عندما تحدث السيد وزير الداخلية في برنامج العاشرة مساء، عن انه اصدر تعليماته بعودة خضوع رئيس مباحث القسم للمأمور مرة أخري، أيقنت كضابط شرطة منذ سبعة وعشرين عاماً، أن الظواهر السلبية التي كنا نعانيها علي استحياء، تكثفت مجتمعة، ووصلت إلي قمة الجهاز الاداري في الوزارة، واقترن هذا اليقين عندي بيقين آخر، وهو أن ما تشهده الشرطة اليوم فيما يعرف إعلامياً بالانفلات الأمني، أو غياب رجال الشرطة، كان سيحدث سواء قامت الثورة أم لم تقم في موعدها، والذي يعنينا هنا أسباب حدوث هذا؟ ورؤيته من داخل جهاز الشرطة نفسه. الرؤية المغايرة لقد توقفت وزارة الداخلية عن التطوير الحقيقي منذ أن نزل المحتل الانجليزي، إلي الإسكندرية يوم 11يوليو 1882م، ولكي أتمكن من الحكم علي حالة الجمود، أو غياب التطوير، وموقف الشرطة منهما، كان يلزمني رؤية مغايرة لبيئة مخالفة للعمل الشرطي في مصر، وهذا ما أتاحته لي فرصة عملي في البعثة المصرية في الأممالمتحدةبإقليم كوسوفو، ولم يكن عملنا كمراقبين دوليين، وإنما كضباط شرطة مدنية لأول مرة، لبلد خرجت لتوها من حرب أهلية ضارية، وقصف عات لحلفاء الناتو، والجيش الامريكي، وتدخل للجيش السوفييتي، فأتيحت لي الفرصة أن أتعرف علي كيفية عمل الشرطة النموذجي، كما هو مطبق في صورته المثالية في الأممالمتحدة، من حيث طبيعة العمل، والإجراءات، والمعدات، والتجهيزات، وكيفية التعامل مع المواقف الأمنية، الروتينية، والطارئة، فقد بدأت عملي كرئيس لدورية أمنية، في قرية صغيرة اسمها"بودايفو" تقع شمال إقليم كوسوفو علي الحدود مع صربيا، وكانت خاضعة لحماية القوات البريطانية التابعة لحلف الناتو، ثم رقيت بعدها أربع مرات حتي أصبحت مديراً لإدارة تأمين المنشآت المهمة، والحيوية، في كل إقليم كوسوفو، مسئولا عن إدارة بها حوالي مائة وثمانين ضابط شرطة، من مختلف دول العالم، من الخمس قارات، ثم أنشأت فيما بعد إدارة المهام الخطرة، وهي مثل إدارة الترحيلات في مصر، ثم إدارة تأمين الشخصيات المهمة، ثم تم ضم هذه الإدارات، مع إدارة فض الشغب، في إدارة واحدة هي قطاع العمليات الخاصة، فكانت أوائل ملاحظاتي للرؤية المغايرة هي أن عمل الشرطة ينقسم إلي نوعين: الأول، هو أقسام البوليس، ومهمته الأمن كأمن فقط، والثاني، هو كل ما خرج عن عمل الأقسام، ويسمي العمليات الخاصة، فلم يكن هناك علاقة لمأمور القسم بوجود تشريفة لشخصية مهمة تتبع دائرته، ولا لتأمين مباراة كرة قدم في دائرته، فمثل هذه الأعمال تخرج عن اختصاص القسم، وتقوم بها العمليات الخاصة، سواء ترحيل متهمين، أو تأمين شخصية مهمة، أو حفل غنائي، فهذه الإدارة تقوم بهذا العمل بعيداً عن عمل القسم، الذي دوره الأمن فقط، في دائرته، والأمن يعني منع السرقات، والبلطجة، والجرائم بمختلف انواعها، وله أن يستعين بإدارة العمليات الخاصة إذا ما كان يواجه ظاهرة اكبر من طاقته فقط. حقيقة عمل ضابط الشرطة