اعترف.. أنني وجدت صعوبة شديدة في الكتابة عنها.. عن خالتي.. تحية كاظم قرينة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. والتي تحتل في قلبي ركنا دافئا ومضيئا. فقد تخيلت حين صدر الكتاب الذي يضم ذكرياتها معه أنني سأكون أول من يكتب عنه.. لكن كل محاولات الكتابة انتهت بتمزيق الورق.. ربما من فرط رغبتي أن أكتب عنها مقالا فريدا مشرقا.. وربما من كثرة المشاهد التي تدفقت وتوهجت أمام عيني.. فلم أعرف من أين أبدأ.. أتذكر معاناتها في الفترة التي كانت تكتب فيها هذه الذكريات.. كانت مهمة شاقة ونبيلة لزوجة انفطر قلبها لرحيل زوجها.. فقررت في غمرة آلامها وخضم حملة شرسة نظمت ضده أن تكتب ذكرياتها معه بعد أربعة أيام من ذكري رحيله الثالثة. بحق لقد خلقت لتكون زوجة ثائر.. وجدانها تضيئه الأفكار النبيلة.. وفؤادها يخفق للمثل العليا.. فلم تعنها ماديات الحياة وبهرجتها.. وحين رآها عبدالناصر لأول مرة رأي ببصيرته ذلك.. وصمم أن تكون تلك الفتاة البيضاء الطويلة ذات الشعر الأسود الناعم والوجه البشوش زوجته ورفيقة دربه.. أما هي فإنه حين تقدم يطلب يدها ورفض أخوها لأن شقيقتها التي تكبرها لم تتزوج بعد.. تمنت من أعماق قلبها أن يكون هذا الشاب الطويل الأسمر زوجها وشريك حياتها. في السنوات الثمانية الأولي لزواجها لم تكن في حاجة لأن يقول لها أحد, إن زوجها يخطط لعمل خطير.. فهمت وصمتت.. كانت تراه يخرج ويعود في أوقات غريبة.. فأحيانا يترك البيت مع مطلع الفجر.. وأحيانا يأتي مع الغروب ولا يمكث إلا قليلا.. ومع ذلك لم تسأله إلا مرة واحدة فقط السؤال الذي تسارع الزوجات بإطلاقه في مثل هذا الموقف وهو: أين أنت ذاهب؟.. وكان ذلك ليلة الثورة حين وجدته بعد أن عاد الي البيت ولم يكن قد نام لمدة يومين يرتدي البدلة العسكرية ويتأهب للخروج, فرد عليها بصوت هادئ وبرحابة صدر قائلا: سأكمل تصحيح أوراق امتحانات كلية اركاب حرب في بيت أحد الضباط.. فتح الباب بعد أن ودعها وخرج ليفجر ثورة غيرت وجه المنطقة. كذلك لم تسأله إلا مرة واحدة فقط عن سبب وجود مدافع وقنابل وذخيرة ورصاص ومنشورات في المنزل, فأجاب قائلا: الأفضل ألا تعرفي شيئا.. فقالت له: أيوه أحسن ربما ألخبط الدنيا. أيضا لم تسأله أبدا عن الغاية من الاجتماعات التي تستمر طوال الليل مع زوار يأتون فرادي وجماعات وتقول في ذكرياتها: الضباط الذين كانوا يضحكون ويهرجون ولا يمكثون طويلا كانوا في نظري زوارا عاديين أما هؤلاء الذين يحضرون في أوقات مختلفة ويجلسون في الصالون ويتحدثون بصوت منخفض فكنت أقول لنفسي إنهم من إياهم.. وحين عرف عبدالناصر أنها تطلق عليهم اسم إياهم ضحك من قلبه.. حدث ذلك في الإسكندرية قبل شهر من قيام الثورة عندما قال لها إنه سيخرج بمفرده في المساء ليقابل أحد الضباط فقالت له: هم إياهم دول برضه جايين ورانا في الاسكندرية.. هكذا كتبت في أوراقها