ما الذي تفعله السياسة بالسياسيين؟ وهل تتسبب ظروف وتعقيدات وطموحات ومكائد العمل بالسياسة في إصابة الذين يدخلون عالمها بالأمراض النفسية؟ وهل يمكن أن تكون مصالح دولة في يد مرضي نفسيين دون أن يعلم الشعب ذلك أو يعلموا هم ذلك عن أنفسهم؟. الدراسات التي تناولت هذا الموضوع بشكل دقيق كثيرة ووقائعها دارت في مختلف العصور وفي بلاد متعددة, وكان أخرها في الشهر الماضي في بريطانيا. وكما يقول وزير الدفاع البريطاني الأسبق كيفان جونز إن السياسة هي لعبة قديمة وقاسية وليست لدي مشكلة في ذلك, لكن عليك أن تعترف بأنك لو إحتجت إلي طلب المساعدة في بعض الأحيان فإن هذا الطلب ليس بالضرورة علامة ضعف, ولا تخفي ما تمر به من متاعب نفسية والإعتراف هو البداية لتتخلص من هذه الأعراض. لقد تكشفت هذه القضية بشكل كبير عندما أعلن في بريطانيا عن أنه سوف يتم إنشاء مستشفي للصحة النفسية من أجل أعضاء البرلمان في ويست منيستر للمساعدة في علاج الأعداد المتزايدة للسياسيين الذين يعترفون بأنهم مصابون بالإكتئاب والتوتر والقلق. وقد وافق البرلمان مؤخرا علي مشروع قرار بإنشاء هذا المستشفي, وتتضمن القرار بندا يفيد بامكانية فقد عضو البرلمان لعضويته اذا ما طالت فترة علاجه عن ستة أشهر. وقد كشف كيفان جونز في يونيو الماضي عن أنه كان قد تعرض في عام1996 لحالة من الإكتئاب الشديد وأضاف ونحن الذين نعمل بالسياسة نميل إلي الإعتقاد بأن أحدا منا لو إعترف بإصابته بمرض نفسي فإنه يمكن أن ينظر إليه علي أنه غير مناسب للترشح للإنتخابات أو أن يكون عضوا سواء في مجلس العموم أو مجلس اللوردات. بالإضافة إلي أن ذلك قد يغلق الطريق أمامه لتولي أي منصب وزاري. وكان عدد قليل من البرلمانيين قد إعترف بحقيقة حالتهم النفسية مثل عضوتا مجلس العموم الدكتورة ساره ولاستون وأندريا ليدسم اللتان كشفتا عن أنهما سبق أن أصيبتا بالإكتئاب, كما إتم الكشف في عام2010 عن حصول عضو البرلمان عن حزب المحافظين ديفيد رافلي علي أجازة من البرلمان حتي يعالج من الإكتئاب الذي دفعه لمحاولة الإنتحار, وقد تلقي علاجا نفسيا بالفعل وشفي من الإكتئاب وعاد إلي عمله. بخلاف هذه الحالات التي كشفت عنها بالتفصيل صحيفة التايمز البريطانية توجد دراسات عديدة أجريت في عدد من دول العالم سواء في بريطانيا أو الولاياتالمتحدة أو غيرها, أظهرت نماذج لعدد من الشخصيات المشهورة التي أصيبت بأمراض نفسية سواء من الزعماء السياسيين أو من المبدعين في مجالات الأدب والموسيقي. ومن بين هذه الدراسات تلك التي أجراها اثنان من العلماء في جامعة كلورادو الأمريكية والتي كانت تركز علي دراسة الحالة النفسية للرئيس العراقي السابق صدام حسين, ووجدت الدراسة أن هناك تشابها كبيرا بين حالة كل من صدام حسين وهتلر, وأوضحت أن الرئيس العراقي السابق كان قد وصل إلي حالة نفسية مستعصية بعد إصابته بمجموعة من الأمراض النفسية مثل النرجسية وجنون العظمة والإضطراب الداخلي في الشخصية, ووجدت الدراسة أن صدام لديه كثير من الأعراض التي كانت قد ظهرت علي شخصية هتلر وإن كان بعض سمات شخصية صدام حسين كانت أشد قوة من مثيلتها لدي هتلر. وفي دراسة