من أبرز الظواهر التي أفرزتها الثورة المصرية, أن المصريين لم يعودوا يقبلون اللف والدوران ليس فقط فيما بينهم علي المستوي الشخصي والإنساني, لكن أيضا علي المستوي العام. لم يعد مستساغا أن يسترضي الرئيس أهل بورسعيد أو رجال الأمن المركزي أو أهل الصعيد بإبلاغهم أنهم في قلبه دون إرفاق هذه المقولة العاطفية بإجراءات وقرارات عملية. المصريون بعد الثورة وما تبعها من أوضاع خانقة, لا يطيقون أن يعلن وزير أو حتي رئيس الحكومة أرقاما إجمالية أو خططا مستقبلية لا مردود لها ولا دليل عليها في اللحظة الراهنة. وبالقدر ذاته لا يثق المصريون في ساسة معارضين يرفعون شعارات رنانة عن المدنية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والكفاح السلمي, ولا ينبسون ببنت شفة عندما يهان ويقتل رجال الشرطة أو تقتحم مؤسسات رسمية أو ينتشر الدمار والدم بدعوي التظاهر السلمي. ما يحدث حاليا في مصر, أن كل الأطراف تلف وتدور حول ما تريده ولا تقدم أهدافها بشكل واضح وصريح ليس فقط أمام الشعب بل أيضا مع بعضها البعض في الغرف المغلقة. وذلك لأسباب عديدة منها عدم الثقة المتبادل, والإدراك المسبق أن نقاط الالتقاء خفية أو مخفية ومساحات التوافق محدودة أو غير موجودة. ويلعب الإعلام دورا خبيثا في توسيع الفجوة وإشعال نيران الفتنة والانقسام بعيدا عن المشكلات الحقيقية وحلولها. السلطة الحالية, تتعامل مع مشكلات مصر وأوضاعها السيئة بدرجة مستفزة من الهدوء والعزلة عن الواقع. وتبحث عن حلول المشكلات اليومية الملحة والخانقة, عبر مداخل ومراحل طويلة بطيئة تدور خلالها حول القضية, وعندما تتفاقم أو تتحول إلي أزمة يقف الإجراء أو التحرك المتبع عند ظاهرها لا جوهرها. مثلا, عندما تحدث اشتباكات بين الشرطة ومجهولين, يدور الحديث عن ضبط النفس من جانب الشرطة أو سقوط ضحايا بين المعتدين. وفي كل مرة لا قرار عملي حاسم بالقبض علي من يخرب منشأة أو يعتدي علي الشرطة بمجرد شروعه في ذلك. وفي أزمة السولار, الإجراء المتبع دائما هو زيادة الكميات وليس مراقبة توزيعها أو سد منافذ التهريب وتفكيك شبكاته, رغم أن الأزمة المفتعلة قائمة منذ شهور. وإذا كان هذا حال السلطة, فالمعارضة ليست اقل سوءا; فهي تهرب من مواجهة مشكلتها في فقدان التواصل مع الجماهير, باللف والدوران في حلقة مفرغة من انتقاد السلطة ورفض كل ما يصدر عنها, اعتمادا علي عدم مصداقيتها ونكوصها عن وعودها. وتحول هذا الاتهام لدي المعارضة إلي تابو سياسي غير قابل للمناقشة. وهو ما لا يعبر عن موقف سياسي مدروس أو حتي تمسك بمبدأ أخلاقي, بقدر ما يوفر غطاء تخفي المعارضة تحته رفضها لوجود واستمرار نظام الحكم الحالي وليس لسياساته أو قراراته غير المدروسة ثم تراجعاته عنها. المثير أن المواطن المصري العادي أي رجل الشارع, يدرك تماما ما يلف حوله الساسة ويدورون, وما لا يصرح به المتصارعون علي السلطة والسلطان, يردده المصريون صباح مساء علي المقاهي وفي عربات المترو وحتي في الزيارات العائلية: إن صراع الحكم والمعارضة هو فقط علي السلطة, حكم منهمك في تحصينها والتشبث بها ومعارضة إما أن تنتزعها أو تقوضها. وكلاهما يلف ويدور طوافا في فلكها لا حول مشكلات مصر أو حلولها. الجرأة في مواجهة الواقع وشجاعة الاعتراف بحدود القدرات الذاتية والأدوات المتاحة, هي ما يفتقده المصريون حاليا في الحكام والمعارضين علي حد سواء. وإن استمر اللف والدوران منهجا للحكم والمعارضة, فإن الشارع المصري سيسقطهما معا- من حساباته.