مانراه في العالم العربي حولنا, ونعيش فيه من دول جمهورية أوملكية أو غيرها إنما هي دول تسلطية, لاعلاقة لها بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي لا أزال ادعو إليها, واتحمس لوجودها بوصفها حلما وأملا وخلاصا, منذ الزمن الساداتي, أما نموذج الدولة التسلطية المناقض لنموذج الدولة المدنية الديمقراطية القائمة علي تبادل السلطة فهو النموذج الذي يحكمنا نحن العرب إلي اليوم. وتبدأ قوي القمع المادي والمعنوي وتنتهي من بنية الدولة التسلطية التي هي بحكم طبيعتها لايمكن ان تستمر إلا بالحماية اللازمة التي تقوم بها الاجهزة القمعية للدولة, مثل الجيش والشرطة وما في حكمهما, أويلازم وجودهما, ويعين علي تأكيد وظائف القمع وفاعليته في الضبط الاجتماعي والتحكم السياسي. ويذهب دارسو علم الاجتماع السياسي إلي أن الدولة التسلطية هي الشكل الأحدث للدولة الاستبدادية, وهي نموذج الدولة القديمة التي يسعي إلي تحليلها والكشف عن مظاهر القمع فيها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد 1901 وتتميز الدولة التسلطية الحديثة عن مثيلتها القديمة بخصائص إضافية: أولاها: أن الدولة التسلطية تمارس احتكار السلطة عن طريق اختراق مؤسسات المجتمع المدني, وتحويلها من مؤسسات وتنظيمات تضامنية مستقلة إلي مؤسسات وتنظيمات تابعة لسلطة الدولة, تعمل بوصفها امتدادا لأجهزة الدولة, رغم كل شعارات الاستقلال المزعومة, كما حدث في العديد من المؤسسات والتنظيمات التي تحولت منذ أزمة مارس 1954 إلي الاستمرار المخادع للدولة التسلطية في عهد عبد الناصر الذي لم يعرف سوي نظام الحزب الواحد التابع للدولة والجمعيات والنقابات التابعة مثله, وأخيرا نظام مبارك الذي عرف هيمنة الحزب الحاكم المطلقة, والتعدد الشكلي لأحزاب مقموعة وظيفتها الاكمال الشكلي لصورة الديمقراطية التي ظلت زائفة. ثانيتها: أن الدولة التسلطية, أو بالاحري النظام السياسي التسلطي, يخترق النظام الاقتصادي ويلحقه به, سواء عن طريق التأمين ولوازمه, أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية علي الحياة الاقتصادية, ولم يفض ذلك إلي الاشتراكية, فيما اشاعت الأجهزة الأيديولوجية للدولة الناصرية, بل إلي رأسمالية الدولة التي قامت بالاستيلاء علي الفائض الاجتماعي وفائض القيمة بدل الرأسماليين الأفراد, وعلي نحو خضعت معه هذه الدولة إلي تقلبات السوق العالمية في أسباب معاشها, وظلت طرفا تابعا في علاقات اقتصادية سياسية غير متكافئة مع الدول الكبري, وقد ظل النظام القمعي للدولة التسلطية قائما في الزمن الساداتي رغم التظاهر بالتعددية الحزبية المحدودة التي ظلت شكلية, شأنها في ذلك شأن الديمقراطية الاشتراكية التي رفع السادات شعارها, فقد ظل احتكار السلطة قائما, ومحاولات اختراق مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته لاتتوقف, جنبا إلي جنب بداية زواج السلطة بالثروة, وقد اكتمل القناع الديمقراطي الزائف للدولة التسلطية في عهد مبارك. وثالثة:هذه الخصائص ان شرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية لاتقوم علي الشرعية الدستورية والقانون العادل, وإنما تقوم علي العنف والإرهاب والقمع أكثر من الاعتماد علي الشرعية المعترف بها في الدول الديمقراطية الحديثة التي تقوم علي مبادئ المواطنة والفصل بين السلطات وتداول الحكم والتعددية السياسية والاجتماعية المفتوحة, ولذلك يقترن نظام الحكم في الدولة التسلطية بعدم وجود انتخابات لها معني, أو عدم وجود تنظيمات أو مؤسسات مستقلة عن الدولة, ويتبع ذلك عدم وجود دستور فاعل ينتج عن توافق كل الاطياف السياسية والاجتماعية للأمة, فضلا عن إمكان تعليق الدستور أو إلغائه أو استبداله أوتأجيل العمل به, حسب متغيرات النخبة الحاكمة في الدولة التسلطية, ويلزم عن هذه الخاصية امران متضافران: أولهما: تعليق الحقوق المدنية وتجميدها, ومن ثم ابطال وتجاهل الكثير من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ثانيهما: تحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلي الانفاق علي الاجهزة القمعية لهذه