أما في مصر فإن المأمور مسئول عن كم من الخدمات البعيدة عن وظيفة الأمن، جعلته لا يتواجد في مكتبه نهائياً لمتابعة حتي بوستة القسم، مما جعل الأوامر تصدر منذ عام تقريباً بإخلاء المأمور من الخدمات ليتواجد بصفة مستمرة في القسم، فبات المأمور يجلس بمفرده في ديوان القسم! أو المركز، بينما كل ضباطه في خدمات، ويدير العمل لوبي من الرتب، والدرجات الدنيا في المكاتب الفرعية، فاكتشفت بالرؤية المغايرة أن ضابط الشرطة في مصر لا يعمل بالأمن؟ وإنما مشهلاتي تشريفات، فهو ، وهو نوبتجي القسم، أي المسئول عن تلقي البلاغات في النوبتجية، إما أن يرحل متهمين إلي النيابة، أو يرحلهم بعد العرض علي النيابة إلي السجن، أو يعود بهم إلي القسم، أو يخلي سبيلهم بالعرض علي أقسام إدارة البحث المختلفة لاستيفاء عدم كونهم مطلوبين في قضايا أخري، فيتركهم بالكلبشات يسيرون في الطريق العام مع شرطي الحراسة، وهو يحمل قرار إخلاء السبيل في يده للعرض علي "الشعبة" أي إدارة البحث الجنائي، وعند عودة ضابط نوبتجي القسم إلي القسم يفاجأ بأنه مكلف بخدمة مباراة كرة قدم، أو تشريفة لزيارة شخصية مهمة لدائرته، هنا يدخل عليه مواطن في بلاغ، فهل ننتظر من هذا الضابط أن يفحص هذا البلاغ؟ أم يسعي بقدر طاقته للتخلص من هذا البلاغ؟ ويترك مفاتيح غرفة الحجز لمساعده لكي يودع المتهمين في الحجز، ويخرج مسرعا للخدمة الأخري، وعندما يهرب متهم من الحجز يحال هذا الضابط للتحقيق، ويسأل عن التقصير في عمله! تصادف وجود سقطات إدارية من هذا النوع في جهاز الشرطة مع قيام ثورة يناير. ثورة يناير من الجانب الآخر! من اجل مواجهة المشكلة، علينا إعادة صياغتها بطرق مختلفة، فالمشكلة الأمنية اليوم يتم التعبير عنها من منطلق ثوري، فالإعلام ينظر إلي الشرطة نظرة خصامية، ثم يلقي عليها تبعة الخواء الامني المعاصر، ويستنهضون البرنامج الزمني لعودة الأمن، بصور سطحية، ومن اجل إعادة صياغة المشكلة، يلزم أن نصفها من داخل الجهاز الشرطي نفسه، فلم يكن الثوار المجتمعون بميدان التحرير، يتوقعون أن ترتفع طلباتهم إلي هذا القدر، ولا أن تحدث استجابة لطلباتهم علي هذا النحو، ولم يكن يدور بخلد المجتمعين بميدان التحرير أنهم يكتبون تاريخاً لثورة ما، وإنما الذي حدث هو وصول جهاز الشرطة إلي مرحلة الخواء الحقيقية، فتصادف هذا الوصول مع وجود الشباب في ميدان التحرير، فكل الحوادث من يوم انفجار كنيسة القديسين في الإسكندرية، في أوائل شهر يناير، إلي يوم الخامس والعشرين، ما هي إلا سوء إدارة، لعمليات الشرطة، حتي فيما بعد هذا التاريخ، يوم موقعة الجمل، فهي ترجمة لأقصي معاني العشوائية في إدارة الشرطة، فقوات الشرطة جميعها علي المستويات الجغرافية المختلفة، كانت في حالة طوارئ من قبل الثورة بحوالي شهر متصل الأيام، فقد أعلنت حالة الطوارئ في الأسبوع الأخير من العام المنصرم، بسبب احتفالات الإخوة المسيحيين، واستمرت