علي مدار الأشهر الثمانية الماضية عشت بالقرب من الصحافة المصرية,وعايشت أوضاعها ومشكلاتها, واقتربت من نورها ونارها, ووقفت علي التحديات التي تواجه صناعة الخبر في الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. وقد تواصلت مع كل المؤسسات الصحفية والإعلامية قدر المستطاع ولاحظت,بل أيقنت, أن الجدل الدائر حول دور الإعلام في صناعة الأزمة السياسية هو أزمة في حد ذاته,لان الجميع يشكو الجميع. ولذلك فإنني أدركت أن تقييم المشهد الصحفي والإعلامي عموما لابد أن يبدأ من السؤال حول حرية تدفق المعلومات من مصادرها, أما السؤال الثاني أو القضية الثانية فهي بلا شك قضية التمويل وتأثير جماعات المصالح علي المشهد الاعلامي المصري وخاصة في هذا التوقيت الدقيق من تاريخ مصر. ولأن حق الوصول إلي المعلومات هو حجر الزاوية في بنيان حرية التعبير والرأي وحرية الصحافة, فلا يمكن بالتالي أن نتصور إعمال حق حرية التعبير دون حق الوصول إلي المعلومات. ولأن أغلب المعلومات موجودة عند المجتمع ومؤسساته, فلابد أن تبادر تلك المؤسسات إلي فتح النوافذ من أجل معلومة متاحة تمنع وتسد الباب علي صحافة الشائعات والاختلاقات التي تضر بالمجتمع وتجربته ونضاله في المرحلة الدقيقة الراهنة. ولترجمة مبدأ الشفافية والمشاركة في اتخاذ القرار والمحاسبة الدقيقة علي الأخطاء يجب تسهيل مهمة المؤسسات الصحفية في الحصول علي المعلومات لنشرها وإيجاد سوق حرة لمناقشتها والوصول إلي أكبر قدر من الاتفاق عليها. وقد أقرت الهيئة العامة للأمم المتحدة في اجتماع لها في1946/12/14 منذ ذلك التاريخ البعيد' إن حرية المعلومات هي حق أساسي للإنسان, وحجر الزاوية لجميع الحريات التي تنادي بها الأممالمتحدة.'. وبعد ذلك تكررت النداءات والنصوص في تفسير حق التماس وتلقي وبث المعلومات والآراء كما جاء واضحا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, والمعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والميثاق العربي لحقوق الإنسان, حيث أكدت جميعها حق الوصول إلي المعلومات, وإن أي تدخل غير مشروع لمنع وصولها يكون انتهاكا لحق الفرد الذي يريد التماس هذه المعلومات وتلقيها وحق فرد آخر في بث هذه المعلومات لغيره ومشاركته إياه. ولذلك لابد من دعم وسائل الاتصال التي تتيح استقبال المعلومات وبثها والتعبير عن كافة الآراء, واعتبار ذلك حقا أساسيا, بل لصيق لا ينفصل عن مبادئ حقوق الإنسان وليس سلعة متاحة فقط لمن يمكنه الحصول عليها, كما أن للجمهور حقا في المعرفة وفي الإطلاع علي المعلومات التي تعد من أحد أهم ركائز البناء الديمقراطي لأي دولة في العالم,ويلاحظ أن هناك تزايدا في عدد الدول التي تبنت إقرار تشريعات متكاملة تضمن حق الوصول إلي المعلومات, وهناك الآن أكثر من تسعين دولة في العالم لديها مثل هذه القوانين.. وبلا شك فإن حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة ليست مطلقة ولذلك يجوز فرض تقييدات عليها حماية لمصالح أخري أجدر بالرعاية كالأمن القومي والحفاظ علي استقلال القضاء والمحاكمة العادلة والخصوصية, وفي كل الأحوال لابد من إحداث الموازنة بين الحقوق المتنافسة وتغليب أحدها علي الآخر. ولذلك فإن المواثيق الدولية سالفة الذكر تقيد حرية التعبير حماية للأمن القومي للدولة, لكن وفق معايير محددة تفرض إجراء ما يعرف بالفحص الثلاثي عند فرض