يبدو أن مصر سوف تستيقظ ذات يوم, لتجد غابات الأسمنت قد احتلت الرقعة الزراعية بالكامل, ففي وقت نتحدث فيه عن فجوة الغذاء, وارتفاع اسعار المحاصيل الزراعية. نجد المباني المخالفة قد التهمت نحو29.5 ألف فدان من أخصب, وأجود الأراضي بالدلتا والوادي, منذ قيام ثورة25 يناير حتي الآن, وقد حظيت مناطق الدلتا بأكبر قدر من التعديات, حيث جاءت محافظة المنوفية في المقدمة بنحو3 آلاف و373 فدانا, تليها البحيرة, ثم الشرقية وكفر الشيخ... ومازالت الرقعة الزراعية تتقلص, وسرطان البناء ينتشر في مساحات كبيرة... فالناس تبني... والقانون لم يعد رادعا للمخالفين...! وبشكل عام, فقد تضخمت ظاهرة مخالفات البناء خلال العامين الأخيرين بعد الثورة بصورة كبيرة, مما أسهم في تقليص الرقعة الزراعية, وكبد الاقتصاد المحلي خسائر مالية تقدر بمليارات الجنيهات... هكذا قال لنا الدكتور حسن علام, رئيس الجهاز الفني للتفتيش علي أعمال البناء حيث بلغ إجمالي العقارات المقامة دون ترخيص نحو317 الفا و948 عقارا صدر لها356 الفا و507 قرارات ازالة معتمدة من السادة المحافظين ولم يتم تنفيذ أي منها, أما نسبة العقارات المقامة دون ترخيص قبل يناير2011 فتمثل32.50% من اجمالي العقارات, بينما تمثل نسبة العقارات المقامة بدون ترخيص بعد يناير2011 نحو67.50% من اجمالي العقارات, اما العقارات التي صدر لها تراخيص ولكن تمت مخالفتها فتبلغ25 الفا و277 عقارا صدر لها90 الف قرار بالإزالة, بينما بلغت نسبة العقارات بترخيص ولكن مخالفة قبل يناير30.702011% من اجمالي العقارات, بينما بلغت نسبة العقارات المقامة دون ترخيص بعد يناير2011 نحو69.30% من اجمالي العقارات, وجاءت محافظة الغربية في مقدمة المحافظات التي تحتوي علي عقارات مخالفة بمعدل40 الف عقار تليها الدقهلية36 الفا و329 عقارا, تم بناء معظمها علي أراض زراعية, ثم المنيا34 الفا و203 عقارات, ثم الشرقية32 ألفا و795 عقار ثم الجيزة32 الفا و495 عقارا, فيما جاءت محافظة الاسكندرية في المرتبة التاسعة حيث بلغ عدد العقارات دون ترخيص بها نحو14 الفا و521 عقارا منها3666 عقارا قبل يناير2011 و10 آلاف و855 عقارا بعد يناير2011 بنسبة زيادة تقدر بنحو300% وتعتبر محافظة بورسعيد هي أقل محافظة في عدد العقارات غير المرخصة, التي بلغت نحو25 عقارا دون ترخيص, الأمر الذي يستوجب ضرورة التصدي لتلك الظاهرة الخطيرة لايقاف نزيف الاقتصاد القومي, ورفع العبء الثقيل الذي ألقته جرائم مخالفات البناء علي مرافق الدولة, قبل أن تصل تلك الظاهرة لمرحلة تستعصي فيها علي الحل. المرافق مهددة وتتعدد مخاطر البناء علي الأراضي الزراعية, فمن ناحية تؤدي هذه الظاهرة إلي تآكل الرقعة الزراعية, التي تتناقص بمعدل3.5 فدان كل ساعة طبقا لارقام مركز بحوث الصحراء وتتصدر محافظتا الغربية, والدقهلية قائمة المخالفات حيث تضمان أكبر عدد من العقارات غير المرخصة, كما أن البناء بدون ترخيص يمثل ضغطا علي مرافق الدولة مما أدي الي ظاهرة انقطاع التيار الكهربي, وانقطاع المياه, وهي الظاهرة التي ستتفاقم بمرور الوقت, وستزداد شراسة في حالة استمرار البناء المخالف, وإدخال المرافق للعقارات المخالفة. ناهيك عن المساحات المهدرة حول المبني ظل المبني التي تتراوح بين3 و5 أمثال المساحة المبنية, وهي بطبيعة الحال لاتصلح للزراعة, ومن ثم يتم تبويرها هي الأخري, ليتم في مرحلة لاحقة البناء عليها. ثغرات قانونية وبرغم كارثة البناء المخالف علي الأراضي الزراعية فإن قضايا البناء تحصل علي البراءة, بسبب ثغرات في القانون رقم119 لسنة2000, الذي يحظر البناء علي