أخري كتبتها كاتي بنجامين المتخصصة في الدراسات النفسية لدي السياسيين قالت أن الزعيم البريطاني وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق كان أحد المصابين بالمرض النفسي وأنه عاني في حياته نوعين من الصراعات, الأول هو الصراعات الدولية مع القوي الأخري عندما كان رئيسا للوزراء والثاني صراع نفسي داخل عقله, وكان تشرشل قد إشتكي لبعض أصدقائه وهو في الثلاثين من عمره من أنه كان قد فكر في الإنتحار نتيجة إصابته بالحزن والإكتئاب, وقد ذكر تشرشل لطبيبه النفسي أنه كان يشعر بضرورة أن يأخذ حذره بشدة عندما يكون واقفا في محطة القطار لشعوره أن القطار سوف يصدمه. وتقول الدراسة أن تشرشل في الفترات التي كان يعاني فيها من الإنفعال الشديد كان يحاول الخروج من هذه الحالة بالجلوس طوال الليل علي مكتبه ليكتب لدرجة أنه قام بتأليف حوالي43 كتابا. تقول الدراسات أيضا أن من بين الشخصيات الأدبية التي أصيبت بالأعراض النفسية الكاتب الروائي الشهير تشارلز ديكنز, وبالرغم من أنه كان قد وصل إلي حياة إجتماعية مريحة ماديا إلا أنه لم يتخلص من أثار طفولته القاسية عندما كان يعمل في ورشة للأحذية بعد أن دخل والده السجن, وكان ديكنز يصاب بحالات إكتئاب كلما بدأ في كتابة رواية جديدة, ويظل منفعلا إلي أن ينتهي من كتابة روايته, وبعدها تبدأ حالته في التحسن وأن كان مرض الإكتئاب الذي أصيب به كان يزداد سوءا مع تقدمه في العمر. ومن هؤلاء أيضا الموسيقار العالمي بيتهوفن والذي كان يعالج من متاعب صحية متعددة ومن تعاطيه للكحوليات لعشرات السنين, وكانت حالة الإنفعال الشديد التي يعاني منها بيتهوفن معروفة لدي دائرة أصدقائه. وهناك جانب أخر لأسباب الإصابة بالأمراض النفسية قام بدراستها البروفسور ديفيد فوربس مدير المركز الأسترالي للصحة النفسية بجامعة ملبورن, وقد ذكر أن الميجور جون كانتويل, وهو قائد عسكري, قد أعلن أمام البرلمان الأسترالي عن تزايد عدد الجنود الذين يعودون من عمليات عسكرية وقد أصابتهم أمراض نفسية شديدة تستمر معانتهم النفسية وحالات التوتر لفترة طويلة بعد العودة. وقد ظهرت هذه الأعراض بوضوح في الفترة من يناير2010 وحتي يناير2011 بالنسبة للقوات العائدة من أفغانستان والتي ظهرت علي أفرادها أعراض التوتر والإكتئاب. وقد ظهرت الأعراض بقوة علي الجنود البريطانيين والأمريكيين العائدين من العراق وأفغانستان, لكن نسبة الإصابة كانت أكبر لدي الجنود الأمريكيين حيث وصلت إلي20% وأقل من10% بين الجنود البريطانيين, وهو ما دفع القيادات العسكرية لتنظيم برامج للعلاج النفسي وتقديم المساعدات المطلوبة في هذا المجال للجنود وعائلاتهم حتي يستعيدوا حالاتهم الطبيعية. ربما كانت الإصابات بين السياسيين بالأمراض النفسية هي التي أدت إلي ظهور دعوات في دول كثيرة بضرورة إجراء الكشف الطبي النفسي علي من يدخلون مجال العمل السياسي سواء للترشح كأعضاء في البرلمان أو يكونوا مرشحين لتولي مناصب هامة وقيادية, لكن البعض من المتخصصين في هذه الدول كان له وجهة نظر تري أن الإصابة بالمرض النفسي قد يصاب بها الفرد بعد دخوله في دوامات العمل السياسي المعقدة.