصنة من قاموسنا الحديث حتى سمعنا عنها أخيراً أنها عادت إلى شواطئ الصومال. ولكن هل صحيح أن القرصنة قد اختفت تماماً أم أننا بصدد أشكال أخرى للقرصنة أكثر تهذيباً ونعومة وإن لم تكن أقل قسوة وضراوة؟ هل الأزمة المالية العالمية الحالية نتيجة سوء حظ أم سوء إدارة أم أن وراءها، فى الحقيقة، قراصنة جدداً أشد مراسا وعنفواناً؟ الشرط الأساسى لقيام القرصنة هو وجود الثروة، فهذا هو مبرر وجودها. فالقرصان ليس منتجاً للثروة، وإنما هو طفيلى يبحث عن الثروة وينقض عليها للحصول على نصيبه أو إتاوته. علينا أن نتذكر أن القرصان ليس لص منازل يسطو على الأسطح لسرقة الغسيل المنشور، وليس نشالاً يشق الجيوب فى الأتوبيسات، ولكنه لص محترف من أنصار الإنتاج الكبير. فهو ينتظر، حتى تتجمع الثروة فى شكل «قافلة برية» أو «رحلة بحرية»، فيقطع عليها الطريق للحصول على إتاوته. ولكن البضائع لم تعد هى المصدر الوحيد ولا حتى المصدر الأساسى للثروة المعاصرة، فضلاً عن أن العبث مع البضائع أو التعرض لها يثير الانتباه ويعكر الأمن والهدوء وهو ما تحرص الحكومات على حمايته. ولذلك فإنه من الغباء أن يلجأ القرصان المعاصر إلى التربص بهذه البضائع خاصة أن الثروة الحقيقية هى فى مكان آخر، ومن الممكن الانقضاض عليها والحصول على مغانم أكبر دون أن يلحظ أحد شيئاً. فأين هذه الثروة الجديدة؟ فالقرصان الجديد لابد وأن يكون قريباً منها. لعل أهم ما يميز الاقتصاد المعاصر عن الاقتصادات البدائية هو «تراكم الثروة» خاصة فى شكل أدوات الإنتاج. فالمجتمعات السابقة كانت مجتمعات فقيرة تعتمد على مصادر للثروة قليلة ومحدودة أهمها الأرض. ولم تقتصر هذه المجتمعات على نحافة أدوات الإنتاج وقلتها بل إن التعامل فيها كان أيضاً محدوداً. فالملكيات تنتقل عادة بالوراثة أو بالحروب وقلما كان يتم التعامل فيها عن طريق السوق. فالسوق كانت مقصورة تقريباً على التعامل فى «السلع» فيما جاوز حاجات المنتج وعائلته، فهو ينتج أساساً لإشباع عائلته أو العمل فى مزرعة مالكه. ولم يعد المجتمع الحديث على هذه الشاكلة فمن ناحية تراكمت الثروات وزادت أهمية أدوات الإنتاج ورؤوس الأموال الإنتاجية خاصة منذ الثورة الصناعية، كذلك لم يقتصر التداول فى الأسواق على «السلع» بل جاوزها إلى التعامل فى الثروات و«الأصول المالية». فمع تراكم الثروة وتعدد مظاهر أدوات الإنتاج الحديثة بدأت فكرة «الأصول المالية» فى الظهور والتوسع. والأصول المالية ليست سلعاً تشبع الحاجات، وإنما هى حقوق أو مطالبات على الموارد الاقتصادية خاصة على أدوات الإنتاج. ومن أظهر هذه الأصول المالية هو فكرة حق الملكية التى سمحت بتداول الموارد. ولكن الأمر توسع مع ظهور مفهوم الشركة وظهور الأسهم والتى تتبادل بدلاً من موارد الشركة ذاتها، ولم تلبث الديون أن أصبحت بدورها قابلة للتداول (السندات). وهكذا نشأت أسواق لتبادل الأصول المالية تماماً كالأسواق التى تتبادلها السلع. والفارق بين الأمرين هو أن «السلع» لا تبقى دائماً فى السوق، فهى قد أنتجت لكى تستخدم ولذلك ما تلبث أن تخرج نهائياً من السوق إلى المستفيد النهائى، وذلك بعكس «الأصول المالية» التى تستمر فى التداول فى الأسواق، فالأصول المالية تدخل السوق لكى تبقى فيها. ومن هنا أصبحت هذه الأصول المالية هى «الثروة الاقتصادية» الحقيقية. وهكذا، فالاقتصاد المعاصر يعرف نوعين من الأسواق: أسواق السلع واسواق الأصول المالية أو الأسواق المالية. أما أسواق السلع فهى لا تختلف عن أسواق السلع القديمة باستثناء أنها أصبحت أكثر تنوعاً وأكبر حجماً. وأما الأسواق المالية فهى حديثة نسبياً، وفيها تتبادل الأصول