هل يمكن وصف هذا الرجل بأنه مهندس مرحلة الإنتقال الي الديمقراطية وتأسيس الجمهورية الثانية في تونس بعد ثورة14 يناير, مع أنه لا يقبض إلا علي سلطة معنوية ليس إلا ؟ وجهت السؤال للعديد من المراقبين في تونس فجاءت غالبية الإجابات بنعم. ولأن الدكتور عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا المستقلة لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مسئول عن قيادة المؤسسة الأم المكلفة بدراسة النصوص التشريعية المتعلقة بالإصلاحات السياسية وباقتراحها قبل أن ترفعها إلي سلطة المرحلة الانتقالية: رئيس الجمهورية وللوزير الأول( رئيس الوزراء) وتتابع تنفيذ ما اقترحته بمقتضي مرسوم رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في14 فبراير الماضي فقد كان من الأهمية بمكان الحوار معه لفهم مسار الثورة في تونس. ولأنه أيضا محل ثناء وانتقادات معا, بعضها يصفه بأنه معتدل في زمن ثوري, كان هذا الحوار. توجهت إليه أولا في مكتب رئيس الهيئة بشارع خير الدين باشا بتونس العاصمة, وحينها كان في استقبال وفد من الكونجرس الأمريكي جاء بين وفود أجنبية عديدة تتوافد للاطلاع من الرجل المفتاح علي تطورات التجربة التونسية. خرج ليعتذر بكثرة مشاغله, وهو في ملابس وطنية نادرا ما تجد من يرتديها في الشارع أو داخل المكاتب والدواوين. فعمل الهيئة أوشك علي نهايته لتنفض فور انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في23 أكتوبر الجاري والمكلف بوضع الدستور الجديد. لكننا اتفقنا علي اللقاء في الساعة الثامنة صباح اليوم التالي بمنزله في المرسي علي بعد نحو15 كيلو مترا من العاصمة. وفي الموعد المحدد, صادفته يدلف في ملابس رياضية من بوابة بيته العتيق, بيت عائلة تونسية عريقة ترتبط بجامع الزيتونة وبالإفتاء علي المذهب المالكي, اصطحبني الي الطابق الثاني ومررنا في الطريق الي جلستنا بمكتبة تحوي كتبا عربية تراثية وأخري غربية حداثية فأطلعني علي تفسير التحرير والتنوير لجده الشيخ محمد الطاهر بن عاشور, وهو بمثابة تفسير مستنير للقرآن الكريم صدرت أولي طبعاته في القاهرة قبل نحو قرن, وحدثني أيضا عن علاقة جده بشيخنا محمد عبده الذي تردد هو الآخر علي جامع الزيتونة قبل أكثر من قرن. وكذا عن والده الذي كان عضوا بمجمع اللغة العربية وعلي صلة بالدكتور طه حسين و بنت الشاطئ ومحمود تيمور. الدكتور عياض بن عاشور مختص بتاريخ الفكر الإصلاحي في العالمين العربي والإسلامي. وله مؤلفاته في هذا المجال, وهو مثقف مشدود كما بلاده تونس الي ثقافتين وعالمين: عربي إسلامي.. وغربي فرنسي, وربما يلخص هذا المزيج أن الرجل وضع أمامنا إفطاره الصباحي: كرواسون مع شاي مغاربي في أكواب عربية صغيرة. وهو بالأصل أستاذ قانون عام تحول الي تدريس فلسفة القانون بجامعة قرطاجنة. ولذا كان سؤالي الأول له عن نظرته لما جري في تونس من وجهة نظر المتابع لتطور الفكر الإصلاحي في العالم العربي؟ { فأجاب: ما حدث أسميناه ثورة لأنه بمثابة قطيعة جذرية علي المستوي السياسي والإجتماعي سريعا تغيرت علاقة المواطن بالدولة, وهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في14 يناير أحدث تغييرا جذريا في جميع الأنماط والتصورات السياسية وقطيعة مع التسلط والسيطرة وتفوق الدولة علي المجتمع. ولكن الي أي حد يختلف الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية الأولي عن خلفه بن علي.. أم ان الأخير كما يري البعض هنا كان إمتدادا لسلفه ؟ { بورقيبة رسخ تسلط الدولة علي المجتمع. لكن الرجل كان لديه رؤية تحديثية ومشروع لمجتمع تقدمي, واستخدم سلطاته الواسعة لصالح الأمة. كان نظيف اليد تماما كالرئيس جمال عبدالناصر, لقد كان الإثنان ساسة بامتياز, ولم يكن يشغلهما الإثراء الفاحش. كانا نظيفا اليد. وبعد بورقيبة انخرطت أجهزة الدولة التونسية في فساد ما بعده فساد. ولكن بنظرة شاملة لتاريخ تونس يمكنني القول بأن هذه الثورة تمثل قطيعة لامع تسلط بورقيبة وبن علي وحدهما. بل مع كل أنماط تغول سلطة الدولة علي المجتمع, حتي في أزمنة العثمانيين والدولة الحسينية فالحماية الفرنسية. ماهي خلفية إنشاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ؟ { عندما أدرك بن علي خطورة الحراك الشعبي أعلن في خطابه الثالث والأخير مساء13 يناير الماضي وقبل هروبه بأقل من يوم واحد عن عزمه إنشاء لجنة فنية( خبراء) للإصلاح السياسي الي جانب لجنتين لمكافحة الفساد وتقصي الحقائق في الأحداث. وسارت حكومة محمد الغنوشي الأولي بعد الثورة في هذا الطريق, وفي الآن نفسه تشكل مجلس حماية الثورة من أسفل( بواسطة احزاب ومنظمات غير حكومية). وضم هذا المجلس28 شريكا من حركة النهضة الإسلامية الي الحزب الشيوعي التجديد. وكان الهدف هو مراقبة الحكومة باسم الثورة, وإيجاد سلطة تراقب القوانين وترشح الشخصيات المناسبة للوظائف العمومية. وبالفعل شرعت حكومة الغنوشي( المقالة بضغط الاعتصامات الشعبية لاحقا) في مفاوضات مضنية مع هذه الأطراف للالتحاق بلجنة الإصلاح السياسي, وأدت هذه المفاوضات في النهاية وبحلول شهر مارس الماضي إلي تكوين الهيئة الجديدة وهي ببساطة عبارة عن حاصل جمع مجلس حماية الثورة والخبراء الفنيين بلجنة الإصلاح السياسي. وهكذا وجدت نفسي بعدما كنت رئيسا للجنة خبراء قانونيين لاتزيد علي20 شخصا علي رأس برلمان أو ما يشبه البرلمان, وتوسعنا تدريجيا في عضوية الهيئة إلي155 عضوا جاءوا من أقصي اليمين الي أقصي اليسار. لكن هناك حديثا عن قوي مستبعدة من عضوية الهيئة.. أو أن هناك قوي سياسية لم يجر تمثيلها بأوزانها النسبية المفترضة كحركة النهضة الإسلامية؟ {| حدثت انتقادات في البداية بأن الهيئة لا تمثل المجتمع كله, لكننا سعينا بمرور الوقت لتمثيل حتي التونسيون بالخارج, صحيح أن الهيئة بها ممثلون عن12 حزبا, لكن الهيئة تتضمن تمثلا للقوي السياسية الرئيسية, وبخصوص ما يشاع عن نقص تمثيل النهضة فإن لها ثلاثة أعضاء, لكن هناك من بين الشخصيات العامة بالهيئة من يمثلها أيضا. والحقيقة اننا وجدنا أنفسنا في مرمي انتقادات متعارضة, فهناك من اليسار من اتهمنا بأننا هيئة نهضوية. وهناك في النهضة من اتهم بأننا تحت سيطرة اليسار, وتحديدا حزب التجديد المسمي الجديد للحزب الشيوعي التقليدي. لكنني أقول للجميع بأن الثورة إندلعت من المجتمع المدني بالأساس ولم يكن لها علاقة بالأحزاب السياسية. فاجأت الأحزاب والسياسيين لأنها نابعة من أعماق الشعب, وشباب الثورة ممثلون بنسبة جيدة ولا بأس بها رغم أنهم ليسوا أغلبية(50 شابا من بين إجمالي155 عضوا). ومن حدد تشكيل الهيئة وكيفية التمثيل بها ؟ { كان ذلك عملا مشتركا بين الحكومة والأحزاب السياسية والاتحاد العام للشغل( اتحاد العمال في تونس) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وقد خضع تكوين الهيئة لأكثر من تعديل وإضافة. والقرار الأخير كان في يد الوزير الأول( رئيس الوزراء) وفق المرسوم المنشئ للهيئة. وكيف تتفاعلون مع ضغوط الشارع ؟ { بدأت الهيئة علمها بعد اعتصام القصبة2( الذي اطاح بحكومة محمد الغنوشي الثانية وجاء بحكومة الباجي السبسي), وأول جلسة عقدتها الهيئة كانت في17 مارس الماضي. وفي البداية أصبح مقرها هدفا للتظاهرات. بعضها احتجاجا علي مواقف للهيئة والأخري لرفع مطالب منها ما لايدخل في اختصاصها كالتشغيل( العمل والتوظيف), لكننا دخلنا في حوارات مع الجميع. وماهي العلاقة مع الحكومة ورئاسة الدولة المؤقتة؟.. وإلي أي حد يتدخلان بفرض تعديلات علي مشاريع المراسيم التي تتقدم بها الهيئة؟ { الحقيقة أن التعديلات و التدخلات من جانب الرئاسة والحكومة تظل محدودة وقليلة جدا. صحيح أن الهيئة لها صفة إستشارية وليست سلطة تشريع. وكل ما تستطيعه ان تقترح علي الحكومة مشاريع نصوص لاعتمادها, لكن الهيئة تتمتع بوزن معنوي في المجتمع يصعب علي الحكومة والرئيس أن يتجاهلانه وأن يقوما ببساطة بتغيير النصوص التي نتقدم بها. وكل ما حدث اننا واجهتنا حالتان إثنتان فقط. وانتهينا الي حلول توافقية. وكانت الحالتان بخصوص بند واحد في المرسوم الانتخابي يتعلق بتحديد مستويات العزل السياسي.. والثاني بند آخر يتعلق تشكيل اللجنة العليا للانتخابات, وتحديدا بكيفية تمثيل القضاة في اللجنة, وللأسف أسفر الخلاف مع الحكومة هذه المرة وإصرارها علي التعديل الي انسحاب جمعية القضاة من تشكيل لجنة الإنتخابات. ماهي أبرز المشكلات والعراقيل التي واجهت عمل الهيئة ؟ { عملنا ثمانية أشهر من دون نظام داخلي للهيئة, والحقيقة أننا نعمل في ظل أحوال طارئة, ولم نجد وقتا لوضع هذا النظام, والمشكلة الاخري تتعلق بعدم إنضباط بعض الأعضاء, هؤلاء لم يعرفوا معني ان الهيئة لها هيبتها بوصفها مؤسسة من مؤسسات الدولة. صحيح أنهم أقلية, لكنهم تعاملوا بتشنج ولجأوا الي مبالغات لفظية وأدلوا بتصريحات ناقمة لوسائل الإعلام, وأظن أن هؤلاء هم أعداء الداخل, ولقد أضروا كثيرا بصورة الهيئة لدي المجتمع. هل أنتم راضون عن مسار الانتقال إلي الديمقراطية في هذه المرحلة ؟ { الرضا بنسبة100 في المائة غير ممكن, لكن تبقي حقيقة أن هذه الهيئة أنجزت ما كان عليها إنجازه من إصلاحات تمكن تونس لأول مرة في تاريخها من تنظيم إنتخابات حقيقية وغير مزيفة وغير موجهة. لكن هناك شعورا لدي بعض الشباب بأن الثورة قد جري سرقتها؟ { هذا مصير كل الثورات, هي بمثابة رجات اجتماعية لاتحقق في النهاية كل الطموحات, وهذا ما حدث في الثورتين الفرنسية والبلشفية. الثورات دائما ما تصادف نصف نجاح, لا إخفاقا تاما ولانجاحا تاما. وكيف تري مستقبل تونس مع إنتخاب المجلس التأسيسي المكلف بوضع دستور الجمهورية الثانية والمقرر لها23 أكتوبر ؟ { أنا متفائل جدا رغم الصعوبات ومايقال عن الانفلات الأمني والإعلامي, البلاد عادت الي شيء من السكون وهناك إرادة ملحة لإنجاح الانتخابات, وأهم الأحزاب وقعت في15 سبتمبر علي وثيقة إعلان المسار الإنتقالي ولقد أمنا هذا المسار بأكبر قدر ممكن من الضمانات, وبصفة عامة يمكن القول اليوم بأن تونس تجاوزت الصعوبات واقتربت من الموعد الانتخابي مع أكثر حظوظ ممكنة من النجاح. وقبل أن أغادر الدكتور عياض بن عاشور سألته عما يتردد في دوائر سياسة بالعاصمة التونسية عن أنه ربما يكون الرجل الأنسب لتولي رئاسة الجمهورية في مرحلة الانتقال الثانية التي تبدأ بممارسة المجلس التأسيسي لصلاحياته ووضع دستور الجمهورية الثانية خلال عام واحد, فأجابني قائلا: أنا رجل مهتم بالفكر والكتابة ولدي مؤلفاتي ومشروعات كتب جديدة.. وليس لي أية طموحات سياسية.. لذا فإنني أنفي استعدادي للعب المزيد من الأدوار السياسية في المرحلة المقبلة.. بل تعهدت بالامتناع عن قبول أي منصب سياسي بعد انتخابات المجلس التأسيسي23 أكتوبر الجاري.