لم تعرف البشرية جمعاء مؤتمرا عالميا بهذا الحشد الهائل والنفوس الطاهرة والشعارات المقدسة مثل الحج إلي بيت الله الحرام والوقوف بعرفة. أربعة ملايين مسلم لبوا نداء الله من كل فج عميق من كافة أرجاء الأرض. ومن كل جنسيات البشر وألوانها, الأبيض والأسود والأحمر والأصفر من الصين واستراليا وبلاد العرب وماليزيا من روسيا وأمريكا وأوروبا من كل مكان لغات كثيرة مجهولة ومعلومة, لكنها توحدت كلها علي شعارات عربية إسلامية راقية, لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. إلي غيرها من النداءات والعبارات المقدسة هذا الحشد الضخم لا يمكن التمييز فيه بين فقير وغني, فالكل قد اتخذ رداء بسيطا موحدا وضعت له من الضوابط الشرعية لا يمكن لأحد أن يجعل منه ثياب شهرة أو زهو أو خيلاء, فلم نر أو نسمع عن ثري أو غني أو أمير قد زين ملابس إحرامه بخيوط الذهب أو الحرير كما يحدث مثلا في غير الحج. كل هذا وغيره يهييء ويعد هذا الجمع الغفير لأهداف سامية ومنافع كبري في الدنيا والأخرة, ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله ومن بين هذه المنافع واستثمارا لهذا العدد الكبير والجنسيات المتعددة والبلدان الكثيرة يأتي مؤتمر الحج, المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة القضايا الكبري, ومن هذا المنطلق كانت خطبة الوداع لرسول الله صلي الله عليه وسلم, والتي جمعت من ركائز الإصلاح الإنساني العام والإسلامي الخاص, ما عجزت أمامه الآن قوانين البشر, فالآن وبعد أكثر من أربعة عشر قرنا مازال أساطين القانون الوضعي يبحثون قضية كرامة الإنسان ومازالت جحافل الظلم ويد البطش والقوة تدوس علي جماجم الفقراء في أفغانستانوفلسطين والصومال والعراق وغيرها, ومازال الإنسان مسلما أو غير مسلم لا يراعي لدم أخيه حرمة, ولا لصوته وحريته قيمة, كما يحدث الآن في سوريا واليمن وكما حدث ومازال في مصر وليبيا وتونس وغيرها هذه الممارسات البشعة من الإنسان لأخيه الإنسان في القرن الخامس عشر الهجري قد أكد النبي محمد صلي الله عليه وسلم علي حرمتها وحذر منها أشد ما يكون التحذير في خطبة الوداع وفي مؤتمر المسلمين في الحج الأكبر حيث قال صلي الله عليه وسلم مخاطبا الناس جميعا: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلي يوم تلقون ربكم. الخطاب للناس جميعا أيها الناس وإن كان المؤتمر إسلاميا والنبي محمد صلي الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي ومما يؤكد إنسانية الخطاب وعمومة.. منهج الإسلام في تكريم الإنسان وتقديس حقوقه وتفضيله حيث قال تعالي: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا كذلك مما يؤكد عمومية الخطاب في خطبة الوداع تعظيم النبي صلي الله عليه وسلم للنفس الإنسانية عامة والحث علي حياتها والتحذير من قتلها حين سئل صلي الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: الإشراك بالله وقتل النفس فكلمة النفس تشمل أي نفس تقتل دون وجه حق.ولعل في هذا الحديث ما يحدد جرم القاتل, وأنه والمشرك سواء لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مسلم إلي هذا الحد كان تقدير الإسلام لكرامة الإنسان وحرمة الدماء وهول القتل, وكما جرم الإسلام في خطبة الوداع وغيرها القتل فقد جرم أيضا في ذات الخطبة الأموال وسلبها ونهبها واغتصابها كما في نص الخطبة إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. وفي سياق كرامة وحقوق الإنسان نقتبس من خطبة الوداع تكريم الإسلام للمرأة وتقديره لحقوقها وكرامتها, وفي حديث عام أيضا للناس أجمعين قال صلي الله عليه وسلم: أيها الناس إن لكم علي نسائكم حقا ولهن عليكم حقا.. إلي أن يقول: استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا, وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله. قضية مصيرية أخري لا تنفك البشرية من مناقشتها منذ فجر التاريخ وإلي اليوم, إنها