الأراضي الزراعية خارج كردون القرية أو المدينة, الي جانب المواد151 و152 و155 و156 من قانون الزراعة رقم53 لسنة1966 والمعدل بالقانونين رقمي116 لسنة1983, و2 لسنة1985, حيث حظر المشرع المساس بالرقعة الزراعية سواء عن طريق تبويرها أو إقامة منشآت عليها, ولم يكتف بمجرد الحماية الجنائية بتجريم صور التعدي عليها, وأناط بوزير الزراعة سلطة وقف أسباب المخالفة وإزالتها بالطريق الإداري.. أما في حالة البناء علي أرض زراعية, فقد أناط المشرع بوزير الزراعة سلطة وقف أسباب المخالفة بالطريق الإداري, ولم يخوله سلطة إزالتها حيث ينعقد الاختصاص بذلك للمحكمة الجنائية, ومن ثم فإن صدور قرار من المحافظ المختص بإزالة المبني المقام علي الأرض الزراعية, يكون قد صدر من غير مختص بإصداره مخالفا للقانون... من هنا يكون القانون قد خول وزير الزراعة سلطة وقف أسباب المخالفة بالطريق الإداري وإزالتها في حالة ما غذا كانت منشأة... بينما سلبه حق الإزالة في حالة البناء وسمح له فقط بوقف اسباب المخالفة بالطريق الاداري... ومن هنا انتشر سرطان التعديات!! ولاتتعجبوا, فبعد صدور الحكم بالبراءة من مخالفة البناء علي الأرض الزراعية, يتمكن المخالف من توصيل المرافق كهرباء مياه صرف صحي فمن حق المخالف توصيل هذه الخدمات وفقا للدستور والقانون... ويجري تقنين هذا الوضع المخالف من خلال ما يسمي عداد الممارسة, أي يسدد المخالف مبلغا محددا شهريا نظير استفادته من كل خدمة من هذه الخدمات. فجوة غذائية في حين يري الدكتور عبدالعليم متولي,أستاذ المحاصيل الزراعية بكلية الزراعة جامعة القاهرة أن الإحصاءات الخاصة بالتعدي علي الأراضي الزراعية غير دقيقة, حيث لن تقل المساحات التي تم التعدي عليها بالبناء المخالف في تقديره عن نصف مليون فدان, مشيرا إلي أن هذه الظاهرة تؤدي إلي تقليص المساحات المخصصة لزراعة المحاصيل خاصة الحقلية كالقمح, والذرة, والأرز, والبرسيم, والقطن, الأمر الذي سيترتب عليه زيادة الفجوة الغذائية, حيث تستورد مصر نحو06% من غذائها, منها نحو9 ملايين طن قمح, كما نستورد6 ملايين طن ذرة علي أقل تقدير, ومليون طن ذرة فول الصويا, ونصف مليون طن كسب, ومليون طن زيت أو أكثر, ونستورد أيضا ثلث احتياجاتنا من السكر.. ومن أجل التصدي لهذه الظاهرة يجب تحديد كردونات للمدن, ومنع البناء نهائيا علي الأراضي الواقعة في المناطق ذات الظهير الصحراوي, كما يجب عدم توصيل المرافق للمباني المخالفة, ويتساءل: لماذا يتم اقتطاع مساحات من الأراضي الزراعية لبناء جامعة.. وفلماذا لا تتم إقامتها في صحراء بلبيس؟ وتتزامن تلك التعديات مع تقديرات الأممالمتحدة, والتي أعلنت خلال الاحتفال العالمي السنوي بيوم التصحر الذي يوافق71 يونيو من كل عام, أن مصر احتلت المركز الأول في معدلات التصحر, بسبب انكماش مساحات الأراضي الزراعية, وتدهور خصوبتها وانخفاض انتاجيتها بسبب تزايد معدلات التعديات عليها, فمصر تفقد نحو3,5 فدان من أراضيها الزراعية الخصبة والمحدودة بالدلتا كل ساعة, بسبب استمرار الزحف العمراني والبناء العشوائي وهو مايعد معدلا قياسيا غير مسبوق عالميا في نسب التصحر, الأمر الذي يؤكد الاتساع المتزايد لحجم الفجوة الغذائية والاحتمال المؤكد لارتفاع فاتورة استيراد السلع الغذائية, وهو مايهدد مصر مستقبلا ويجعلها علي شفا مجاعة غذائية. ثروة في مهب الريح مخالفات البناء علي الأراضي الزراعية كما يراها الدكتور عبد المنعم محمد الجلا استاذ الأراضي بكلية الزراعة جامعة عين شمس تمثل إهدارا لهذه الثروة, التي يجب الحفاظ عليها من أجل الأجيال القادمة, والخطورة تأتي من أن69% من أراضي مصر صحراء, بينما تقدر المساحة المزروعة بنحو7,5 مليون فدان تقريبا, بينما تقدر المساحة المحصولية والتي يتم حسابها علي أساس زراعة الأرض مرتين في العام بنحو41 مليون فدان, وبذلك يتبين لنا ضآلة حجم المساحة الزراعية, وبالتالي يجب التصدي لظاهرة البناء المخالف علي الأراضي الزراعية التي تعتبر مصدر غذاء للمصريين, ولحيواناتهم, وهذه التعديات تمثل ظاهرة خطيرة تقود ثروة مصر الزراعية المنتجة الي التصحر لا محالة, وتقلل من الانتاج الزراعي.. وبالتالي لابد من تطبيق القانون بكل حزم وحسم, وإزالة هذه المباني, أو تقدير قيمتها كأراض للبناء, وتحصيل هذه المبالغ لمصلحة الخزانة العامة للدولة, واستخدامها في تنمية القري المصرية وإقامة مشروعات صغيرة لتشغيل الشباب. الحل يبدأ من هنا والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة ؟ الحل كما يقول الدكتور حسن علام رئيس الجهاز الفني للتفتيش علي أعمال البناء يتطلب استراتيجية للمواجهة, تقوم علي جعل المخالفة غير مجدية للمخالف حتي لا يتمكن من الانتفاع بمخالفته, الي جانب ضرورة سد الثغرات القانونية بين الأحياء, والشرطة, والنيابة, والقضاء حتي ينال المخالف العقاب الذي يمنعه من الاستمرار في المخالفة, كذ لك من الأهمية تفعيل دور الأجهزة الرقابية لمحاصرة ظاهرة الفساد في الأجهزة الادارية, فضلا عن ضرورة تعديل اللائحة التنفيذية لقانون البناء الموحد911 لسنة8002 وقد شارفت وزارة الاسكان علي الانتهاء منها من خلال لجنة تم تشكيلها برئاسة السيد الوزير, الي جانب أهمية النظر في التعديلات اللازمة للقانون نفسه, وتجهيزها للعرض علي المجلس التشريعي لاقرارها, ومطالبة مجلس الوزراء باعادة هيكلة جهاز التفتيش الفني علي اعمال البناء, وتقويته, حيث يعمل به نحو71 مهندسا و32 مهندسة, ومطلوب منه التفتيش علي أعمال البناء في00044 قرية وتابع و8274 وحدة محلية و083 مجلس مدينة وحيا وجهاز مدينة وليس له إلا أربعة فروع في المنصورة, والاسكندرية, والفيوم, وأسوان, الأمر الذي يستلزم ضرورة هيكلة ذلك الجهاز, الذي لم يحظ منذ انشائه بالقرار الجمهوري92 لسنة3991 أي قبل02 عاما, بهيكل تنظيمي ولا ميزانية ولا شخصية اعتبارية, كما تمت مخاطبة النائب العام بضرورة عرض مخالفة البناء بدون ترخيص مع سؤال المخالف في محضر رسمي, سدا للثغرة الناتجة عن تطبيق المادة95 من القانون911 لسنة8002, والتي تشترط الاعلان الاداري للمخالف, ومخاطبة وزير العدل لسد الثغرات القانونية التي تؤدي الي حصول المخالفين علي أحكام براءات قضائية من خلال مناقشة التعديلات التشريعية المطلوبة لسد الثغرات في القانون واللائحة التنفيذية, ودراسة إنشاء نيابة خاصة بالبلدية ومحاكم للبلدية أو علي أقل تقدير تخصيص دوائر بعينها للنظر في مخالفات المباني, ودراسة تعديل قانون العقوبات بتحويل البناء بدون ترخيص من جناية أو استثناء انقضاء الدعوي بمضي ثلاث سنوات, أو اضافة نص لجميع الأحكام علي ان انقضاء الدعوي للمخالف دون المخالفة مع مركز بحوث الدراسات القضائية بوزارة العدل, والمطالبة بإلغاء قرار رئيس مجلس الوزراء الخاص باعتماد صحة التوقيع كسند للملكية والصادر سنة8991 وهو السبب في انتشار مخالفات المباني بالاسكندرية, وكذلك مخاطبة وزارة الداخلية لإنشاء شرطة خاصة بالبلدية تكون مهمتها متابعة والتحري عن المخالفين بالبناء علي الأراضي الزراعية. انتهت القضية, وعلي مايبدو أن مسلسل الاعتداء علي الرقعة الزراعية سوف يظل مستمرا, مادامت الرقابة غائبة.. والمسئولية تائهة.. والقانون في إجازة!