الصبح أهو نور واتبسم, والدنيا ضحكلي محياها.. هكذا مضت أم كلثوم تغني, وهي عندي صادقة دائما, فتفاءلت باليوم خيرا وأدرت مؤشر الراديو إلي محطة إخبارية لأطمئن علي أحوال العالم فإذا به يضرب.. يقلب. شرقنا الأوسط بين حروب أهلية وشبه أهلية وانقسام ومظاهرات, رصاص منطلق ودماء تسيل وأرواح تزهق, وأوروبا تصارع سكرات إفلاس اليورو. فأغلقت الراديو واستأنفت استعدادي ليوم حافل, فقرات في الأهرام حديثا لهيكل مع حفظ الألقاب يقول فيه إن الوطن العربي يتعرض لمؤامرة سايكس بيكو جديدة, حيث يجري تقسيمه بين الدول العظمي وأعطي أمثلة مؤكدة لذلك في السودان واليمن والعراق وسوريا وحددها لنا في شكل انفجارات علي خريطة. ولكن الخريطة لم توضح لنا ما هو وضع مصر في التقسيمة. غادرت المنزل, وعلي الرصيف بدأت في تخطي حجارته قافزا فهو يعاد رصفه من جديد, ببلاط كالأول تماما, رقيق كالبسكوت وكان قبل ذلك مغطي بأسمنت في تماسك المهلبية فسألت نفسي: شلتوا الرصيف وحطيتو رصيف, مين خد.. ومين دفع التكاليف!!! ركبت السيارة وعند أول محطة بنزين توقفت لتموينها فأدهشني أن لتر البنزين أرخص من لتر المياه الغازية!!! وهذا عجيب. وقد يقول مسئول إن رفع سعره سوف يرفع أسعارا أخري كنقل البضائع. وهذا صحيح ولكن من الممكن استرداد جزء من مليارات دعمه عن طريق زيادة ضرائب السيارات بما يساوي متوسط استهلاكها البنزين كل عام. ومضيت في طريقي بشارع الجلاء إلي جريدة الأهرام, لأقابل الأستاذ/ أحمد البري, وكان الطريق يستغرق ربع الساعة فصارت الآن ساعة علي الأقل, فالسيارات كالبشر تتناسل وتتكاثر والشوارع محدودة الطاقة والكباري العلوية تستغرق وقتا ومالا لإنشائها. هناك حلول سهلة لمشكلات صعبة, وكنا قد استبشرنا خيرا بالأوتوبيس المكيف وثمن تذكرته جنيهان وكان يوفر علي شوارعنا40 سيارة خاصة عن كل أتوبيس وفجأة اختفي, ولعل السبب هو أن فئة التذكرة صارت أقل من التكلفة, وكان من الممكن رفعها وما كانت ستصل إلي تكلفة التاكسي الأبيض الذي لم يعد أبيض لكثرة الإعلانات المتناثرة التي تكسوه وبعد أن صار في كثير من الأحيان يركب بالنفر وبالمقاولة.. خسارة. أين الضبط والربط؟ واستمر المشوار ورأيت علي يميني مجمع محاكم الجلاء وقد أحرق ولا أقول احترق, عن آخره, وسألت نفسي: إذا كان هناك من يتهم الشرطة بأنها أحرقت مائة قسم شرطة وثلاثة آلاف سيارة شرطة في يوم واحد وبصورة متناغمة فمن يا تري أحرق المحاكم؟!! قضاتنا ومستشارونا؟! معقول هذا؟؟!! وعجبي. وصلت الأهرام.. استقبال مرحب وماء أثلج صدري وأعانني علي مشوار العودة, ثم وصلت إلي ماسبيرو ومازالت أحداث المذبحة تدوي في ذاكرتي, تلك التي أجمع الكل علي أن المتسبب فيها قلة مندسة.. فمن خطط وأوعز لهذه القلة المندسة؟ ابحث عن عدوك تعرف الإجابة.. هل تذكرون درس التاريخ ونحن طلبة؟.. ففي عام1882 كان الأسطول البريطاني علي شواطئ الإسكندرية يبحث عن ذريعة لاقتحامها. وذات يوم حدثت مشادة بين مكاري حمار ومالطي من أتباع بريطانيا علي ثمن التوصيلة تجمع لها عدد من الأفراد.. قتل المالطي فكانت إشارة لهجوم بريطانيا واحتلال قاس دام80 عاما.. طيب.. من قتل المالطي.. لم يقل لنا التاريخ حتي اليوم من هو.. ولكن من كان المستفيد؟ العدو.. دروس التاريخ عظة وعبرة.. فمن هو عدوك الأول؟... ومن هو الثاني.. وفي طريقي للعودة مررت بشارع رمسيس أمام موقع تمثال رمسيس السابق وقد نزعوه من مكانه وشونوه في موقع متحف مصر الكبير!!! هل نفدت كل التماثيل الفرعونية ولم يبق إلا تمثال رمسيس؟!!! ثم نتساءل: عندنا تمثالان لرمسيس.. أصلي وتقليد في طريق المطار.. رفعوا الأصلي وتركوا التقليد. وبالمناسبة عادة ما تكون التماثيل متوسطة في ميادين وليست بشوارع طويلة والسبب واضح.. في طريق المطار تمثال رمسيس يستقبل زواره بظهره!! وتلك جليطة تنظيمية.. هل هناك حل؟ نجعل التمثال علي جنبه.. مواربا مثلا!! وعلي ذكر تماثيل الميادين أنظر إلي الفارق بين تمثال البطل عبدالمنعم رياض ذي التصميم المتواضع وتمثال إبراهيم الفاتح.. تعرف الفرق بين مثال اليوم ومثال الأمس. وبعد إعطائي محاضراتي اتخذت طريق صلاح سالم للعودة.. وكثيرا ما كنت أشعر باكتئاب كلما ذهبت أو عدت من عملي من خلاله, فهو شارع لم أر له مثيلا في العالم كله, فالأمم تتباري في تزيين شوارعها وتجميلها.. هذا يزرع شجرا باسقا وآخر زهورا جميلة وتماثيل أجمل وكله يعلم أن جمال الشارع يؤثر جدا في نفسية المواطن فما بالك بشارع يتخذه المرء طريقا والمقابر تكاد تلامس كتفيه.. هذا قبر عظيم كبير وذاك مثوي رجل فقير, والكل يا حسرة يتساوي أمام الموت ويظل المرء يسير في الطريق وهو يمصمص شفتيه اعتبارا وعظة وهو في حال من الاكتئاب الشديد. الموت حق, ولكن لا داعي لأن نراه بأعيينا في الذهاب والإياب.. ألا يفكر المسئول في إقامة سور ولو طوبة ونص؟!.. ومضيت في طريقي أعاتب سيدة الغناء.. كده يا سومة!! فتحت الراديو فوجدت صوتها يكاد يصالحني, فقد كانت تغني.. غلبت أصالح في روحي.. طاوعتها ومضيت أدندن اللحن معها, ففوجئت بوجه عابس مكفهر كتلك الوجوه التي تراها كثيرا هذه الأيام يطل من شباك سيارته ويصيح بي كارها.. لك نفس تغني؟.. يا بختك يا عم..!!! هذه الرسالة البديعة للدكتور خليل مصطفي الديواني, وقد لخص فيها صورة يوم كامل في شوارع العاصمة, ولعل ملاحظاته تجد صدي لدي من بأيديهم أمورنا فيستفيدون من الأفكار البناءة التي تضمنتها وتمس جوانب مهمة في حياتنا.