التي ستصدر قريبا باللغة الانجليزية والفرنسية والروسية. سألت هدي عبدالناصر ماهو شعورك وأنت تقرأين هذه الذكريات.. قالت: انتابني إحساس جميل.. فقد اعطتني معلومات عن عائلتي لم أكن أعرفها من قبل.. وشعرت بالدهشة من سلاسة أسلوبها ورهافة احساسها.. وتوقفت بفخر أمام جملة أولادنا يا تحية نورثهم العلم.. وتأثرت من الفقرة التي كتبتها عن اليوم الذي كانت تجلس فيه مع أبي في حديقة استراحة القناطر الخيرية في انتظار دخول السيارات للعودة الي القاهرة.. وكان من المعتاد أن نعود اخوتي وأنا معها في سيارة ويعود أبي في سيارة أخري.. قالت له: لقد مضت ست سنوات لم أخرج معك في سيارة واحدة.. فرد عليها قائلا: فلتركبي معي ونرجع سويا. هذه الفقرة ذكرت هدي بمعاناة والدتها التي عاشت ولديها احساس أنها محرومة من الرجل الذي أحبته.. فبعد سنتين من زواجها قال لها جهزي كل ملابسي لأنني سأسافر الي فلسطين لمحاربة اليهود.. وحين عاد بدأ التحضير للثورة.. وحيت أصبح رئيسا للجمهورية لم يكن هناك وقت يقضيه معها.. وحين فشل الأطباء في انقاذ حياته وأرادت أن تلقي عليه نظرة وداع أخيرة بعد أن تلاشي تأثير الدواء الذي أعطاه لها الطبيب عقب وفاته قالت لها هدي: لقد ذهب بابا الي قصر القبة.. حينئذ صاحت بلوعة: حتي الآن أخذوه مني. منذ هذه اللحظة سكن الحزن قلبها.. وارتدت الحداد الذي لم تخلعه أبدا حتي رحيلها.. وأمضت معظم وقتها في حديقة بيتها.. وقبل الغروب كانت تجمع باقة صغيرة من الورد لتضعها علي ضريحه.. في هذه الحديقة كانت تصاحبه خلال رياضة المشي اليومية.. وفيها أيضا كانت تلعب معه البينج بونج.. ومن قلبها تضحك حين تكسب منه شوطا.. علي البيانو تعزف أية قطعة موسيقية بمجرد الاستماع إليها.. وحين تتقن عزفها كانت تدعو الرئيس لسماعها.. أحبت المسرح والشعر وصوت أم كلثوم. أغلي ما ملكت حبه لها.. فقد كان وهو يحارب في فلسطين يمشي علي قدميه في الصحراء3 ساعات علي الأقل كل أسبوع ليصل الي أقرب تليفون ليتصل بها.. في هذه الفترة أرسل لها46 خطابا كتب في أحدهم: ما كنت أعتقد أنني سأفترق عنكم هذه المدة.. ولكن الحمد لله.. ويشجعني علي ذلك إيمانك العظيم بالله.. فيجب ألا تقلقي ولا تحزني مطلقا لهذا الغياب.. سنلتقي قريبا إن شاء الله ونشكره شكرا جزيلا.. وسننسي كل شيء ونبقي سويا يا حبيبتي العزيزة. وفي خطاب آخر كتب لها: أظن أن اللحظة التي سألقاكم فيها ستكون أسعد أوقات حياتي. معظم خطاباته التي تفيض حبا لزوجته ولابنتيه تنتهي بعبارة: سلامي وأشواقي وقبلاتي الزائدة لك ولهدي ومني. بعد الثورة زادت أعباؤه ولم تكن تراه كثيرا, ولكنها كانت تعرف أنه يحب وجودها بجانبه.. فكان إذا عاد من الخارج أو ترك مكتبه في الدور الأول وصعد الي الدور الثاني ولم يرها جالسة في الصالة أو في حجرتها كان يبحث عنها في حجرات الأبناء.. وفي الساعة الأخيرة قبل وفاته حيت