هنا يسكبون العبرات.. ويرفعون الطلبات.. ويكتبون الشكاوي والمظالم في خطابات.. هنا عالم البوح بالأسرار,وإفراغ الصدورمن الهموم وشحنها بالأنوار.. هنا يبثون الشوق والحنين ويأتون لطلب المدد من المعين. إنه عالم المريدين لأولياء الله الصالحين.. باب يطرقه المصريون منذ مئات السنين, عندما يطول المرض أو يتأخر مجئ الولد, أو يتعثر زواج البنت أو يتعكر صفو البيت, أو يشتد الظلم ويوهن العزم ويتناوب علي القلوب هم وراء هم. وسواء كنت بحضرة الإمام الشافعي أو بضريح أحفاد سيدنا النبي فلن تلاحظ اختلافا كثيرا بين أياد جافة تشقق جلدها من العمل والشقاء وبين أياد ناعمة يرفل أصحابها في نعمة الثراء.. كل الأصابع تتشبث بأسوارالضريح. هذه حقيقة تأكدت لنا في جولة بدأناها من مسجد السيدة نفيسة, كان المكان هادئا والفاصل الخشبي بين النساء والرجال يسمح بمتابعة الموقف علي كلا الجانبين, تحدثنا مع أحد المكلفين بخدمة المكان, والذي يقوم بتوزيع ورقة بها دعاء منسوب للسيدة نفيسة رضي الله عنها واسمه دعاء الفرج. قال لنا: أمنيات وطلبات المريدين تدور أغلبها حول طلب تيسير الحال وبخاصة في أمور زواج البنات, وقال إن الكثير يعدن للوفاء بالنذر بعد تحقق المراد, وأثناء حديثنا وجدنا رجلا يقترب ليشاركنا- تطوعا- الحوار وعرفنا من كلماته أنه يعمل ضابط شرطة وأن مسجد السيدة نفيسة هو مقصده المفضل ليس فقط عند الشعور بأي مشكلة أو ضيق وإنما قبل الإقدام علي مأمورية عمل جديدة. قطع الحوار آذان الظهر وامتلأ المسجد بالمصلين والمصليات, وقبل أن نغادره نقلنا بعض المعلومات من لوحة ضخمة عن السيدة نفيسة العابدة الزاهدة ابنة الحسن حفيد رسول الله التي يحكي عنها الكثير من الكرامات, وأنها حجت ثلاثين حجة وجاءت إلي مصر قبل وفاتها بسبعة أعوام, وكانت في حياتها كما في مماتها مقصدا للناس وطالبي العلم والسؤال, تتلمذت علي يد الإمام مالك وكانت كثيرة التعبد لدرجة أنها ختمت القرآن في قبرها عشرات المرات. أما في مسجد سيدنا الحسين كان المشهد أكثر شعبية وضجيجا وزحاما,وفي المكان المخصص للنساء سمعتها تدعو بصوت عال تشكو أنها لا تستطيع زيارة الرسول ولذا فهي تأتي لزيارة المقام, وشاهدت أخري تحمل علي كتفيها طفلا تقول إنه تأخر في الكلام وأنها تأتي من إحدي محافظات الصعيد, للزيارة والنذرحتي تنفك عقدة لسانه, أما المرأة العجوز المتشحة بالسواد فكانت تدعو لابنهاالذي كره فجأة عمله وانطوي علي نفسه. عندما سألنا البعض عما يضعن بالصندوق من أموال قلن أنهن يعلمن أن النذرلله بينما أصرر البعض علي أنهن ينذرن للحسين, وهكذا في الدعاء: البعض يطلب من سيدنا الحسين ما يريد والبعض الآخر يدعو الله متبركا بالمكان الذي يرقد فيه حفيد رسول الله, ولعل حالة الإختلاف هذه تعكس خلافا آخر بين علماء يبحن التوسل بالأولياء من أجل قضاء الحاجات وإجابة الدعاء, وبين فريق يمثل جمهور أهل السنة لا يجيز التوسل لله بأي من الأموات ولوكانوا من آل البيت أو الأولياء رافعين شعار أنه لا وساطة بين العبد وربه, وأن الله قريب يستجيب للدعاء. تلك الفكرة التي ربما تفسرها أكثر الثقافة الشعبية, وحسبما أوضح لنا الدكتور سميح شعلان أستاذ العادات والمعتقدات بأكاديمية الفنون أن الولي هو الوسيط الذي يميل إليه المريدون خاصة البسطاء لأنه ماثل أمامهم ويستطيعون الذهاب إليه والتشبث بمقصورته ويلفت أيضا إلي ظاهرة التدين الشعبي التي لا تعتمد علي قراءة صحيحة للدين بقدر ماتعتمد علي ثقافات شعبية موروثة, أهم مايميزها أنها كافكار اعتقادية لا تفرق بين غني أو فقير أو مثقف أو جاهل لأن الحاجات والمخاوف الإنسانية من الغيب والمرض والفشل مشتركة وعندما يعجز الإنسان عن إيجاد حلول تتساوي العقول. فكرة الوسيط كانت أكثر وضوحا عند زيارتنا لضريح الإمام الشافعي الذي رغم مرور مئات السنين علي وفاته إلا أن المريدين لايزالون يكتبون إليه الخطابات ويرفعون إليه المظالم, ويلقونها داخل الزجاج الذي يلف الضريح,الرسائل كثيرة ومبعثرة وبعضها يمكن قراءته, مزيد من الشرح قدمه لنا الشيخ عبدالله طاهر قارئ مسجد الإمام قائلا: أكثر الشكاوي هنا تتعلق بالظلم, ومنها زوجة تشكو جيرانها الذين أذوها بالأسحار وآخر يشتكي الظلم من رئيسه في العمل, وزوجة تشتكي زوجها الذي تزوج عليها واهملها,وكذلك شكاوي الاعتداء علي الأموال ويفسر ذلك بأن الإمام الشافعي الذي يلتقي مع الرسول في جده عبد مناف كان قاضيا يأتون إليه للفصل في المظالم فاعتاد الناس علي هذا السلوك حتي بعد وفاته, ومن المعتقدات أيضا إلقاء جزء من ثياب المظلوم أو صاحب الحاجة, موضحا أن مريدي الإمام يأتون من كل الجنسيات.