أشرقت شمس الانتخابات البرلمانية المصرية لتبدد بحرارتها غيوم الشتاء ودخان قنابل الغاز, وكان المشهد الرائع لملايين المصريين في طوابير الانتخابات وكأنه مواساة لتخفيف أحزان أسر الشهداء الذين قدموا أرواحهم حتي تقف مصر علي أعتاب الديمقراطية وتعطي الأمل لشباب الثورة في تحقيق أهدافها, ورغم أن هذه الانتخابات اجتازت فقط المرحلة الأولي وأن نتائجها أثارت القلق في نفوس الكثيرين فإن الآمال المعلقة عليها رغم ذلك تبشر ببدء مرحلة جديدة مع مصر جديدة نتمني أن تضع نهاية للمشاهد التي أساءت للثورة المصرية العظيمة, وربما يبدأ ذلك بخطوة رمزية يتم فيها إزالة جدار الأحجار الثقيلة المقام في وسط القاهرة للفصل بين المتحاربين وقت الأزمات بعد أن توحدت مصر أمام صناديق الانتخابات لأنه ما لم تتماسك الأمة المصرية فإن خطر العودة للمربع صفر قد يتجدد حيث تتعثر القوي السياسية وترتطم بتيارات من شباب ثورة25 يناير التي تري أن أهداف الثورة لم تتحقق, بل وأن الثورة ذاتها مهددة بالاختطاف وتحويلها إلي ثورة سابقة.. ربما يكون نجاح الانتخابات دافعا لعودة الثقة بوعود والتزامات القوات المسلحة والمجلس الأعلي بتسليم السلطة وقد بدأ العد التنازلي الفعلي لانتهاء المرحلة الانتقالية والتي معها, وبتشكيل البرلمان المصري الجديد تنتقل السلطة التشريعية إلي البرلمان وبانتخاب رئيس الجمهورية تنتقل باقي السلطات وتعود القوات المسلحة إلي ثكناتها وتنتهي مرحلة الأزمة بين الرغبة والقدرة وهي الأزمة الأم التي ولدت باقي الأزمات وهي أزمة تقع حين تتوافر الرغبة لطرف دون أن يمتلك القدرة علي تحقيق هذه الرغبة.. فالثورة وشبابها لديهم الرغبة في التغيير الشامل, ولكن القدرة علي تحقيق هذه الرغبة يمتلكها طرف آخر هو المجلس العسكري الذي ربما لا يراها بنفس حماس الثوار أو يري طريقا آخر لتحقيق هذا التغيير من خلال المؤسسات الدستورية, وترتب علي ذلك اختلاف في السرعات بين الطرفين فالمجلس العسكري لا يري مبررا- من وجهة نظره- للاندفاع بأسرع مما تحقق بعد أن سقط ملف التوريث الذي كان يرفضه أو يضيق به ورأي في سقوط هذا الملف بقوة الثورة إنجازا يمكن البناء عليه من خلال استكمال البنية البرلمانية والدستورية والرئاسية, وكان ذلك تصورا لا يناسب حماس شبابها الذي يطالب بالتغيير الفوري والجذري والشامل حتي تحقق الثورة أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, وهنا بدأت عملية الضغط علي المجلس العسكري واتهامه بأنه يسعي للبقاء في السلطة في حين يؤكد المجلس العسكري بكل الوسائل أنه لا يريد البقاء في هذه السلطة يوما واحدا وأنه يعمل بكل طاقته من أجل تسليمها إلي مؤسسات مدنية منتخبة واضعا جدولا زمنيا لذلك ينتهي في أول يوليو القادم.. والآن وقد دارت عجلة الانتخابات البرلمانية في موعدها وبصورة رائعة لم يتوقعها أحد يتأكد التزام المجلس الأعلي للقوات المسلحة بهذا الجدول الزمني ومن حقه أن يقدر له تلك البداية الرائعة للانتخابات المصرية- بعيدا عن نتائجها- ومن الإنصاف أن نعمل علي إعادة بناء جسور الثقة بين الشعب وقواته المسلحة التي حمت الثورة في يناير الماضي, وها هي تحمي الانتخابات في نوفمبر وإن كان ذلك لا ينفي ضرورة أن نعترف بأن هذه الجسور قد تعرضت للتآكل نتيجة الارتباك والتضارب بل والتناقض بين ما كان يقال للثوار وما كان يجري أمام عيونهم علي الأرض مما أدي إلي ظهور فجوة من عدم الثقة بين الشعب والمجلس الأعلي. وقد تكررت مظاهر التناقض في ظل الارتباك غير المبرر فعندما يعلن أنه لا محاكمات عسكرية للمدنيين فإنه يجب ألا تكون هناك محاكمات عسكرية للمدنيين وإذا حدث عكس ذلك فإن الشرخ في جدار الثقة يتسع.. وعندما يعلن وزير الداخلية السابق منصور العيسوي أن الشرطة لم تطلق الرصاص علي المتظاهرين بينما الشباب في الميدان يرون بعيونهم سقوط الشهداء بطلقات الرصاص وعشرات الأفلام المصورة لرجال الشرطة وهم يطلقون الرصاص وينتشر الفيديو الأشهر علي كل المواقع للضابط الذي نجح في أن يجيب عين أم المواطن ويتلقي التهنئة من جنوده جدع يا باشا.. فإنه لا يليق بعد كل ذلك أن يخرج وزير الداخلية السابق بكل جرأة علي كل الفضائيات ثابتا لا يهتز له رمش وهو يكاد يحلف بالطلاق أن الشرطة لم تطلق النار علي المتظاهرين لأن ذلك ينسف أي مصداقية ليس فقط في شخص الوزير ولكن قبل ذلك في من أجلس هذا الرجل علي مقعد وزير الداخلية.. وعندما يؤكد المجلس الأعلي للقوات المسلحة أنه لا خلاف حول مدنية الدولة فإنه لا يجوز أن يخرج بعدها الدكتور علي السلمي بالوثيقة المدمرة التي حملت اسمه وكانت شرارة الموجة الثانية للثورة ويتراجع علانية وفي النصوص المكتوبة ويلغي مدنية الدولة من هذه الوثيقة المشئومة ويستبدل كلمة ديمقراطية الدولة بها ولا يجد الدكتور السلمي أدني حرج في تبرير ذلك بقوله وفي اجتماع معلن إنه فعل ذلك إرضاء للإخوان المسلمين معترفا ضمنيا بسيطرة الإخوان وهم- والشهادة لله وللتاريخ- أساتذة في فنون الضغط والتفاوض وخبراء في عقد الصفقات وفي اكتشاف التوقيت المناسب للانسحاب من المعركة الخاسرة والأسرع في القفز وركوب الثورة إذا بدت بشائر النصر وهم يتواصون عند ركوب الثورة بترديد دعاء الركوب وأن يركبوا بالقدم اليمني!!.. فإذا أضفنا إلي ما سبق بطء المحاكمات بحيث لن يدهش أحد إذا ما انتهت إلي براءة مبارك الذي لم يستغرق خلعه من كرسي الرئاسة سوي18 يوما بسبب فساده, في حين عجزنا بعد مرور نحو عام من الزمان علي إدانته وعقابه وهو ما يمكن أن يعطيه المبرر في أن يطالب بالعودة إلي قصر الرياسة بل وبالتعويض المناسب باعتبار الفشل في إدانته بالفساد!! والحقيقة أننا لم نسمع أو نقرأ في التاريخ كله عن ثورة هبت ضد فساد الحاكم ونظامه ونجحت في خلعه وبعد ذلك عجزت علي مدي عام كامل ويحتمل أن يمتد لعدة أعوام في إثبات فساد هذا الحاكم.. وهو وضع مضحك قد يؤدي إلي اتهام الثورة بأنها ظلمت هذا الحاكم العادل البريء في ظل مناورات قانونية عقيمة تصلح في محاكمات قضايا المخدرات, ولكنها بالقطع لا تصلح في محاكمات الفساد وهو ما أسهم في اهتزاز الثقة بين الطرفين.. وعندما يؤكد وزيرا العدل والداخلية السابقان وجود عناصر محرضة ومدسوسة وممولة من الخارج وتحديد المبالغ التي تقدم لهذه العناصر المخربة والمدسوسة مع الوع د بالكشف عن الأسماء المتورطة خلال ساعات ثم تمر الأسابيع والشهور ولا يعلن شيء فإن السؤال بعدها عن سر اهتزاز الثقة يصبح سؤالا ساذجا.. والغريب أن كل ذلك كان يجري بالتوازي مع عودة فلول الحزب الوطني إلي الحياة السياسية والإعلامية بكل قوة وجرأة بل وتطاول هؤلاء الفلول علي الثورة والثوار والتهديد العلني لها وللوطن كله بالحريق إذا ما تم إبعادها رغم أن هذه الفلول اختفت في الأسابيع الأولي للثورة وهي تدرك أن مصيرها الطبيعي هو الإبعاد عن الحياة السياسية, غير أنها فوجئت بأن مسار الأحداث يوما بعد يوم يدعوها بل ويستدعيها للعودة وارتفع صوتها وزادت شراستها بعد أن أصبحت كيانا واضحا قادرا علي الحركة والتأثير علي مجري الأحداث في الوطن, واكتفت الثورة بإضافة كلمة المنحل إلي الحزب الوطني في حين لم يظهر علي سطح الحياة السياسية ما يفيد باختفاء هذا المنحل.. بل إن هذا المنحل وجد القدرة وهو منحل لأن يهدد الثورة ويهدد البلاد كلها إذا ما تم استبعاده من الحياة السياسية.. ومن نتاج كل ما سبق تجسدت الأزمة بين الرغبة والقدرة.. الثورة وشبابها لديهما الرغبة والإرادة لتحقيق التغيير الشامل والجذري, ولكن القدرة علي تحقيق ذلك في يد طرف آخر كان كل ما يهمه هو أن ينجز وعده ويتم عملية نقل السلطة إلي المؤسسات الشرعية المدنية المنتخبة وما يجري أمام الثوار من المشاهد السابقة يدعوه للشك والقلق ومن هنا جاءت الموجة الثانية للثورة في نوفمبر في محاولة لأن تصبح القدرة في يد من يملكون الرغبة والإرادة, وهنا تبدو أهمية وخطورة الانتخابات البرلمانية التي دارت عجلتها في صورة مدهشة ورائعة- رغم نتائجها مرة أخري- لأنها خطوة كبيرة علي طريق حل إشكالية الرغبة والقدرة وإذا أحسنت قوي الثورة والشعب اختيار البرلمان القادر علي تحقيق مطالب الأمة ونجحت بعده في إقرار الدستور ثم انتخاب الرئيس الجديد فإن ذلك سوف يضع أقدام مصر علي طريق المستقبل الجديد وتتجاوز الثورة مخاوف الإجهاض ومحاولات الإجهاد وتمتلك القدرة وتنطلق إلي استكمال مراحل البناء.. وإذا تحقق ذلك- وسوف يتحقق بإذن الله- فإن التاريخ سوف يشهد لمصر كلها شعبا وجيشا بالقدرة علي العبور إلي عالم الديمقراطية وهو عبور لا تقل صعوبته عن العبور الأول في أكتوبر.1973 المزيد من مقالات لبيب السباعى