رآها تقترب من حجرته وهو راقد في فراشه بعد عودته من المطار عقب توديع أمير الكويت أشار لها بيده أن تجلس بجواره وسألها: هل تناولت الغداء يا تحية؟.. فقالت له: نعم تناولته مع الأولاد.. وظلت جالسة علي طرف السرير لمدة عشر دقائق وهو راقد لا يتكلم.. ولا تنسي أبدا أنه ثبت بيده صورتها في برواز ووضعه فوق مكتبه بالدور الثاني.. هكذا كتبت في ذكرياتها التي كانت تقرأ فقراتها لابنتها مني. تقول مني: بكيت عندما ذهبت مع اخوتي الي البنك لأخذ المذكرات التي كتبتها أمي في أشد أيامها حزنا.. فقد كانت تقرأ أكاذيب كثيرة في الصحف.. فأرادت أن يعرف الناس الحقيقة.. وحين انتهت من الكتابة وضعت أوراقها في نفس الدولاب الذي كانت تحرص علي إغلاقه بالمفتاح والذي كانت تضع فيه الخطابات التي أرسلها لها أبي أيام حرب فلسطين.. وكانت تلفهم بشريط من الحرير بلون السماء الصافية. لم يذهب خالد عبدالناصر مع اخوته إلي البنك لتسلم الذكريات بسبب مرضه.. ويوم رحيله حين تعالت الهتافات ياخالد قول لأبوك90 مليون بيحبوك.. قلت لنفسي: يا إلهي.. لو أن روح خالتي تسمع. كانت فرحتها بميلاد خالد بالغة.. وقالت عنه في ذكرياتها: كنت في أشد الاشتياق ليكون عندي ابن, ودائما أذكر أمام جمال أنني أريد أن يكون المولود ولدا فكان يرد بقوله: الله ينظم ملكه كيفما يشاء.. هل تريدين تنظيم الكون؟.. لا فرق بين ولد وبنت.. وفي آخر أسبوع قبل الولادة كنا في السيارة مع هدي ومني فنظر إليهما وقال: شوفي يا تحية أد إيه وهما رابطين الفيونكات في شعرهم شكلهم جميل.. وإن شاء الله لما يبقوا ثلاث بنات بهذا الجمال والفيونكات سيكون أجمل. لكن لم يصبحا ثلاث فتيات.. فقد جاء خالد الي الحياة فجر يوم25 ديسمبر عام..1949 ولا ينسي أصدقاء خالد ما حدث له في نادي هليوبوليس عام..1964 وقتها كان خالد في الرابعة عشرة من عمره وأراد أن يعوم في حمام السباحة.. فمنعه حازم خورشيد لاعب فريق كرة الماء لان الفريق سيبدأ تمرينه.. ووقف الاثنان يتجادلان.. وانتهي الأمر بأن اعتدي حازم علي خالد ولكمه في خده.. ووصل الخبر الي اللواء عبدالمنعم الشاذلي رئيس النادي فقرر حرمان حازم من عضوية النادي.. حينئذ أخبر خالد أباه بما حدث فطلب عبدالناصر إلغاء العقاب قائلا: إنهما شباب.. وما حدث بينهما وارد. كان خالد واخوته يعلمون جيدا أنه لا ينبغي لهم الحصول علي أي امتياز لكونهم أبناء رئيس الجمهورية.. هذا الرئيس الذي سجل له التاريخ أنه لم يترك عند رحيله سوي سيارة أوستن سوداء كان قد اشتراها عام1949 وأن الهدايا التي تلقاها خلال فترة حكمه سلمها كلها للدولة.. وفي ذكرياتها معه كتبت: رفض هدية من أحد رجال الأعمال العرب وطلب من كبير الأمناء صلاح الشاهد أن يعيدها لصاحبها.. فقال له صلاح الشاهد إنها هدية تساوي أكثر من مائة ألف جنيه.. فرد عليه قائلا: لم أقم بالثورة من أجل مال وحلي ومجوهرات.. وفي