معلنة إلي ما بعد هذا التاريخ، بسبب التفجيرات، وهي نفسها القوات التي انتشرت في كل ميادين محافظات الجمهورية، تحسباً لحدوث ما تم التوعد به علي صفحات الفيس بوك، يوم عيد الشرطة، فوقع حل الظرف الامني الراهن كله علي عاتق العسكري الدرجة الثانية، المجند إجبارياً، في الشرطة، لان مستواه الثقافي صفر، هذا الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين، محملاً بموروث من مشاكل مجتمع الريف، والصعيد، يقع علي عاتقه، أن يحفظ شكل الحكم في مصر، وان يكون متماسكاً، منضبطاً، في مواجهة المتظاهرين الثوار، وهو لم يخلع "البيادة" من قدمه، منذ شهر، ويتناول الثلاث وجبات في "أزان" موضوع له في منتصف صندوق اللوري الخلفي، وهو يرتدي تجهيزات غريبة الشكل، من صديري واقي من الطوب، وخوذة علي رأسه، و"شنكار" يلف قصبتي رجليه، مصنوع من بلاستيك مواسير الصرف الصحي مقاس 3بوصات، ويحمل فوق ذلك درعاً، بلاستكيا، بمقبض معدني، طوله قريب من طول العسكري، ويحمل في اليد اليمني عصا سوداء مصنوعة من مادة كاوتشوكية مصمتة، ومع اشتداد الحرارة خارج السيارة، ولان لونها غامق يمتص أشعة الشمس، ويعيد بخها علي العساكر في الصندوق، فتفوح رائحة العرق الخانق، والمفترض أن ينزل من هذه الأجواء، فرد امن فض شغب في أقصي حالات لياقته البدنية والنفسية، ليواجه مظاهرات سلمية، فحتي لو كان المتظاهرون يطوفون حول الكعبة، ونزل إليهم هذا العسكري بهذه الحالة لتحول طوافهم إلي ثورة، وحرب أهلية، وليس فقط المطالبة بتغيير النظام، فكل الأحداث فيما بعد هي تداعيات لصدامات، بين المتظاهرين، وأفراد شرطة، وضباط غير مدربين، وغير مؤهلين، وغير مستعدين لأداء أي تكليفات أمنية علي أي نحو من الأنحاء، وتكرر المشهد في نفس الوقت علي مستوي الجمهورية، فمن الطبيعي أن ينسب نجاح الثورة، إلي فشل إدارة عمليات الشرطة، مناصفة مع الثوار، وإصرارهم علي طلباتهم الثورية. الفروق الطبقية في الداخلية إذا كان وزير الداخلية يعاني ظاهرة استقلال عمل مباحث الوزارة عن الشرطة النظامية، فهذا يعكس عمق المشكلة التي تواجهها، وزارة الداخلية في بنية جهازها الاداري، وهي ظاهرة الفروق الطبقية بين عموم رجال الشرطة، فهناك فروق نوعية، وفروق تحت النوعية، أما الفروق النوعية فهي وجود أكثر من كادر يعمل في الوزارة، فهناك ضباط الشرطة، والأمناء، والدرجة الأولي، بمختلف رتبهم من درجة الشرطي، إلي المساعد أول الممتاز، وهناك المندوبون، وهناك فئة الخفراء، وكما توجد فئة خاصة، هي أمناء الشرطة الذين حصلوا علي ليسانس الحقوق، أثناء الخدمة، وتمت ترقيتهم إلي رتب الضباط، وهم ما يطلق عليهم اسم"الضابط التايوان"، كما توجد فئة ضباط الشرطة المتخصصين، وهم خريجو الكليات المختلفة، والملحقون بأكاديمية الشرطة، القسم الخاص، وهم من يطلق عليهم"الضباط الكاويتش"، أما الفروق تحت النوعية، فهي تقسم الجهاز الاداري في الشرطة