لايعرف الكثيرون أن أستاذنا الراحل أحمد بهجت بدأ رحلته الأدبية والصحفية بالنقد المسرحي المتخصص, أو لنكون أكثر دقة هو بدأ بتأليف القصص القصيرة أولا, متأثرا بالكاتب الروسي الإنساني انطون بافلوفتش تشيكوف, أحد عباقرة القصة القصيرة في القرن التاسع عشر, ثم اتجه أحمد بهجت بعدها إلي فن المسرح, وظل يتابع وينقد المسرحيات العربية, بل ويجري دراسات مسرحية بالغة الأهمية نقدم منها هذه الدراسة التي حملت عنوان رحلة مع النقد في الصحافة المصرية وفيها يحلل كاتبنا الكبير أسلوب معالجة النقاد الصحفيين للمسرح منذ عام1960 الي عام1966, وهي دراسة طويلة وممتعة نخشي أن يكون الاجتزاء منها تشويها لها.. ولكنها باقية كما هي في مجلة المسرح العدد الحادي والثلاثين بتاريخ يوليو..1966 أي قبل54 عاما.. ولعله يجدر بنا أن نشير إلي أن المجلة في ذلك العدد جعلت كل موضوعاتها حول تأثر المسرح بثورة يولية بمناسبة العيد الرابع عشر للثورة, وقد اتفق كل الكتاب والباحثين علي الالتزام بتلك المرحلة دون غيرها. بينما شذ عنهم أحمد بهجت وقرر أنه من الأمانة العلمية أن يتتبع تاريخ النقدالمسرحي منذ بدايته وصولا إلي تلك المرحلة.. ولا تكون الاعتبارات السياسية أهم من اعتبارات النقد الموضوعي. ويقول أحمد بهجت شارحا تلك الجزئية: النقد المسرحي بعد عام..1952 هكذا قيل لي: قلت لنفسي إن ذلك شيئا نعيشه ويعرفه أبناء جيلنا ولا نملك نحن حق الحكم عليه.. وربما كانت سياحة سريعة مع النقد المسرحي قديما وحديثا تستطيع إعطاء صورة أكثر وضوحا.. وأحب أن أقرر أنني أتحدث عن النقد المسرحي في الصحافة المصرية.. ولهذا السبب لم أجد داعيا للإشارة إلي الكتب والدراسات الأكاديمية رغم تنوعها وإخلاصها لخروجها عن نطاق البحث,, ولسوف يسعدني كثيرا أن يعتبر القارئ جهدي في الموضوع لم يتعد اختيار بعض الظواهر وتسجيل الملاحظات عليها, وترك الحرية بعدها للقارئ كي يستخلص بنفسه ما يجب والحقيقة أن الفقرة الأخيرة من تقديم الأستاذ أحمد بهجت فيها تواضع زائد عن اللازم, فالدراسة تستحق أن تكون مشروعا لرسالة ماجستير أو دكتوراه وليست مجرد تسجيل بعض الملاحظات, ولكنه ملمح أسلوبي عند أحمد بهجت يحمل الكثير من إدراك الذات. ويرصد كاتبنا الكبير أول ناقدة متخصص في المسرح في جريدة الأهرام عام1915 ويقول: وفي جريدة الأهرام سنة1915 كان باب النقد المسرحي يخرج بتوقيع سيدة تدعي مريم سماط ولم تكن هذه السيدة مصرية, وأغلب الظن أنها كانت سورية وكان الأهرام من خلالها يدافع عن التمثيل العربي, حيث كانت تشتغل.. وكان أكثر موضوعية من بقية الجرائد الأخري, وإن كان دفاعه هو الآخر في حاجة إلي دفاع. وفي جزء آخر من الدراسة يبين أحمد بهجت التحول الموضوعي الذي حدث في ساحة النقد المسرحي وبالتحديد في مجلة آخر ساعة, حيث يقول تحت عنوان فرعي نقطة التحول الأدبي: كانت المعارك الأدبية التي تتبادل فيها الاتهامات علي نحو شخصي بدأت تدق ناقوس الخطر وتبين المستوي الذي وصل إليه النقد في مصر, وتشير كل الدلائل إلي أن النقد المسرحي قد بدأ حياته بشكل منظم وصحي في مصر ابتداء منذ عام1954 في مجلة آخر ساعة, وكان يرأس تحريرها الأستاذ محمد حسنين هيكل, ففي هذا العام كان الأستاذ هيكل قد استطاع بحملاته المتعددة طوال عامين علي النفاق السياسي والفساد الاجتماعي والتمثيل الدبلوماسي القديم, كان قد استطاع أن يعيد