الدولة, ذلك علي نحو يعطي للعاملين في هذه الأجهزة, خصوصا العسكرية والامنية, ميزات مادية ومعنوية هائلة, ضمانا لولاء هذه الاجهزة وتبعيتها الكاملة للنخبة الحاكمة. أما الخاصية الرابعة: فتتصل بايديولوجيا هذه الدولة من حيث ماتؤديه اجهزتها من رسائل, ينقلها ويشيعها علي نحو مباشر أو غير مباشر, التشريع الذي يصوغه ترزية القوانين والتعليم والاعلام المملوك للدولة أو المتحالف مع نخبتها الحاكمة فضلا عن الخطاب الديني التابع, تأكيدا لمعاني الطاعة والاذعان وتقاليد الاتباع وطاعة أولي الأمر, وإقرار معني اليقين الملازم لآراء النخبة الحاكمة, والإلحاح علي مركزية القيادة التي تتجسد في شخص واحد. ومن ثم التضحية بمبادئ التعددية والتنوع في سبيل الوحدة وهيمنة الصوت الواحد أو الحزب الواحد, وإلغاء الفصل بين السلطات لمصلحة اختزانها في مركز واحد, هو البدء المعاد لكل ماعداه, ويعني ذلك التراتب الحاكم بين المؤسسات والقيادات بوصفه الوجه الآخر من التراتب العسكري الموازي للتراتب الحاكم للدولة الدينية أو حتي الدولة المدنية التسلطية التي تعادي قيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. ويمكن للدولة التسلطية ان تكون جمهورية كما حدث في الدولة الناصرية التي عرفت الزعيم الذي لاشك في وطنيته وعظمة نياته, ولكن لاشك كذلك في غياب الديمقراطية والتعددية السياسية طوال عهده, فضلا عن اختراع نسبة ال99.9% في الانتخابات الشكلية المزيفة التي ظلت قائمة إلي زمن مبارك الذي وصل الفساد فيه إلي ذورته, ويمكن بالقدر نفسه ان ترفع الدولة التسلطية شعارات الديمقراطية والتعددية السياسية, تخييلا وخداعا, ماظل حزبها الحاكم مهيمنا متسلطا, يمارس فجور إقامة علاقة غير شرعية بين الثروة والسلطة, كما شهدنا في النظام السابق الذي اسقطته ثورة الخامس والعشرين من يناير فيما يقال, ولاغرابة في أن وجود دولة تسلطية ملكية في عالمنا العربي مهما اكتسبت من علامات زائفة, تؤكدها احزاب ديكتاتورية أو حتي مقموعة, ولاتخلو من تمييز طائفي حتي بين المسلمين انفسهم, أو ترفع من اعلام الدين الإسلامي ماتتجاهل تعاليمه الأساسية في المساواة بين المسلمين الذين لايرتقي احدهم إلا بالتقوي, وليس الثروة. ولا فارق بين الدولة التسلطية العسكرية والدولة التسلطية الدينية في الجوهر, فالبنية العقلية العسكرية لاتختلف عن البنية الاصولية في الآليات التي تحكمها, والتراتب الذي تنبني عليه, فضلا عن العلاقة بين الأنا والآخر, وما يجمع بين صفة الاستبداد في كلتيهما. أولا: صفة الهرمية التي تجعل الاوامر والنواهي والتعاليم ذات اتجاه واحد ثابت لايتغير, فهي تهبط من اعلي الهرم إلي سفحه, وليس العكس فقط, فليس للناس أو الشعب إلاقبول مايهبط عليه من الأعلي, فللنخبة الدينية والعسكرية الأمر, وعلي التابعة الطاعة لأنهم رعايا وليسوا مواطنين, ولاسبيل أمامهم إلي فرض صوتهم, ويجمع بين الاصولية العسكرية والاصولية الدينية رفض الاختلاف ونبذ السؤال, فالاجماع واجب, والسؤال قد يثير التشكك في القيادة,أويؤدي إلي فتنة, وقد يكون هذا مقبولا في التراتب العسكري وقت الحرب, لكنه لايصح في أيام السلم, وفي مجال السياسية المدنية التي لامعني لها إلا باختلاف الآراء, وتنوعها, وحيث يكون التوافق غير الاجماع, بوصفه محصلة الحوار والنقاش بين كل التيارات, ولذلك فالمساءلة مبدأ أساسي في الدولة المدنية الديمقراطية قولا وعملا, وحق الاختلاف واعلانه مقدس, ولكن الأمر نقيض ذلك في حالة الدولة العسكرية أو الدينية, خصوصا حين تسيطر العقلية الاصولية التسلطية, ويجع مابين العقليتين في النهاية الحرص علي ابقاء الاوضاع علي ماهي عليه, ماظلت في مصلحة النخبة الحاكمة, احترام الكبير في السن أو الرتبة مطلقا, وذلك علي نحو يؤدي إلي ايقاف تدوير النخب, ويسد الباب أمام الشباب. فالمعول هو تدوير النخب القائمة علي رضا الشعب المستنير والحفاظ علي حق الاختلاف, ورعاية التداول السلمي للسلطة, واحترام حقوق الإنسان اللازمة لحقوق المواطنة, وأخيرا هناك التمييز ضد النساء, والنظرة الدونية إلي المرأة. المزيد من مقالات جابر عصفور