لم يعد العالم ينتج كتابًا على شاكلة صنع الله إبراهيم، فقد امتلأ عن آخره بكتاب مُروَّضين، أو على الأقل مأمونى الجانب، فى عصر يلهث فيه الجميع تقريبًا خلف الأضواء و«الترند». كان هذا أول ما خطر ببالى حين وصلنى خبر رحيل الروائى الكبير صنع الله إبراهيم، ثم سرعان ما أعدت النظر فى هذا الخاطر، لأنه حتى فى عصره مثَّل حالة خاصة، فقد كان نسيجاً وحده، ليس فقط لجهة المشاغبة والتمرد والزهد فى ما يلهث الآخرون خلفه، لكن وبالأساس لأنه فى خضم هذا، ظل محافظًا على خفة ظل نادرة وبعد عن التكلف والادعاء وروح طفولية لم ينل منها الزمن. ربما تكون تلك الروح فى اقترانها مع ميله للمشاكسة هى ما حافظ على طزاجة إبداعه ووسمه بالتجدد والاختلاف. حين أتكلم عن صاحب «ذات»، لا يمكن للإنسان الذى عرفته أن ينفصل عن المبدع الذى قرأت أعماله، ولا يمكن للطالبة الجامعية الطامحة إلى احتراف الكتابة أن تنفصل عن القارئة النهمة التى وجدت نفسها، مع انتقالها إلى القاهرة، قد وطأت، مثل أليس، أرضًا للعجائب. كنتُ قد اكتشفت محمد البساطى وإبراهيم أصلان وإدوار الخراط وبهاء طاهر وآخرين خلال دراستى الثانوية، لكن لقائى كقارئة بصنع الله إبراهيم تأخر قليلًا، لحسن الحظ. حدث هذا مع صدور روايته «شرف». فى ذلك الوقت، لمست لأول مرة معنى أن يكون صدور عمل أدبى ما حدثًا قرائيًا، فى غير حاجة إلى ترويج أو حملات دعائية، معنى أن يصبح الكاتب نجمًا عبر نصه وحده. سحرتنى تلك العلاقة بين صنع الله وقرائه العديدين، بعدما رأيت روايته الصادرة لتوها فى أياديهم، يتلقفونها كما يتلقف الجوعى رغيف خبز ساخن. صادفتنى الرواية مع طلبة جامعة القاهرة فى وسائل المواصلات، وفى جلساتهم أمام المكتبة المركزية وفى قاعات المحاضرات، وأتذكر أننى استعرتها – إن لم تخنى الذاكرة – من زين إبراهيم؛ زميلى فى كلية الإعلام آنذاك. قرأت «شرف» ولم يغادرنى تأثيرها المدوخ شعرت كأن يدًا قد ألقت بى عنوة داخل دغل أدبى غير مألوف لى لن أبالغ إن قلت إن قراءة «شرف» مثَّلت لى ما يشبه الصدمة. أعدتها إلى زميلى دون تعليق، وواصلت قراءاتى المعتادة بعيدًا عنها، لكننى عدتُ مجددًا إلى عالم كاتبها بحثًا عن صدمات أخرى مماثلة. قرأت «اللجنة» و«تلك الرائحة» و«نجمة أغسطس» و«بيروت بيروت» منشغلة بفك شفرات عوالم صنع الله المختلفة ومغامراته السردية المتباينة من عملٍ لآخر، وساعية إلى رسم صورة ذهنية له. صورة لم أكد أطمئن لها حتى فاجأنى أول احتكاك به بصورة أخرى عرفت معها أننى فى مواجهة إنسان عصى على التصنيف. كنت ما أزال أدرس الصحافة حين هاتفته للمرة الأولى لأكتشف بساطته البالغة وسخريته الذكية بعد التخرج التحقت بأخبار الأدب، وأصبح التواصل معه فى حكم العادة. أتصل به من وقت لآخر لأستطلع رأيه فى تحقيق أشتغل عليه، أو أرد عليه حين يتصل بالجريدة للتحدث مع صديقه الروائى محمود الوردانى. إلى أن رن هاتف الجريدة ذات يوم، وفوجئت بأنه يسأل عنى. كان ذلك عام 2001، وبعد صدور مجموعتى القصصية الأولى «ضوء مهتز» بشهور قليلة. أخبرنى أنه قرأ المجموعة ويرغب فى إبلاغى برأيه فيها. ما لم يقله لى إنه رشح إحدى قصصها للترجمة، وعرفتُ بهذا لاحقًا من الجهة التى رشحها لها. بعد هذا بعامين، وحين رفض جائزة الرواية العربية فى أكتوبر 2003، صرح فاروق حسنى وزير الثقافة آنذاك أنه «إذا كان صنع الله إبراهيم قد أساء التصرف فهذا لا يعنى أننا سنلفظه، بل سنسعى إلى تقويم فكره وتوعيته» بدا لى هذا التصريح شديد العبثية، وفكرت فى تحقيق ساخر عن كيفية «تقويم فكر» روائى كبير حمل التحقيق عنوان «الدليل الذكى لتقويم الروائى الطائش: إعادة تأهيل صنع الله إبراهيم!» قرأ الكاتب الكبير الدليل الساخر لإعادة تأهيله، واتصل بى ضاحكًا، علق تحديدًا على العناوين المقترحة لإعادته إلى «السبيل القويم»: «المرشد الأمين فى تدجين المثقفين»، «نزهة المشتاق فى فن النفاق»، «فوائد دخول الحظيرة»، «كيف تجنب نفسك مخاطر إعادة التأهيل» و«أهمية قبول الجوائز والانحناء أمام عدسات المصورين» هكذا كان دائمًا، ذكيًا لماحًا وذا مزاج لعوب بالمعنى الإبداعى للكلمة. الآن وقد خرج صنع الله إبراهيم إلى النهار، أستعيد مقولة خابيير مارياس: «كم هى قصيرة حياة ما بمجرد أن تنتهى ويصبح فى الإمكان اختزالها فى جمل قليلة، مخلفةً فقط غبارًا فى الذاكرة، غبارًا تبدده أبسط لمسة، وتطيره أبسط هبة ريح».لكنها إن انطبقت على حيوات البشر فى العموم، فلا أظنها تلائم كاتبًا من نوعية صنع الله إبراهيم؛ إذ يصعب اختزاله أو الإحاطة به وحصره فى توصيفات بعينها. قد نصفه بالمنعزل، لكنه وإن انعزل عن دوائر بعينها وفضّل الاحتفاظ بمسافة تتيح له وضوح الرؤية، لم ينعزل عن الحياة نفسها، وأعماله القابضة على دقائق الواقع وخباياه والمشرحة لأحوال مجتمعه خير دليل على هذا، كما كان دائمًا فى الصفوف الأولى حين يتعلق الأمر بما يؤمن به من قضايا وأفكار. وقد يوصف - عن حق - بالزاهد، لكن «المستغنى» ربما يكون وصفًا أدق فى حالته. يمتد هذا أيضًا إلى عوالمه الإبداعية بانفتاحها على التقريرى والتوثيقى والواقعية المفرطة وبحفرها فى عمق المجتمع المصرى دون الاقتصار عليه، إذ انتقل ببراعة من بقعة جغرافية إلى أخرى ومزج بين التقنيات الأدبية دون أن يخل هذا ببصمته الإبداعية. لهذا وغيره، فاسم صنع الله إبراهيم وحده يكفي، لا حاجة معه إلى شرح أو توصيف.