المالية التى ترمز للموارد الاقتصادية الإنتاجية، فهى سوق للثروة. والتعامل فى هذه السوق المالية لا يتطلب انتقالاً مادياً لعناصر الثروة وإنما مجرد قيود محاسبية فى دفاتر الشركات أو فى البورصات أو مراكز الشهر العقارى. فالثروات تنتقل من يد إلى أخرى بشكل معنوى غير محسوس، وبهذا الانتقال تنتقل الثروات من مالك إلى مالك جديد دون أن يبدو أن شيئاً قد حدث فى العالم المادى المحسوس. فالأسواق المالية هى أشبه بالأسواق الافتراضية Virtual Markets، تنتقل فيها ملكية الأصول دون إزعاج أو ضوضاء بمجرد إجراء قيود محاسبية، ولذلك لم يكن غريباً أن تستمر السرقات الكبرى فى مجال الأصول المالية مجهولة لفترات طويلة دون أن يشعر بها أحد، فهذه السرقة -وهى أكبر حجماً وقيمة- فإنها أيضاً تكاد تمر بلا ألم أو ضوضاء. إذا كان القرصان هو من يقرر «الإغارة» أو «الغزوة» على مظاهر الثروة القائمة التى لم يشارك فى تكوينها، فإن المجال المناسب لمباشرة نشاط القرصان «المعاصر» هو هذه «الأسواق المالية»، فهى أسواق الثروات، وما يتم فيها من «غارة» أو «غزوة» يتم بهدوء وبلا جلبة ولا دماء، وبالتالى تكون المخاطرة فيها أقل والغنيمة أكبر. وإذا كان القرصان القديم يفتعل لنفسه دوراً بالادعاء بتوفير الحماية والأمن للتجارة العابرة للحصول على «إتاوة»، فإن على القرصان الجديد أن يفتعل لنفسه مبرراً لاقتطاع «إتاوته»، وهى ما يطلق عليه اسماً حضارياً، فهو «عمولة» أو «حوافز» مقابل خبرته «العلمية» بالأسواق، وهو عادة بالملايين إذ لم تكن بمئات الملايين من الدولارات، ولا يتم الغزو فى أعالى البحار وإنما فى المكاتب الأنيقة والمكيفة. لقد جاءت الأزمة المالية العالمية لتكشف المستور وتبين ألاعيب القراصنة الجدد الذين استولوا على ثروات الأسواق المالية، واستخدموها لخلق كيانات وهمية أدت إلى تضخم الأصول المالية بما يجاوز قدرة الاقتصاد الحقيقى، مما أدى فى النهاية إلى انفجار الفقاعة المالية وضاعت ثروات العديد من الأفراد والمؤسسات، بعد أن حصل هؤلاء القراصنة على إتاواتهم وكثير منهم هرب بها قبل انكشاف «الملعوب». ليس هنا مجال تفسير أسباب وقوع الأزمة، حيث تناولت ذلك فى مكان آخر، ولكن يكفى أن نذكر أن السبب الأساسى وراء الأزمة هو الاندفاع المجنون فى زيادة حجم الأصول المالية التى تمثل المديونية، أما أسباب هذا التوسع فى إصدارات هذه الأصول فهو الإغراء الهائل بما توفره من دخول خيالية لكبار العاملين فى المؤسسات المالية عند إصدار هذه الأصول وتداولها، ويكفى أن نعطى الأمثلة لما حصل عليه هؤلاء المدبرون فى شكل عمولات وحوافز ورواتب. نعرف أن مؤسسات مثل بير استرنز Bear Stearns وجولدمان ساكس Goldman Sachs، وليمان براذرز Lehman Brothers وميريل لينش Merrill Lynch ومورجان ستانلى Morgan Stanley تمثل أكبر خمس مؤسسات مالية فى سوق نيويورك، وقد حصل المديرون فى هذه الشركات على مكافآت وحوافز عن عام 2007 قبل الأزمة مباشرة، بلغ حجمها 39 مليار دولار، فى حين أن المساهمين فى أسهم هذه المؤسسات نفسها خسروا فى السنوات الخمس السابقة ما يعادل 74 مليار دولار، فملاك الشركة يخسرون والمديرون يحصلون الحوافز، وعندما اضطر الرئيس التنفيذى لميريل لنش (أونيل) إلى الاستقالة بعد أن خسرت شركته أكثر من 14 مليار دولار، فقد رؤى تعويضه «بحزمة» مالية عند اعتزاله بلغت قيمتها 58 مليون دولار. أما ليمان براذرز التى فجرت الأزمة عندما لم تنجح الحكومة الأمريكية فى حمايتها واضطرت الشركة إلى إشهار إفلاسها، فقد أثارت العديد من الانتقادات المريرة على مكافآت وحوافز المديرين رغم الكوارث المالية التى