التقييد, بأن يكون التقييد محددا بنص القانون وواضحا وضروريا, وذلك حماية لمصلحة أجدر بالرعاية في المجتمع. وقد عاشت الصحافة والإعلام المصري سنوات طويلة من التضييق والحصار وغياب حق الاطلاع علي المعلومات من مصادرها مما روج لكثير من المشكلات في بنية الإعلام المصري وأثر علي القدرات المهنية لبعض المؤسسات الصحفية التي اعتمدت علي أدوات غير واضحة و غير شفافة من خلال الارتباط ببعض الاجهزة والمؤسسات حتي تستمر في الوجود. وحيث إن سياسات التخفي خلف مفاهيم غامضة وترسانة من قوانين حجب المعلومات عن الناس كان هو الستار الذي تستخدمه الأنظمة السابقة علي ثورة يناير2011 ولذلك فان الضرورة تقتضي الانتهاء في أسرع وقت من مجموعة من الاجراءات والتشريعات لحماية الصحافة والمجتمع من هذا الجدل الذي أشرنا اليه حول الازمة. كانت مصر قبل الثورة من الدول التي تأخذ بمبدأ السرية في كل شيء والعلنية كانت استثناء خصوصا في المشهد السياسي أو في الاتفاقيات الاقتصادية التي تبرمها مصر مع بعض دول العالم,ولكن ثورة المعلومات والانترنت في نهاية القرن العشرين أدت إلي معرفة ماذا يدور في مصر من خارج مصر وبسهولة, وذلك من الدول والهيئات التي تتعاقد أو توقع السلطات المصرية اتفاقيات معها, وأفضل مثال علي ذلك اتفاق تصدير الغاز إلي إسرائيل فقد حصل نواب مجلس الشعب علي العقد من نائب عربي في الكنيست الاسرائيلي وفشل النواب في مصر بإلزام الحكومة المصرية تسليمهم نسخة عن هذه المعلومات ورغم توقيع مصر علي أغلب الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والاتفاقيات الاقتصادية وعضويتها في جميع المنظمات الدولية المعنية بالمعلومات والمعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات إلا أن الترسانة القانونية تحتاج الي مراجعة عاجلة تتناسب مع الجمهورية الجديدة. ولأننا ورثنا من العصور السابقة ترسانة قانونية مقيدة لتداول المعلومات هذه الترسانة مكنت الحكومات السابقة علي ثورة يناير2011 من فرض وصايتها علي كل شيئ حيث لم تكن تسمح إلا بنشر المعلومات التي تري أنها تدعم موقفها وسياستها حيث إن مصر وفي احصائية قرأتها منذ فترة طويلة كان بها عبر العقود والانظمة السابقة اكثر من خمسين قانونا أو مواد في قوانين تقيد الحق في تداول المعلومات أو تنسفه من الأساس. ولعل المحاولة الاخيرة قبل الثورة لهدم هذه الترسانة من القوانين المقيدة كانت في مكتبة الاسكندرية عام2008, حيث عقد مؤتمر هام حول حرية تداول المعلومات شاركت فيه الحكومة والمجتمع المدني وقيادات صحفية وإعلامية.. وفي أول تصريح رسمي عن نية الحكومة المصرية آنذاك إعداد مشروع لتداول المعلومات قال د. أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية إن صدور قانون حرية تداول المعلومات في حد ذاته يوفر مناخا جاذبا للاستثمار, يساعد المستثمر سواء كان مصريا أو أجنبيا علي وضع دراسة مستقبلية والتعرف علي مدي الاستقرار في البلاد, وكشف وقتها درويش عن تشكيل لجنة في وزارة الاتصالات لإعداد المشروع, ولكن هذا المشروع لم ير النور. لكن الأيام القادمة ستحمل جهودا حثيثة من الحكومة المصرية من أجل الانتهاء من هذه التشريعات وهدم الترسانة المعوقة والمقيدة لتداول المعلومات خصوصا بعد إقرار الدستور المصري الجديد, أملا في صحافة مصرية أكثر صدقا ومهنية لدعم تجربة مصر في التحول الديمقراطي.