إلي مباحث، ونظام، فالمباحث، هم من يعملون في إدارات البحث المختلفة علي مستوي الوزارة، في الأقسام، والمراكز، والإدارات، والمصالح، وهم يرتدون الملابس المدنية، ضباطاً، ومختلف الرتب، والدرجات، بينما الشرطة النظامية، فهم من يرتدون الملابس الرسمية، ويعملون في أقسام، ومراكز الشرطة، والإدارات، والمصالح، وفئات متدرجة من الموظفين المدنيين، كما كانت توجد فئة مميزة من رجال الشرطة وهم المباحث، وهم رجال مباحث امن الدولة، سواء ضباط، أو أمناء، أو أفراد، فقد بلغ مبلغ انعزالهم عن بقية الوزارة أنهم يمثلون رقابة مهما صغرت رتبهم، علي اكبر رتبة في المديرية، هذه التنويعات المتعددة من الكوادر الوظيفية في جهاز الشرطة، من شأنها أن تجعل عملية الإدارة نفسها عبئا، وليست وسيلة لتحقيق نتائج مستهدفة من العمل الخدمي، فإذا كان السيد الوزير قد أعلن ملاحظته عن استقلال ضابط مباحث القسم عن مأمور القسم، فهناك استقلال آخر بين المخبرين السريين، والشرطة النظامية، وعلي مستوي الضباط، بين العاملين في الأمن العام، أي في الأقسام والمراكز، ومديريات الأمن، وبين العاملين في المصالح والإدارات المختلفة، والفرق النوعي هذا مصدره الأول، نوعية السلطة الممنوحة لكل فئة، في التعامل مع المواطنين، من ناحية، والفرق في المرتبات من ناحية أخري، والتي تصل إلي حد العشرين ألف جنيه بين الضابط العامل في قسم شرطة، وزميله بنفس الرتبة العامل في شرطة متخصصة مثل الكهرباء، وكذلك علي مستوي بقية الرتب، والدرجات الفئوية، بل هناك بعض الجهات، لا يعرف عموم الضباط كم يتقاضي العاملون بها، فهي من الأسرار العليا! كل هذه الأجواء كيف يمكن من خلالها أن يتنبه العاملون بهذا الجهاز لأداء وظيفتهم الأولي، وهي الأمن؟ فالعمل في وزارة الداخلية أشبه بالعمل في التنظيمات السرية، بينما أثناء عملي في كوسوفو كان جميع الضباط، بمختلف الرتب، وبتنويعات جهات عملهم يتقاضون مرتبا واحدا، وكنا نصطف في صفوف أمام شبابيك الصرف تبعا لرقم مسلسل الهوية فقط، بدون زيادة أو نقص بين جميع الضباط، فلم تكن هناك هذه المشاكل التي يعانيها رجل الشرطة في مصر، والتي تكون أولي خطوات حلها، هو أن يتقاضي جميع ضباط الشرطة مرتبا واحدا، تبعاً لسنوات خبرتهم فقط، ودون تمييز جهة عن جهة أخري، فلا يكون هناك مجال لما يستنزف مجهود الضباط بالسعي بالوساطة، للعمل في الجهات المميزة. كان هذا جانب من جوانب غياب التطوير داخل الجهاز الاداري لوزارة الداخلية، والذي أدي بها إلي الانحطاط، هذا الانحطاط الذي تصادف مع قيام ثورة يناير، وكأن المصادفة الزمنية تقدم القرينة علي أن الأمن الذي كان قائماً قبل عيد الشرطة في العام 2011م كان أمناً معتمداً علي الستر الإلهي، لأنه لم يحدث أن واجه جهاز الشرطة ظاهرة أمنية شاملة في أكثر من جهة علي مستوي الدولة في وقت واحد، فانفضح أمر جهاز الشرطة يوم عيدها، ونسبت ظلماً للثورة.