الثقة إلي الكلمة المكتوبة ويرد لها احترامها الذي تعرت عنه زمنا.. وتم ذلك بشكل عملي عن طريق تقديم عمل صحفي يعتبر نموذجا راقيا لما ينبغي أن تكون عليه الصحافة, وحين أفردت آخر ساعة جزءا من صفحاتها للنقد الفني والأدبي.. وعهد إلي فتحي غانم ورشاد رشدي بمسئولية الاشراف علي هذه الصفحات.. نجحت التجربة نجاحا عظيما.. ولم يكن سر نجاحها هو رشاد رشدي أو فتحي غانم وحدهما فقط.. وإنما كان سر النجاح يرجع أساسا إلي المواد الأخري التي تضمها آخر ساعة.. ونحن نعلم الآن من تقدم الإحصاء أن صفحات الأدب والثقافة تجتذب واحدا في المائة أو عشرة في المائة من عدد قراء الصحيفة أو المجلة.. نعلم أنه لا يمكن أن تعتمد الصحيفة علي الأدب والفن وحدهما فحسب.. نعلم أن الثقافة في كل دول العالم لا تستطيع أن تطوير نفسها بنفسها.. نعلم أن الفكر الأدبي وحده يعني الخسارة المادية المحققة, رغم هذا كله نجحت فكرة الصفحات الأدبية في الصحافة الاسبوعية.. وكان نجاحها هذا هو نقطة التحول في النقد الصحفي.. وإلي نقطة التحول هذه يعزي اتجاه المجلات الاسبوعية والصحف اليومية إلي الاهتمام بالأدب والفن, فحين استطاع الجد المخلص والكفاية أن يردا للكلمة المكتوبة احترامها لم يعد هناك عائق يقف أمام الأقلام الطيبة من دخول ميدان الصحافة للكتابة عن الأدب والفن والمسرح, وهكذا رأينا الدكتور محمد مندور يكتب في جريدة الشعب ورأينا الدكتور لويس عوض يكتب في جريدة الجمهورية ولم يعد أساتذة الجامعة كالدكتور عوض ومندور وبنت الشاطئ يجدون حرجا في الكتابة للصحف, وإنما أصبح يشرفهم أن يكتبوا للصحف, ومع النهضة المسرحية واتساع رقعة النشاط المصري عاود الأهرام تقييمه للانتاج المسرحي تحت اشراف الدكتور لويس عوض المستشار الثقافي للجريدة.. ولسوف تكفي نظرة سريعة علي حقل النقل المسرحي اليوم لنقول كم تثلج هذه النظرة صدور من يعنيهم رقي المسرح.. إن سيدا من سادة النقد هو محمود أمين العالم, وقد احتجب زمنا يعود إلي عطائه المتفائل في المصور, ولويس عوض يحاول أن يعيد للكلمة براءتها من منبر الأهرام.. وبنت الشاطئ تواصل جهادها المقدس وتكمل رسالة استاذها وزوجها الشيخ الجليل أمين الخولي.. وحسين فوزي يعلم السائرين في الطرقات كيف يحبون الثقافة والموسيقي والحياة.. وإلي جوارهم عبدالقادر القط وعبدالفتاح البارودي وأنيس منصور ورشدي صالح وغيرهم من الأساتذة.. ولم تزل كلمات المعلم مندور رحمه الله تضئ لتلاميذه وخلصائه.. ومعهم في نفس البقعة التي يقاتلون منها لإحياء الثقافة وتطوير المسرح تمضي مجلة المسرح التي تتوج جهود النقاد المخلصين. ويفرض مجرد وجودها كما يفرض محتواها علي الصحف والمجلات أن تزيد من اهتمامها بالمسرح وأن تلاحقه في صوره سواء بالخبر أو التحقيق أو التعليق النقدي.. ولكيلا ننسي جيلنا من شباب النقاد نقول إنه إلي جوار أساتذة النقد عديد من الشباب المخلص الذي يحاول ارضاء أساتذته أن يتفوق عليهم. وهكذا ينهي أحمد بهجت دراسته ورؤيته للمسرح في زمنه الذي يتضح كم كان ثريا زاخرا بالأسماء العظيمة التي تري أن الدفاع عن الثقافة قتال وجهاد مقدس, ولهذا كانت الثقافة والمسرح في تلك المرحلة علي صدارة الانجاز الحضاري للشعب المصري.. ومرحلة من الزمن كان من بين تلاميذها الواعدين أحمد بهجت تستحق أن تتيه فخرا بأدبها وثقافتها ومسرحها علي كل المراحل الزمنية. [email protected]