أصابت العملاء فيها، فعندما اشترى بنك باركليز الإنجليزى فرع ليمان فى نيويورك، تضمنت الصفقة مبلغ 2.5 مليار دولار قيمة حوافز لتعويض المديرين فى الشركة المفلسة. أما رئيس هذه المؤسسة المفلسة (ريتشارد فولد Fuld) فقد أبلغ الكونجرس أن قيمة ما حصل عليه من رواتب وحوافز خلال السنوات الثمانى السابقة على إفلاس الشركة، هو مبلغ 484 مليون دولار أى بمعدل 60 مليون دولار فى السنة، بل إنه حصل فى مارس 2008 قبل الإفلاس بشهور على حوافز قدرها 22 مليون دولار. وبعد أن أفلست الشركة وضاعت حقوق المساهمين والدائنين لها، والطريف أنه باع قصره -منذ أسابيع- فى فلوريدا فى شهر يناير لهذا العام، بمبلغ مائة دولار فقط لزوجته، وكان ثمنه عند الشراء منذ ثمانية أعوام 13.6 مليون دولار (تهريباً للثروة وليس بيعاً)، وبعد أن واجهت ميريل لنش صعوبات مالية واضطر بنك أولف أمريكا لشرائها بدعم من الخزانة الأمريكية (دافعى الضرائب)، فقد استمر جون ثين Thain رئيساً تنفيذياً لميريل لنش. وكان أول عمل له فى منصبه الجديد هو إعادة تأثيث مكتبه بتكاليف بلغت أكثر من مليون دولار، ثم استصدر قراراً من مجلس الإدارة بتخصيص مبلغ 4 مليارات دولار حوافز للعاملين بالشركة، له منها 35 مليون دولار، مما اضطر رئيس بنك أوف أمريكا إلى فصله من عمله، ونظراً لأن عام 2008 كان عام الكوارث المالية بالنسبة للمؤسسات المالية فى وول ستريت، فقد قبل المديرون تخفيض حوافزهم إلى 18.4 مليار دولار فقط. وهكذا فإذا كنا نتحدث عن القراصنة الجدد، فإننا نشير إلى هذه الفئة الجديدة من الغزاة على الثروات المالية، الذين لم يقتصروا على اقتطاع جزء كبير من الثروة القائمة، بل أوقعوا العالم فى مأزق شديد، وليس هناك من شك فى أن قراصنة الصومال الغلابة لابد وأن يشعروا بالخجل من أنفسهم، لأن ما يقومون به أمر «تافه» مقارنة بالقراصنة الجدد الحقيقيين الذين يجلسون على مقاعد مجالس إدارة المؤسسات المالية حيث يخصون أنفسهم بإتاوات باسم «مكافآت وحوافز» لا تبررها أى مساهمات جادة فى العملية الإنتاجية أو فى زيادة الثروة المالية. المثير أن القراصنة الجدد لا يكتفون بالمبالغة فى رواتبهم وحوافزهم بل إن بعضهم يلجأ إلى أساليب احتيالية بالنصب والاحتيال لسرقة بلايين الدولارات من المستثمرين الأبرياء، ولعل أشهرهم مادوف Madoff الأمريكى الذى بدد صندوقاً بقيمة 50 مليار دولار وهو رقم ما يجاوز -غالباً- كل ما حققه جميع القراصنة القدامى عبر التاريخ فى كل العصور وفى كل الأماكن، وكان عملاؤه هم أكبر البنوك الأمريكية والأوروبية وزبائنها فضلاً عن عدد غير قليل من الجمعيات الخيرية. فما الفارق بين القرصان القديم والقرصان المعاصر؟ حقاً، هناك أوجه شبه بين الشخصين، كل منهما ينقض على «الثروة» ويحصل على نصيب غير مبرر، لكن إلى جانب أوجه الشبه هذه هناك اختلافات أيضاً، الفارق الأساسى هو أن القرصان القديم كان يعمل -كالحرفى- فى مجال محلى محدود، فى حين أن القرصان المعاصر هو ابن العولمة يعمل على اتساع العالم باقتطاع نصيبه من المدخرين على المستوى العالمى. والقرصان القديم يسطو على الثروة من السلع أثناء عبورها فى مسالك التجارة، أما القرصان المعاصر فإنه تجاوز أسواق «السلع» كلية ويركز اهتمامه على أسواق «الأصول المالية»، كذلك فإن «القرصان المعاصر» لا يقتصر على أن يأخذ نسبة من «الثروة» القائمة، بل إنه يعمل على افتعال هذه «الثروة الوهمية». فالأصول المالية هى مجرد «وعود» بالدفع فى المستقبل، ووظيفة المؤسسات المالية من بنوك وشركات تأمين وصناديق استثمارات وبورصات وهيئات تقدير الجدارة الائتمانية وسماسرة ومحللين ماليين