أدمن المصريون الخروج للتعبير عن إرادتهم بمليونيات أذهلت العالم كله منذ تفجر ثورة الخامس والعشرين من يناير في ظاهرة فريدة وغير مسبوقة في التاريخ المصري, الذي كاد أن يحكم علي المصريين بأنهم من جنس تمثالهم العظيم ابو الهول يتابعون ويتألمون لكنهم لا ينطقون. خروج المصريين بالمليونيات أنهي كل أساطير ذلك الصنم الذي لا ينطق وأسس لتاريخ مصري جديد انتقل فيه المصريون من الصمت العاجز إلي الهدير الثوري الذي أصبح من أهم معالم هذا التاريخ المصري الجديد, لكن ما حدث يومي28 و29 من نوفمبر الماضي لم يكن مليونية عادية بل كان بحق أم المليونيات إذا جاز التعبير, ليس لأن المصريين خرجوا عشرات الملايين متحدين عثرات الطبيعية حيث انهالت الأمطار الغزيرة في أكثر من محافظة, ولكن لأن خروجهم جاء علي نقيض كامل من كل التوقعات ومن كل التحديات والترويع الذي قام به الإعلام المصري الذي ظل يصرخ حتي الساعات الأخيرة من ليل الأحد السابع والعشرين من نوفمبر, محذرا من خطورة التهور والإصرار علي إجراء الانتخابات في ظل حالة الانفلات الأمني الخطيرة. ربما يكون السؤال المهم هنا هو: لماذا خرج المصريون هكذا في تحد متعمد وغير مسبوق لكل مكونات المشهد السياسي والأمني الذي سبق الانتخابات والذي كان يعمل في اتجاه معاكس تماما لإجراء الانتخابات؟ لكن السؤال الأهم هو لماذا صوتوا في الاتجاه الذي جاءت به نتائج الجولة الأولي للانتخابات والذي أكد تفوق التيارات الإسلامية علي ما عداها من التيارات السياسية الأخري. الإجابة علي هذين السؤالين ربما يقدم لنا رسائل مهمة لكل من يهمهم الأمر وعلي الأخص كل القوي السياسية المتصارعة فيما بينها ومعها المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي شاء بأدائه المرتبك والمتصادم مع إرادة القوي الثورية أن يكون طرفا أصيلا في هذا الصراع رغم كل الحرص علي نفي ذلك. أول هذه الرسائل وأهمها أن الشعب سيبقي صاحب الشرعية والإرادة العليا في هذا الوطن, وأنه سيبقي المعلم دون غيره, لأنه يتحرك بوعي من الضمير الصافي في وطنيته دون أغراض أو مصالح أو حسابات أو تكتيكات. فالملايين التي خرجت لتصوت لصالح إنجاح دعوة إجراء الانتخابات خرجت بوعيها الفطري بأن هذه الانتخابات في مقدورها أن تضع حدا لمشهد الصراع السياسي الهزلي بين كل الأطراف المتصارعة التي وضعت نفسها وجها لوجه: طرف في ميدان التحرير وآخر في ميدان العباسية, كل له حساباته وكل له مصالحه, وهي كلها حسابات ليست مع إكمال مشوار الثورة بل معوقة لها. هذه الملايين أدركت مدي تلكؤ المجلس الأعلي في إكمال مشوار الثورة, وأدركت في الوقت نفسه أن ظاهرة تدافع المليونيات والدعوة إلي رفض إجراء انتخابات مجلس الشعب وإسقاط المجلس الأعلي ستقود, كلها مجتمعة, البلاد إلي الهاوية وإلي فراغ سياسي وأمني لن يستفيد منه غير أعداء الوطن. كما أدركت أن إجراء انتخابات مجلس الشعب ومن بعده مجلس الشوري ثم انتخاب رئيس الجمهورية من شأنه أن يضع نهاية لكل هذا الصخب السياسي المريب, وأن يضع نهاية للمرحلة الانتقالية وحكم المجلس العسكري, وأن يضع الثورة أمام أولي خطواتها التي تأجلت منذ يوم12 فبراير الماضي أثر تسلم المجلس العسكري مقاليد السلطة عقب سقوط رأس النظام السابق وعجز ثوار التحرير عن تشكيل قيادة للثورة تتولي إكمال مشوارها وتحقيق أهدافها التي قامت من أجلها. بهذا المعني نستطيع أن نقول إن خروج الشعب المصري ب أم المليونيات كان في ذاته صرخ مدونة هدفها الانتصار للثورة وأهدافها ومحاولة لتجاوز الصراع السياسي بين ميدان التحرير والمجلس الأعلي للقوات المسلحة. ثاني هذه الرسائل أن اختيار الشعب لمرشحي التيار الإسلامي, الإخوان والسلفيين] في جولة الانتخابات الأولي كان شهادة في غير صالح الأحزاب والقوي السياسية الأخري من منظورين, الأول وهو العجز التنظيمي حيث لم يستطع أي من هذه الأحزاب والقوي السياسية أن يطرح نفسه في الشارع السياسي المصري وفي أوساط المصريين في المحافظات والمدن والقري, ولم يجد المواطن المصري أمامه إلا تلك القوي الإسلامية في حين أن الأحزاب الأخري بالنسبة له لم تكن أكثر من ظاهرة إعلامية, والثاني, أن الخطاب السياسي والثقافة السياسية لهذه الأحزاب لم تصل إلي يقين المواطن المصري بعد, ولذلك فإن المواطن عندما يجد نفسه أمام غياب اليقين السياسي فإنه يتوجه حتما نحو اليقين الديني الذي لا يتصور التشكيك فيه, حيث نجح التيار الإسلامي أن يطرح نفسه ممثلا لهذا اليقين الديني. ثالث هذه الرسائل, هي أن الشعب المصري سيبقي الحكم الأوحد بين كل السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية وبين كل القوي السياسية بعد أن استرد وعيه وإرادته بثورته, وأقسم علي أن لا يحكمه أحد إلا باختياره, ولذلك فإن تعمد ترويع المصريين من خطورة التصويت للإسلاميين, وتجاوز حدود التلميح علي التصريح بل والتصريح الصاخب بإمكانية الانقلاب علي الإرادة الشعبية إذا جاءت النتيجة النهائية للانتخابات لصالح أحزاب التيار الإسلامي, وتورط البعض في تجريح أهمية الاختيار الشعبي عبر الانتخابات الحرة النزيهة, والحديث عن أن الانتخابات ليست هي الديمقراطية, والتسرع في طرح البعض تشكيل برلمان مواز إذا جاء البرلمان الجديد المنتخب بأغلبية إسلامية, يعتبر كله حديثا خارج سياق الوعي بإرادة هذا الشعب القادر علي فرض إرادته ومنح ثقته لمن يريد بغض النظر عن من هو التيار الأجدر بالحصول علي هذه الثقة, فالشعب الذي اسقط نظام الاستبداد والفساد سيبقي قادرا علي إسقاط كل مستبد وفاسد ولن يستطيع أحد تزوير إرادته أو ترويع ثقته بنفسه وباختياراته وانحيازاته التي يجب أن تبقي محل احترام وتقدير كل القوي السياسية الوطنية. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس