يبدو أن إسبانيا مازالت علي موعد مع الأزمات, فإلي جانب الأزمة المالية الطاحنة التي تواجهها منذ فترة وما ترتب عليها من تداعيات تكاد تكون مست الجميع, فقد عادت للظهور علي السطح قضية إقليم الباسك الانفصالي الواقع شمال شرق إسبانيا والتي يبدو أنها لن تجد طريقها للحل قريبا. فبعد فترة هدوء نسبية فوجئ الجميع بتصريحات لمنظمة ايتا الباسكية الانفصالية أكدت فيها أنه سيكون لرفض الحكومة الاسبانية التفاوض معها عواقب وخيمة وسيعقد أكثر التوصل إلي حل للنزاع حول الاقليم. موضحة في بيان لها نشر علي أحد الموقع الالكترونية أن حكومة مدريد تراجعت خطوات الي الوراء برفضها المشاركة في المفاوضات التي استضافتها النرويج في الاشهر الماضية مع ممثلي المنظمة, أو المفاوضات المقبلة المقرر عقدها أيضا في أوسلو, كما نفت إيتا الأنباء الصادرة عن اللجنة الدولية الراعية للمفاوضات والتي أعلنت فيها نية ايتا التخلي عن السلاح, حيث أكدت أن التخلي عن السلاح لم يكن ضمن أجندتها ولم يكن علي جدول أعمال المباحثات مع اللجنة الدولية, بالرغم من أن المنظمة من جانبها أعلنت في اكتوبر عام2011 وضع حد نهائي للعنف. وهو ما دفع بدوره رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي للرد علي هذا البيان بإعلان رفض التفاوض مع ايتا ومطالبة بالمنظمة بالقاء السلاح وحل نفسها دون قيد أو شرط, باعتبار أن ذلك سيحقق نتائج ايجابية للجميع قبل الجلوس للتفاوض, خاصة أن المنظمة تحمل مسئولية مقتل أكثر من800 شخص خلال40 عاما من صراعها المسلح من اجل استقلال اقليم الباسك ونافارا. هذا التطور وان بدا مفاجئا في نظر الكثيرين, فانه يعكس الي حد كبير حقيقة واضحة وهي أن قضية أقليم الباسك الذي يضم الأراضي الواقعة شمال شرق إسبانيا وجنوب غرب فرنسا مازالت رغم مرور السنين قضية حيوية تلقي بظلالها علي المجتمع, وأن العام الحالي منذ بدايته تقريبا شهد تطورات لعل من ابرزها اشتراك الآلاف في مظاهرة في شهر يناير الماضي بمدينة بيلباو الباسكية للمطالبة بحق سجناء منظمة ايتا في العودة لموطنهم, وهي المسيرة التي شارك فيها عدد من الرموز السياسية الكبيرة في الاقليم, مثل فريدريكو مايور الامين العام السابق لمنظمة اليونسكو وعدد من النواب الفرنسيين وساسة واعضاء من الحزب الجمهوري الأيرلندي شين فين, ثم جاءت وفاة الرئيس السابق للمنظمة جافير لوبيز بينا نهاية الشهر الماضي بعد تدهور صحته حيث كان يعاني من الشلل, الذي كان يقضي عقوبته في أحد السجون الفرنسية منذ عام2008, وطالما اعتبر أخطر أعضائها لتعطي انطباعا بأن القضية ربما كانت في طريقها للحل رغم نبرة التشدد التي تبدو واضحة في الموقف الإسباني. وهنا يشير المراقبون لحقيقة واضحة وهي أن هذا التشدد ليس جديدا فقد سبق أن أعلنت المنظمة نهاية العام الماضي عن استعدادها لمناقشة شروط حلها مع حكومتي فرنساوإسبانيا, بهدف الوقف النهائي للصراع المسلح, بل واقترحت المنظمة الموضوعات الرئيسية للحوار مع كل من مدريد وباريس, والتي تضمنت تحديد وضع المحتجزين واللاجئين وشروط وتوقيتات إلقاء السلاح وحل التشكيلات العسكرية للمنظمة, فضلا عن اعلانها استعدادها سماع مقترحات كل من الجانب الاسباني والفرنسي, محذرة في نفس الوقت من أن أي اجراءات قمعية كتلك التي يتحدث عنها وزيري خارجية فرنسا وأسبانيا سيكون من شأنها افشال المصالحة وعدم تسوية الصراع نهائيا. بل وذهب الانفصاليون الباسكيون الي حد الاعلان عن استعدادهم للاعتراف بمسئوليتهم عن تصرفاتهم أمام ضحاياهم بهدف التوصل لانجاح المفاوضات مقابل أن تعترف الحكومة الإسبانية بأن اعضاء المنظمة المعتقلين تعرضوا للتعذيب والمطالبة بمحاسبة من يقف وراء ذلك ومعاقبتهم. وهي الاقتراحات التي قوبلت جميعها بالرفض من الجانب الاسباني الذي أكد علي لسان وزير الداخلية أنهم في انتظار بيان واحد فقط وهو اعلان المنظمة عن حل نفسها بلا شروط لأن الحكومة الإسبانية لا تتفاوض مع منظمة ارهابية. وهو موقف ربما له ما يبرره في نشأة المنظمة وتاريخها وهي المدرجة علي لائحة المنظمات الارهابية الخاصة بالاتحاد الأوروبي. فقد نشأت منظمة وطن الباسك والحرية المعروفة اختصارا ب ايتا عام1959 كمنظمة مسلحة تسعي للانفصال باقليم الباسك عن إسبانيا وتأسيس دولة مستقلة اشتراكية, وتأسست علي يد مجموعة من اعضاء الحزب الوطني الباسكي المحافظ وتبنت الخط الماركسي, ثم تطورت مع الوقت لحركة انفصالية ارهابية أهدافها المعلنة انفصال اقليم الباسك بشقيه الإسباني والفرنسي واطلاق سراح أعضائها المعتقلين في كل من فرنساوإسبانيا. وارتكزت عقيدتها علي الدفاع عن اللغة المحلية والعرق الباسكي ومقاومة الإسبانية والانفصال. وكانت أولي عمليات المنظمة عام1968 باغتيال مدير مكتب المخابرات الإسبانية, كما كانت أقوي ضرباتها للحكومة الإسبانية عام1973 باغتيال رئيس الوزراء الإسباني آنذاك بسيارة ملغومة وسط مدريد, كما قامت بسلسلة تفجيرات بالمدن الاسبانية راح ضحيتها المئات, واعتبر عام1997 فارقا, حيث اختطفت الحركة محافظ اقليم الباسك ميجيل بلانكو وطالبت مقايضته بعدد من عناصرها المعتقلين, ومع رفض مدريد تم اعدام بلانكو وهو ما دفع ملايين الاسبان للخروج للشوارع علي مدار أربعة ايام مطالبين بوضع حد للعنف. وفي مبادرة من جانبها أعلنت الحركة عام2011 تخليها النهائي عن العمل المسلح سعيا لحل النزاع, وهو ما لم يتحقق حتي الآن في ظل الموقف المعروف لحكومة راخوي حيال هذا الملف المعقد. وهو ما دفع البعض للتساؤل عن تأثير الأزمة الاقتصادية التي تواجهها أسبانيا وما ارتبط بها من دعوات انفصالية من إقليم كاتالونيا, وهل سيدفع ذلك لتحريك قضية منظمة ايتا ويسهم في وضع حد لها رغم التشدد المعلن أم لا؟ هذا ما سيتضح خلال الفترة المقبلة.