ما هي البطولة في أن يتكالب عشرات من الجنود ومن الشرطة العسكرية علي مواطنين عزل فيطرحونهم أرضا وينهالون عليهم ضربا وركلا بوحشية؟ هل يليق بالجيش الذي سالت دماء أبنائه الأبرار علي رمال سيناء. أن يشاهد العالم كله صور جنوده يسحلون فتاة ويعرونها من ملابسها؟ أي عار جلبه لهم ولنا وللجيش المصري من تورطوا في هذه الفعلة النكراء؟ أحاول أن أتجاوز ولو مؤقتا مشاعر الغضب والاشمئزاز التي انتابتني منذ أن رأيت هول ما فعله الجنود. ربما يكون ذلك ضروريا للبحث عن تفسير لسلوك الشرطة العسكرية. كان يمكن للقوات أن تعتقل من تشاء دون ضربهم علي الأقل علنا ولكنها لم تفعل رغم معرفتها أن الاعتداءات يمكن بل من المؤكد انه يتم تصويرها حتي ولو كانوا قد حطموا ما طالته أيديهم وأرجلهم من كاميرات. البحث عن إجابة يستلزم أولا الأخذ في الاعتبار طبيعة ونمط تفكير العسكريين بصفة عامة حتي يمكن تلمس طريقنا لفهم كيف يحددون خياراتهم. الحياة العسكرية في مصر كما في غيرها تضبط سلوك المنخرطين فيها عبر منظومة من القواعد الجامدة والصارمة لضمان الانضباط الشخصي والجماعي. لا تعطي الجيوش حيزا كبيرا للمبادرة الفردية أو الاجتهادات الشخصية. حتي اللغة المستخدمة تنحصر من مفردات ميري متداولة لنقل الأوامر والتعليمات. باختصار لابد من الضبط والربط بلغة العسكر. الطاعة وتنفيذ الأوامر بلا مناقشة قيمة مقدسة أيضا. وليس في قاموس العسكر كلمة لا. وهم خلافا للسياسيين ليس في حياتهم منطقة رمادية إما تنفيذ الأمر أو عصيانه. ومن هنا يأتي صدامهم الدائم والمزمن مع المجتمع المدني الذي لا يعرف ولا يعترف بثنائية الطاعة أو العصيان بينما لا يستوعبون هم معاني الموائمات والحلول الوسط والتوافق. مصر ليست استثناء من هذا خاصة بعد الثورة. لدينا مجتمع صاخب تتشابك فيه الصراعات والمطالب وتكتنفه التناقضات وتمزقه خلافات عميقة. يلهث فيه المطحونون وراء أرزاقهم الشحيحة وحقوقهم الضائعة بينما يهرول الأقوياء بحثا عن النفوذ أو خوفا من ضياعه. يقترفون في سبيل ذلك كل الخطايا والآثام. مجتمع من الشياطين والملائكة. حياة صاخبة إيقاعها سريع وحركتها هادرة متقلبة. بحر هائج يموج بتحالفات وعداوات وتناحر وتالف بلا حدود أو نهاية. في هذا البحر الغادر وجد المجلس العسكري نفسه مطالبا بالقيادة دون استعداد فكان لابد أن تترنح سفينة الوطن. أراد العسكريون أن يعيدوا تنظيم وتشكيل وتكبيل هذا العالم الرحب وفقا لقواعدهم الصارمة. ولان هذا مستحيل كان طبيعيا أن تنشب الخلافات. وان تستمر المصادمات بين مجتمع يريد أن يستكمل صحوته وتمدده وعنفوانه, وعسكر يشفقون علي أنفسهم من ضخامة المسئولية ويستبد بهم القلق من أن يفلت زمام القيادة من أيدهم ومن ثم لا يرون سوي الضبط والربط مع المدنيين وسيلة للوصول بالوطن إلي بر الأمان. غير أن الزخم الثوري كان وما زال اكبر بكثير من رغبتهم وقدرتهم علي التجاوب معه. ومع غياب الخيال السياسي لم يكن أمامهم في أحيان كثيرة سوي اللجوء إلي العنف أو الرضوخ للضغوط. فليس لأعضاء المجلس أي تجارب سياسية بحكم تنشئتهم العسكرية وليس في هذا ما يعيبهم ولكنها الحقيقة. نعود للبحث عن إجابة للسؤال لماذا تعمدوا الإفراط في استخدام القوة ضد المدنيين وإهانتهم ولماذا حرصوا علي أن يكون ذلك علنا؟. يعتقد البعض أن الهدف المباشر هو الردع بإلقاء الرعب في قلوب الشباب للكف عن التظاهر. ولكن هذا حدث من قبل ولم تتوقف المظاهرات. ثمة تفسير أخر يقول انه في كل مرة لجأت فيها القوات للعنف ثم انفجرت الاحتجاجات كان الأمر ينتهي إما بتقديم تنازل من المجلس كما حدث بعد موقعة محمد محمود حيث أعلن للمرة الأولي موعد الانتخابات الرئاسية, أو يصدر المجلس قرارا غير شعبي مثل تفعيل قانون الطوارئ بعد أحداث السفارة الإسرائيلية. ومن هنا ليس مستبعدا أن يكون المجلس في طور الإعداد لشيء مماثل خلال الأيام المقبلة علي ضوء التطورات. لا اعرف فيما يفكر المجلس بالضبط ولكن ما اعلمه جيدا أن عليه الإسراع بخطوات تصالحية مع الرأي العام. ولا اعرف أيضا إذا كان المقربون منه يصدقونه القول وينقلون له حجم الغضب والاستياء الشعبي العارم مما فعلته الشرطة العسكرية. أما الحديث عن القوي المجهولة التي تتآمر علي الشعب والأيدي الخفية التي تحرك الأحدث وتهاجم الجيش والشرطة فقد أصبح مملا ولا يحترم عقول وذكاء الشعب. إذ ما معني أن يتحدثوا دوما عن مؤامرة دون أن يكشفوا من هم المتآمرون. فقهاء هذا الزمان اسقطوا الفاعل عمدا من لغتهم. لديهم عشق غريب لزمن المبني للمجهول! المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق