بدأ مشروع توشكي في يناير عام1997 بتفاؤل كبير بشأن إمكانية تخليق دلتا جديدة للنيل في جنوب مصر تضم نحو ثلاثة ملايين فدان صالحة للزراعة منها540 ألف فدان جاهزة للزراعة الفورية والتي سوف تتمتع بميزة لا تتمتع بها حتي الأراضي المصرية القديمة وهي ريها مباشرة من مياه بحيرة السد والتي تعد مياهها هي الأفضل في مياه جميع أنهار العالم حيث لم يصل اليها التلوث الحادث علي امتداد مجري النهر. وتحت هذه الظروف بدأ التخطيط لزراعة هذه المنطقة بإنشاء محطة الرفع العملاقة اللازمة لرفع مياه بحيرة السد لنحو5,52 متر عن طريق18 طلمبة أساسية وثلاث احتياطية الي الترعة الرئيسية التي تمتد بطول51 كم ثم تتفرع بعد ذلك الي أربعة أفرع وتوفر المياه العذبة لري زمام نصف المليون فدان الأولي والتي رصد لها نحو5.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا. وعلي الرغم من وجود نموذج جيد لمناطق مشابهة لمناخ توشكي في الجماهيرية الليبية لمشروع النهر الصناعي العظيم والذي بدأ عام1984 ويمتد من الجنوب شديد الحرارة الموازي لتوشكي الي الشمال الشرقي والغربي بإجمالي طول نحو4 آلاف كم(2485 ميل) عبر مواسير أسمنتية بقطر أربعة أمتار لنقل نحو2.2 مليار متر مكعب فقط من المياه, أي أقل من نصف المقنن المائي المعتمد لمشروع توشكي, وذلك حفاظا علي الماء الثمين من الإهدار بالبخر في مثل هذه الأجواء شديدة الحرارة, الا أننا لم نستفد من هذه التجربة الجيدة والتي حازت جائزة اليونسكو في الإصرار والإرادة, وتم تصميم المشروع المصري علي ترع مفتوحة لنساعد علي فقدان المياه الثمينة بالتبخير وبالتالي أصبح الأمر كما وأننا نشترط علي المستفيدين من المشروع تطبيق الطرق الحديثة للري المقنن عبر المواسير والخراطيم للحفاظ والاستفادة من كل نقطة مياه الا أننا طبقنا علي أنفسنا الطرق القديمة لنقل المياه عبر القنوات المفتوحة غير الحافظة للمياه. خطأ ثان وقع فيه المخطط للمشروع بأن السير في عمل وإنجاز محطات المياه بالطلمبات العملاقة التي تكلفت نحو1.5 مليار جنيه مصري لم يكن متوافقا وبالتوازي مع إنجاز الفروع الأربعة للترعة الرئيسية والمسئولة عن ري هذه المساحة المخطط لزراعتها عبر هذه المرحلة من مياه البحيرة بالمشاركة مع مياه167 بئرا جوفية أخري ملحقة بالمشروع بما أسفر عن تركيب محطة الرفع العملاقة والانتهاء منها منذ عام2003 في حين لم تنته الترع الأربع حتي الآن خاصة الفرعين الأخيرين اضافة الي الضرر الأكبر من مرور فترة الضمان لهذه الطلمبات العملاقة قبل أن يتم اختبارها فعلا بكامل طاقتها لري كامل الزمام المحدد نتيجة لأنها لم تعمل حتي الآن لأن الانتهاء من المحطة لم يكن متوافقا مع الانتهاء من الترع وبدء كامل الزراعات. وبصرف النظر عن الأخطاء الجسيمة التي وقعنا فيها تباعا سواء في التخطيط أو معدلات الإنجاز أو حتي في دراسة الجدوي الخاصة بالمشروع, فإن الظروف القائمة حاليا بشأن الفجوة الغذائية المصرية وتحقيق الأمن الغذائي المصري تحسبا لعودة أزمات الغذاء من جديد, بالإضافة الي البحيرات الثلاث التي تكونت أخيرا حول بحيرة السد, ويقدر ما تحتويه من مياه بنحو17 مليار