وغيرهم هى التعامل فى «الأصول المالية» إصداراً واكتتاباً وبيعاً وشراءً ورهناً وغير ذلك من أشكال التعامل فى هذه الأصول المالية، وأصبح القراصنة الجدد فى هذه المؤسسات هم المنتج الرئيسى للثروات المالية الوهمية، وترجع الأزمة المالية العالمية الحالية إلى ما عرفته الأسواق المالية من إسراف فى إصدار هذه الأصول المالية، وأحياناً الغش والاحتيال بإصدار أصول مالية وهمية تتداول فى الأسواق بأسماء هذه المؤسسات المالية «العريقة». كان المشهور أن التوازن والانضباط فى الأسواق المالية يتحققان عن طريق باعثى الخوف Fear والجشع Greed عند العاملين فيها، لكن يبدو من خلال تجربة ربع القرن الأخير أن باعثى «الخوف» و«الجشع» قد فقدا فاعليتهما، فالخوف ضعف، وكاد أن يتلاشى دوره بالنظر إلى ضعف الرقابة والإشراف من أجهزة الدولة، فى حين أن الجشع قد استشرى بحيث أصبح وحده هو المحرك لسلوك العاملين فى المؤسسات المالية، فقد اكتشف هؤلاء العاملون أن أسواق الأصول المالية هى منجم ذهب لا ينفد، وأن بإمكانهم عن طريق إصدار «أصول مالية» جديدة ومتنوعة أن يحققوا أرباحاً خيالية، فتوسعوا فى ذلك بهوس حتى كاد النظام الاقتصادى العالمى كله يغرق. كم كان كارل ماركس حسن النية حين اعتقد أن الرأسماليين يستغلون العمال بحرمانهم من «فائض القيمة»، فإذا القراصنة الجدد لم يتركوا أحداً، واتجهوا إلى الثروة المالية المتاحة للجميع، لا فرق بين مدخرات عمال أو موظفين أو أغنياء أو فقراء، وقرروا أن يقتطعوا نصيبهم من كل مظاهر هذه الثروة المالية أينما كان أصحابها فى نيويورك أو باريس أو هونج كونج أو دبى. ولم يقتصر الأمر على إغارة القراصنة الجدد على الثروات المالية، بل إنهم أصبحوا يهددون المستقبل الاقتصادى نفسه ليس فقط بافتعال أصول مالية وهمية، وإنما بجذب خيرة الشباب للعمل فى المجالات المالية بعيداً عن مجالات التقدم العلمى والتكنولوجى الذى هو أساس كل تقدم، فقد لوحظ أن خيرة الشباب فى أمريكا يتركون دراسات الهندسة والفيزياء والكيمياء والطب والزراعة وغيرها مما يغير وجه الحياة، لكى يتجهوا إلى الحصول على شهادات الإدارة المالية، حيث أصبحت شهادة MBA هى جواز المرور للحصول على الرواتب والمكافآت المجزية. فهل آن الأوان لإعادة النظر فى هذه الحوافز والمكافآت الصارخة التى كانت الدافع الأول للانحراف والمبالغة فى التوسع فى إصدار هذه الأصول المالية بلا حساب، وبالتالى تهديد الاستقرار المالى والاقتصادى العالمى، يبدو أن العالم يتجه حالياً إلى الأخذ بذلك، فالرئيس الأمريكى الجديد -أوباما- بدأ بفرض حد أقصى لما يمنح من رواتب ومكافآت للمديرين التنفيذيين فى الشركات التى ستحصل على دعم حكومى. ومن الغريب أن عدوى الرواتب والحوافز المبالغ فيها قد انتقلت إلى بلادنا، فرواتب العاملين فى البنوك والمؤسسات المالية المصرية تجاوز عشرات المرات وأحياناً أكثر، بالمقارنة بمن يعمل فى مجالات الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والصيدلة والزراعة وغيرها من مجالات الإنتاج الحقيقى التى تتيح زيادة حقيقية وملموسة فى حياة البشر. وأخيراً.. إن الدرس المستفاد ليس فى ضرر المؤسسات المالية أو عدم جدوى الأسواق المالية، فالحقيقة أنها تقدم خدمات جليلة للاقتصاد، لكن الخطأ هو فى المبالغة إلى حد السفه والجنون وانعدام الرقابة والمساءلة على أنشطتها ومكافآت العاملين فيها، فالاقتصاد المالى بمؤسساته وأدواته تطور مهم ومفيد فى الحياة الاقتصادية، ولا يمكن الاستغناء عنه، لكنه خرج عن الطروق وجاوز الحدود مما يتطلب إعادة النظر فيه وإخضاعه لمزيد من الرقابة والإشراف.. والله أعلم.