أصبحت عبارة العلاقة بالآخر تتصدر خطاباتنا اليومية بكثافة غير مسبوقة, مصحوبة بتلك الدعوة المتكررة لتعديل خطابنا الديني الإسلامي و المسيحي ليصبح أكثر تسامحا وتقبلا للآخر. وغني عن البيان أن أحدا لا تغيب عنه تلك التفرقة الضرورية الواجبة بين الخطاب الديني و العقيدة الدينية, ومن ثم فلا مجال لدعوة لتعديل العقائد ولا حتي لحوار بين العقائد والأديان, فتعبيرات مثل الحوار و الخطاب لاتخرج عن كونها أنماطا من السلوك البشري أو التفاعل بين البشر, ومن ثم فإنها قابلة للتعديل والتطور والتغيير بما يوافق الزمان والمكان و المصالح دون مساس بالعقائد التي تتصف بالثبات المطلق عند معتنقيها, و التي لاتفصح عن نفسها إلا من خلال أنماط من السلوك الديني الظاهر. إن أحدا لايمكن أن يعرف أنني مسلم إلا إذا نوديت باسمي الإسلامي, أو بسملت أو حوقلت أو قمت إلي الصلاة عند رفع الأذان إلي آخر تلك الانماط و المظاهر السلوكية الظاهرة, وكذلك الحال بالنسبة للمسيحي. ولعل تلك المقدمة تكتسب ضرورتها من أن الكثير منا حين يبدي ترحيبه بالحوار مع الآخر قد يضمر أن يسعي من خلال ذلك الحوار إلي إقناع ذلك الأخر بفساد معتقداته ومن ثم محاولة كسبه إلي معتقده هو, أي أن الحوار يصبح في هذه الحالة نوعا من مقارعة الحجة بالحجة في مجال العقائد. وقد أثبتت الخبرة البشرية التاريخية أن انتشار أو انكماش أعداد معتنقي العقائد الدينية لا يتأثر بالحجج والأسانيد العقلية المجردة بقدر مايتأثر بعوامل أخري علي رأسها النموذج الاخلاقي الذي يجسده الداعية وتعبر عنه دعوته, فضلا عن توافر الاستعداد النفسي الروحي لتقبل الدعوة والإيمان بها. وقد يبدو للبعض أن المقصود بالخطاب المتسامح هو أن نتسامح مع الآخرين باعتبارهم قد اعتنقوا العقيدة الخطأ, أو أن نغض الطرف عن مجرم لأنه ارتكب جريمته بدافع الغيرة علي دينه, وليس ذلك بحال المقصود بالتسامح وإلا عمت الفوضي وازدادت جرائم الفتنة الطائفية. المقصود بالتسامح هو أن يلتزم الجميع السماح لبعضهم البعض بممارسة مختلف عباداتهم الدينية باعتبارها حقا خالصا لهم, وليس تفضلا عليهم من أحد, أما خارج هذا الإطار, فينبغي أن يسود بين الجميع العدل و مجموعة القيم اللصيقة به مثلا الاحترام والصدق والسلام والتعاون والامانة. ورغم أن الأديان جميعا تدعو لتلك القيم, وأنه لايوجد دين سماوي يدعو اتباعه إلي العنف والظلم وغيرهما من الرذائل, إلا أن ثمة تأويلات متباينة للعقيدة الدينية الواحدة, وأن تلك التأويلات تختلف من حيث رؤيتها للأسلوب الأفضل للتعامل مع الآخر المختلف عقائديا, وأن كل تأويل من تلك التأويلات المتباينة يلتمس لنفسه العديد من الأسانيد الفقهية الدينية الصحيحة التي تبرر موقفه, والتي يصعب علي غير المتخصصين من الفقهاء ورجال الكهنوت المسيحي تفنيدها, وحتي لو قاموا بذلك فسوف يظل الأمر متوقفا في النهاية علي مصداقية ذلك التنفيذ لدي الجمهور, وهي قضية أخري تحتاج إلي معالجة مستقلة مستفيضة. إن التأويل الديني الذي يتفق مع هذه الدعوة للتسامح والقبول بالآخر هو ذلك التأويل الذي يسلم بأن تعدد الأديان يعبر عن إرادة الله عز وجل, وأنه لامناص من القبول بتلك الحقيقة, وأن أحكام القانون ينبغي أن تسري علي الجميع دون تمييز, فلا مجال لمراعاة خاطر المواطنين المسيحيين إذا ما أقدم مسيحي علي جريمة, ولامبرر لمراعاة مشاعر المسلمين إذا ما تجاوز مسلم القانون, ولابد من نشر الوعي بتلك القاعدة القانونية التي تؤكد أن العقوبة شخصية, وأنه لامجال في شريعة دينية أو قانون مدني لتبرير العقوبة الجماعية, فالمجرم يتحمل وحده وزر جريمته بصرف النظر عن ديانته, دون أن تشمل تلك العقوبة جميع المسلمين أو المسيحيين. إن القيادات الدينية المسيحية و الإسلامية علي حد سواء علي تعدد منابرها تعد بمثابة المرجعيات التي يلجأ المواطنون لالتماس الفتوي في شئون دينهم, كذلك فإن الدولة المصرية تلجأ إلي الكنيسة وإلي الأزهر لاستطلاع الرأي في الشأن الديني للمواطنين المصريين المسلمين و المسيحيين, وفيما عدا ذلك فلاينبغي لتلك القيادات أن تتحول إلي قيادات سياسية لجماهير المسلمين أو المسيحيين المصريين. إن قداسة البابا شنودة لا ينبغي أن يكون ممثلا سياسيا للمسيحيين المصريين الارثوذكس أمام الدولة المصرية الملتزمة بمبدأ المواطنة. وكذلك الحال أيضا بالنسبة للرموز الإسلامية الدينية, فليس لفضيلة شيخ الأزهر ولا لأية جماعة إسلامية الحديث سياسيا باسم مسلمي مصر في مواجهة الدولة المصرية التي ينبغي أن تمثل المصريين جميعا, والتي يخضع لدستورها المصريون جميعا. ولكي يتحقق ذلك فعلي الدولة المصرية أن تؤكد في ممارستها اليومية أنها دولة كل المصريين التي تلتزم بالعدل بينهم, فلا تسمح بتمييز طائفي, ولاتخضع لابتزاز ديني من أي طرف, ولاتتهاون في إعمال روح الدستور في الضرب بشدة علي يد كل من يقترف جريمة حتي لو كانت دوافعه دينية خالصة, ولاتتردد في حظر التشكيك في العقائد عبر القنوات الفضائية وفي الصحافة وفي المقررات الدراسية. إن غياب الدور الحكومي الواضح الشفاف في هذا المجال يخلق فراغا يتيح لكل من شاء من دعوات طائفية.