لا ينكر عاقل أن جهاز الشرطة المصري لعب طوال السنوات الماضية دورا رئيسيا في منع الإرهاب وفي حماية المواطنين من الاكتواء بنار العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها المئات في الثمانينات والتسعينات وهو دور لا بد أن نعترف به ونقدره حق قدره. لكن هذا لا يعطي جهاز الشرطة حقوقا مطلقة تجعله فوق المحاسبة مثله مثل أي جهاز من أجهزة الدولة ولا يمنحه شيكا علي بياض في مجال التعامل مع المواطنين.. خاصة وأن رجال الشرطة هم أنفسهم مواطنون مصريون خاضعون لقوانين الخطأ والصواب. وأعلم أن طلبة ورجال الشرطة يتلقون الآن محاضرات عن حقوق الإنسان, وهو تطور في غاية الأهمية لإدخال أبعاد جديدة في التعامل بين الشرطة والشعب. لكن المحاضرات النظرية لا تكفي في حد ذاتها ولا بد أن تسود ثقافة احترام القانون واحترام آدمية الناس وكرامتهم في المجتمع. فهناك قناعة سائدة عند الكثيرين من رجال الشرطة بل ولدي نسبة كبيرة من المواطنين بأن هناك مجرمين عتاة لا يعرفون إلا منطق القوة ولا ينفع معهم إلا الضرب والتعذيب. وبالإضافة إلي أن تلك النظرية تفتح الباب لتقبل كافة التجاوزات فقد أثبت العلماء بطلانها من الأساس وأن الانحراف ما هو إلا نتيجة لظروف أسرية ونفسية وتربوية واجتماعية وليس جزءا لا يتجزأ من شخصية المنحرف. ولأن قوانيننا المدنية مستوحاة من الغرب فإنه من المهم الرجوع إلي قاعدة من القواعد المؤسسة للحريات العامة في القوانين الغربية والتي يطلق عليها اسم' هابياس كوربوس' وهو تعبير لاتيني معناه الحفاظ علي جسد المتهم أو المحكوم عليه وعدم حبسه أو استباحته إلا بموجب أحكام القانون. وقد صدر قانون هابياس كوربوس في بريطانيا عام1679 ليضع ضوابط أساسية علي رأسها عدم إلقاء القبض علي المواطن دون أن يخطر رسميا بأسباب ذلك وبالتهم الموجهة إليه. ولقانون هابياس كوربوس قوة الدستور في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويروي عن المفكر الراحل الكبير لويس عوض أنه عندما كان معتقلا في الستينات رفع شاويش السجن يده ليضربه فصاح فيه الدكتور لويس بحماس: ألم تسمع عن قانون هابياس كوربوس, واعتقد السجان أن لويس عوض يشتمه شتيمة نابية بهذه الكلمة الغريبة فاستشاط غضبا وانهال عليه بالركل والضرب. وأنا أدرك تماما أن رجال الشرطة كثيرا ما يقومون بأدوار بطولية ويتعرضون أحيانا إلي مواقف تصل إلي درجة تهديد سلامتهم أو حياتهم.. وهنا لا يستطيع أن يلومهم أحد أن يدافعوا عن أنفسهم وهو حق شرعي مكفول لكل مواطن. والقاعدة المعمول بها في كل مكان هي ألا يلجأ رجل الأمن إلي العنف إلا عند الضرورة القصوي ولدي التعرض شخصيا إلي خطر مباشر. ولا يتورع البوليس في كل دول العالم عن ممارسة العنف والضرب حتي في الطريق العام ولكن في حالة واحدة فقط وهي أن يكون المشتبه فيه أو المتهم في حالة هياج ويعمد إلي مقاومة عملية إلقاء القبض عليه مقاومة عنيفة. وقد كنت شاهدا لموقفين من هذا النوع الأول في باريس والثاني في سان فرانسيسكو وأذكر أنه عندما استسلم المشتبه فيهما توقف العنف فورا. وأتمني أن يقتنع رجال الشرطة عندنا بهذه القاعدة. فلا أنسي يوما كنت أسير فيه بالشارع الرئيسي للبازار في مدينة أسوان الجميلة وسمعت هرجا ومرجا ورأيت بعض رجال الشرطة ممسكون بشاب ويسيرون به بخطي سريعة ومن ورائهم رجل أمن يرتدي الملابس المدنية ومن الواضح أنه كان رئيسهم. وكان هذا الأخير يقوم بصفع المقبوض عليه صفعات عنيفة علي وجهه ومؤخرة رأسه في حين أن الشاب كان مستسلما تماما وخافضا رأسه. وكان الشارع مكتظا بالسائحين الأجانب وكانوا في حالة من الذهول وهم يرون هذا المشهد المخزي ويستمعون إلي دوي صفعات رجل الشرطة في الشارع الضيق.. وسمعت من بعضهم تعليقات لاذعة لا أحب أن أكررها هنا. ولعل الكثيرين من أبناء الشعب المصري قد مروا بتجارب قاسية في أقسام الشرطة. وقد لا يدرك البعض أن الإهانات وانتهاك الآدمية قد يكون لها آثار بالغة علي حياة الإنسان. ولي قريب تعرض لموقف في صدر شبابه بالسبعينات عندما اختلط الأمر علي أحد رجال الشرطة فأمسك به في أحد شوارع مصر الجديدة وأخذ يصفعه علي وجهه بشدة وعندما تبين له خطأه قال له:' معلهش.. تعيش وتاخد غيرها'. وقد أصبح هذا الشاب مهندسا مرموقا لكن هذه الواقعة كان لها وقع سلبي في حياته وظل معقدا لفترة طويلة من الشرطة وكل رموز الحكومة والسلطة. وأعلم أن وزير الداخلية يأخذ مأخذ الجد الشكاوي الخاصة بسوء معاملة المواطنين ويأمر بالتحقيق فيها. لكني أعلم أيضا أن ذلك يثير حفيظة الكثيرين واعترضاهم علي أساس أنه يغل أيدي رجل الشرطة ويجعله قلقا من المساءلة. لذلك فإنه آن الأوان أن نعتبر رجل الشرطة مواطنا مثله مثل الآخرين. صحيح أن لديه صلاحيات وحقوقا غير مكفولة للآخرين من منطلق الدفاع عن الأمن العام, لكن هذه الصلاحيات لا بد أن تكون محددة بدقة ومعروفة سلفا وأن يعلم رجل الشرطة أنه ليس من حقه ضرب أو إيذاء أي مواطن إلا في حالات محددة بالقانون. وقد فوجئت خلال زيارتي الأخيرة للولايات المتحدة بوجود قناة جديدة متخصصة في تصوير لحظة القبض علي المشتبه فيهم. ومن خلال الحوار الذي يجري بين رجال الشرطة والمقبوض عليهم في تلك اللحظات الصعبة تشعر بأن رجل الشرطة هناك قد تلقي تدريبا راقيا علي ضبط أعصابه وكيفية التعامل مع المواطنين بحسم لكن دون إهدار كرامتهم. وأناشد المسئولين عن الشرطة بتكثيف الجهود المبذولة حاليا من أجل إذابة الجليد وتحسين المعاملة حتي مع مرتبكي المخالفات والجنح والجرائم. المزيد من مقالات شريف الشوباشي