إمكاني أن أصدر قرارا غدا بمضاعفة راتبي مرات.. لكن ليس هذا ما قامت الثورة من أجله.. أذهب بها لا أريد أن أراها. منذ البداية.. أدركت أنها تزوجت فارسا نبيلا مولعا بالعمل.. تؤرقه فجوة تزداد اتساعا بين قلة تملك وأغلبية معدومة.. ويؤلمه وضع يزداد قسوة لبسطاء يحلمون بحياة كريمة.. أدركت ذلك من رفضه لنظام جندي المراسلة الذي ألغاه في أول أسبوع للثورة.. كان يقول لها إن معظم الضباط يعاملونه بعنف ويعتبرونه خادم للأسرة مما يعد امتهانا لكرامة وعزة الجندي. والمدهش أن عبدالناصر استطاع وهو في رحلة للصعيد أن يلمح بين الجموع المراسلة الذي كان يرافقه في حرب فلسطين وهو يلوح له بيديه ويحاول الاتجاه نحوه.. فطلبه الرئيس وسأله عن أحواله ثم عينه عسكري أمن في منشية البكري. في منشية البكري, حملت تحية كاظم لقب قرينة رئيس الجمهورية لمدة أربعة عشر عاما.. خلال هذه الفترة لم تبهرها السلطة.. ولم تسحرها الأضواء.. ولم تطح بوزراء, ولم تختر مسئولين, ولم ترأس مؤتمرات, ولم تمتلك مجوهرات, ولم تظهر في برامج تليفزيونية, ولم تدل بأحاديث صحفية, ولم تكن لها صورة رسمية, ولم تتصدر اخبارها الصفحات الأولي, ولم يسبق اسمها لقب السيدة الأولي.. ومع ذلك قامت بكل مهام قرينة رئيس الجمهورية, فكانت تذهب مع الرئيس الي المطار في حالة قدوم ضيف مع زوجته.. وتحضر المآدب الرسمية التي تقام للرؤساء وقريناتهم, وتستقبل زوجات السفراء والشخصيات النسائية البارزة, وتتواصل مع نساء عصرها المميزات كأنديرا غاندي وقرينة الرئيس تيتو ومسزبندرنايكه رئيسة وزراء سيريلانكا وقرينة سيهانوك حاكم كمبوديا وفتحيه نكروما والدكتورة بنت الشاطئ والمحامية مفيدة عبدالرحمن وغيرهن. وفي منشية البكري.. لم تنس أنها زوجة وأم.. فحين مرض الرئيس بالسكر كانت لحرصها الشديد علي صحته تطهي له الطعام في معظم الأيام. وفي منشية البكري, لم تفقد أبدا قدرتها علي الاحتفاظ برباطة الجأش في أصعب الأوقات, فحين فوجئت بالرئيس يعلن التنحي عن الحكم في الخطاب الذي ألقاه يوم9 يونيو عام1967, التفتت الي أولادها وقالت لهم: بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا.. فرد عليها ابنها عبدالحميد قائلا: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح.. جملة مدهشة لا يقولها سوي ابن جمال عبدالناصر. وفي منشية البكري.. كان مطلبها الوحيد في السنوات العشرين الأخيرة من حياتها أن تدفن بجوار زوجها المحب الحنون. التاريخ يحكي.. وأيضا المطلعون علي بواطن الأمور يقولون.. إن الذين يجلسون علي كرسي السلطة سرعان ما يتغير مسار أفكارهم وطباعهم.. ولا يعودون كما كانوا أبدا.. لكن تحية كاظم قرينة الزعيم جمال عبدالناصر كانت من النادرين الذين لم يستطع الكرسي أن يسلبهم شخصيتهم.. فظلت محتفظة بتواضعها وبساطتها ونبلها حتي آخر لحظة من عمرها.. أشعر بالفخر أنك خالتي.