قضية المرأة والتي تمثل نصف المجتمع, ومسئولة عن تربية وإصلاح وتنشئة النصف الآخر, ما كان لرسول الله صلي الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي عن ربه ومصلح البشرية الأول أن يترك هذه القضية, دونما إشارة إلي حلها وخاصة في هذا المؤتمر العظيم. وكأنه صلي الله عليه وسلم يري ما نحن فيه الآن, فالدماء الإنسانية والإسلامية تسفك بلا مبالاة لحرمتها, وكذلك أيضا الأموال وخاصة في بلاد المسلمين تسلب بلا عد ولا اعتبار لحق, المليارات قد سرقها الحكام وأولادهم وأعوانهم سرقوها من الشعوب الفقيرة والمريضة في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن وغيرها. ولعل في حج هذا العام مؤتمر يناقش فيه المسئولين وأهل الفكر والرشاد مثل هذه القضايا في ظلال حجة الوداع, قضايا السياسة وأصول الحكم وقواعده من الشوري والديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان, والتي بدورها تأتي بحاكم يحمل مؤهلات القيادة والحكم في العدل والنزاهة والحكمة والسياسة الرشيدة. لعل في مؤتمر الحج هذا العام مناقشة قضية الظلم وتفاوت الدخول وسفه الإنفاق والتبذير في وقت يئن فيه الكثيرين من الفقر والجوع والمرض. إن مما يثير الدهشة والألم والحسرة في النفوس أن أغني دولة في العالم دولة إسلامية وهي بروناي, وأفقر دولة في العالم دولة إسلامية هي بنجلاديش. إن دولا كثيرة في الخليج وبروناي تشكو الثراء الفاحش وإن دولا إفريقية تشكو إلي الله الجوع والفقر والمرض وتسأله ما يسد الرمق وحسب وتلك هي صور الجياع في الصومال ليست ببعيدة عنا. ولعل في مؤتمر الحج هذا العام من يناقش قضية احتلال إسرائيل لفلسطين والأقصي ومحاولات تهويده وتدميره وهدمه من خلال الحفريات المزعومة والتعديات المستمرة فضلا عن ممارسات القهر والحصار والسجن والحرب علي إخواننا في فلسطين وخاصة في غزة. لعل في مؤتمر الحج من يطرح قضية وحدة الأمة الإسلامية ولم شتاتها واستثمار طاقاتها ومقدراتها الكبيرة من أموال البترول ومنافذ البحار والخلجان والموقع الجغرافي الفريد بين الشرق والغرب والأنهار والأراضي الزراعية والصحاري الغنية وغير ذلك مما أعطاه الله لأمة الإسلام لتنفقه علي كل خير ونافع ولا تبذره علي كل ضار وفاسد. لعل في مؤتمر الحج مناقشة قضية المرأة وهي قضية أحسبها من القضايا الكبري التي تمثل مشكلة ضخمة بسبب تفاوت الفهم من سنة النبي وكذلك بسبب موجات التغريب التي تتعرض لها أمة الإسلام فمن المؤسف أن نري أناسا مازالوا يفهمون قول الرسول صلي الله عليه وسلم: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها أو كما قال- يفهمه البعض بمفهوم العلوية والسلطة الجائرة فنراه يعامل المرأة كأنها رقيق وقد مضي زمن الرقيق, وفي المقابل نري فريقا آخر قد سلك طريق التغريب والفرنجة فيطالب بحقوق للمرأة تتجاوز حدود الشرع والعقل بل ذهب المسئولون منهم إلي أبعد من ذلك فسنوا لذلك القوانين الوضعية التي لا تزيد المرأة إلا فسادا ولا تضيف إلي الأسرة إلا تفككا وضياعا. لعل في الحج من يدارس هذه القضية ويعيدها إلي الوسطية الإسلامية السمحاء بين الأفراط والتفريط, فالإسلام لا يقبل أن تباع المرأة في سوق الرقيق كما لا يقبل أن تنفلت من عقالها الشرعي وتتجرد من عفتها وكرامتها وحشمتها وتعرض مفاتنها بلا ضابط من الدين والقيم, وتبالغ في طلب حقوقها بما يؤثر علي حقوق الرجال, كما يذهب بطبيعة المرأة وقيادها واستئناسها... كل هذا يؤدي إلي الخلل الذي تعيشه مجتمعاتنا وأسرنا ويحتاج إلي مراجع عامة وثقافة تربوية وأسرية رشيدة شاملة. قضايا مصيرية عديدة إنسانية وإسلامية يعيشها العالم خاصة العربي والإسلامي عالجها الإسلام, خاصة في مؤتمر الحج الأكبر في خطبة الوداع وفي هذا رسالة إلي ضرورة استثمار مؤتمر الحج في علاج مثل هذه القضايا ليعود النفع علي العالم وعلي المسلمين وليتجسد قول الله تعالي: ليشهدوا منافع لهم صدق الله العظيم.