متر مكعب ولم نخطط لكيفية الاستفادة منها حتي الآن مع باقي الموارد المائية المصرية, فإن الأمر يتطلب التفكير والتخطيط للانتهاء والاستفادة من هذا المشروع الحيوي. فبالإضافة الي أهمية دراسة تحويل فروع الترع المفتوحة التي لم ينته العمل فيها الي نظام النقل عبر المواسير فإن هناك العديد من الزراعات التي يمكن ان تجدد في هذه المنطقة وتخدم الأمن الغذائي المصري. ومن أهم الحاصلات المقترحة للزراعة هناك القطن قصير التيلة والذي يمكن أن يسترد عرشه هناك بعيدا عن الأراضي القديمة عبر مساحات كبيرة للزراعة الآلية الكاملة, خاصة أن درجات الحرارة المرتفعة مع انخفاض الرطوبة في الجنوب تقلل تماما من الاصابات الحشرية للقطن. وهناك أيضا الذرة الرفيعة, والتي تجود في محافظات الصعيد بسبب انخفاض الرطوبة النسبية في الصيف, والتي يتطلبها محصول الذرة الشامية, ولكن الذرة الرفيعة تعطي نفس العائد من زراعة الذرة الشامية وتستخدم أيضا في الخلط مع القمح لإنتاج الرغيف البلدي, ومن الحاصلات المناسبة ايضا حاصلات البقول والشعير والزيوت والزراعات المبكرة للخضراوات الشتوية مثل الفلفل والخيار والطماطم والزراعات المبكرة الصيفية للتصدير لحاصلات البامية والكانتالوب والبطيخ وبعض الحاصلات شبه الاستوائية والنباتات الطبية والعطرية مع غرس آلاف النخيل مع الأصناف الجافة ونصف الجافة التي تجود في المناخ الحار قليل الرطوبة مع الابتعاد عن الحاصلات المستنزفة للمياه مثل القصب والبنجر والموز والحاصلات ذات الأوراق العريضة والتي تفقد كميات كبيرة من المياه بالنتح من أوراق النبات والبخر من سطح التربة. الأمر قد يتطلب ايضا البعد التام عن الري التقليدي باستخدام أنظمة الري بالرش في هذا المناخ شديد الحرارة والتي تفقدنا كميات كبيرة من المياه بالبخر ولرفعها للرطوبة النسبية فوق النباتات مع ارتفاع الحرارة بما يوجد ظروفا مثالية لأمراض وآفات النباتات. بل وحتي الري بالتنقيط قد يتطلب الأمر تحويله الي نظم الري بالتنقيط المدفون علي أعماق من30 الي50 سم من سطح التربة للحفاظ علي الخراطيم من أشعة الشمس الحارقة وتقليل فقد المياه بالتبخير من سطح التربة. يضاف الي ذلك بعض مشروعات الثروة الحيوانية وخاصة الجمال والضأن من الخراف والماعز والتي يمكن ان تستفيد من الكثير من بقايا الحاصلات المزروعة, ولا يجب التخلي عن استخدام الطاقة الشمسية الوفيرة في هذه المنطقة لمتطلبات توفير الكهرباء للمشروع بدلا من محطات الكهرباء وشبكات نقلها الأكثر تكلفة وأقل استدامة وأكثر تلويثا لهذه البيئة البكر النظيفة. قد تكون حالة التعثر التي صاحبت المشروع ومن قبلها سوء التخطيط للمشروع زراعيا ومائيا والتوقفات الكثيرة التي امتدت بزمن تنفيذ المشروع الي13 عاما هي السبب في الانطباعات التي تولدت لدي البعض بأن مشروع توشكي غير مفيد أو غير ذي جدوي, ولكن بالقليل من التخطيط والاستعانة بالخبراء المصريين الأكثر دراية وعلما بالأجواء والحاصلات المصرية مع إعطاء الفرصة للمستثمرين الذين تنصب استثماراتهم لصالح مصر يمكن لنا إحياء مشروع توشكي للاستفادة من نصف مليون فدان نحتاج الي كل فدان منها.