يضم هذا الجزء عناصر تصلح اساسا لصياغة استراتيجية لاستنبات المواهب وإعادة تأسيس القيم المؤازرة للنهضة في البلدان العربية. يمكن تقديم قائمة أولية من القيم الايجابية الليبرالية الاتية: صيانة الحرية ومكافحة معوقات التمتع بها والانفتاح علي افضل إنجازات العالم المعاصر ومقاومة الظلم والتسامح وقبول الآخر والحوار ويقترح أن يضاف اليها: السعي لاكتساب المعرفة مدي الحياة والاعتزاز بالهوية العربية دونما انغلاق, والصدق, وتحمل المسؤولية, والانجاز والإجادة والإثار- الحرص علي المصلحة العامة, ويمكن الاتفاق, نهاية, علي قائمة نهائية من خلال الاستشارة الواسعة. منبع الموهبة الموهبة هي, في الأساس, استعداد للتميز والإبداع في مجال أو أكثر من مجالات النشاط الإنساني يستقر في مخ الكائن البشري, معرفة وسلوكا, وليس التفوق الدراسي, بالمعني المعتاد, إلا واحدا فقط من هذه المجالات. والقيمة المتأصلة هي موجه تلقائي للسلوك يستقر في القاعدة المعرفية للكائن البشري المحددة للسلوك, وسنعتبرها هنا, بقليل تجاوز, موهبة, خاصة إذا كانت القيمة غير منتشرة علي نطاق واسع في بدايات العمل علي تأسيسها في مجتمع ما. ولعل الفارق هو ان الموهبة يفترض تلقائيا استجابة لاستثارة المخ, بينما يقتضي تأسيس القيمة توجيه الاستثارة إلي وجهات بعينها. وللوراثة, ولاشك, دور مهم في وجود الموهبة, ولكن تتكاثر الدلائل الآن علي الدور المحوري الذي تلعبه البيئة المحيطة بالطفل,خاصة في سني الطفولة المبكرة في تشكيل معمار المخ ذاته واستنبات المواهب عن طريق استثارة المخ, أساسا من خلال التفاعل مع الوالدين والقائمين علي رعاية الأطفال حديثي السن غيرها, فيسياق وجداني محب ودافيء. ولعل أكثر ما يفتقده الأطفال في البلدان النامية, خاصة في المجتمعات الفقيرة بها, هو تلك البيئة العائلية والمجتمعية التي تثري التجربة الحسية والوجدانية للأطفال بما يساعد علي النمو السوي للمخ وبزوغ المواهب. إن فقر التجربة الحسية والوجدانية في سني الطفولة الأولي يئد المواهب في المهد. ورغم أن المخ البشري يتسم بقدرة هائلة علي التشكل, خاصة قبل العاشرة من العمر, فإن المواهب التي تبزغ عن طريق ثراء استثارة المخ في سنوات الطفولة المبكرة تتأصل أكثر وتنمو لآفاق أرحب من تلك التي تكتسب في مراحل متأخرة نسبيا من الطفولة. استنبات المواهب في سنوات الطفولة الأولي يترتب علي الجزء السابق أن المتطلب الأول لتنمية المواهب في أي مجتمع هو غني التجربة الحسية والوجدانية للأطفال في سني الطفولة المبكرة, مالا يتوافر دائما خاصة في المجتمعات الفقيرة. وهناك سببان رئيسيان لفقر التجربة الحسية والوجدانية للأطفال,الأول هو جهل الوالدين والقائمين علي رعاية الأطفال غيرهما بأساليب التنشئة السليمة, والثاني هو قصور موارد الأسرة عن الحد اللازم لتوافر مقومات ثراء الاستثارة السليمة للمخ. وفي التغلب علي هذين المعوقين لبزوغ المواهب تكمن بداية العمل الجاد لتنمية المواهب في البلدان العربية. ويتفرع عن ذلك توجهان: الأول: برنامج واسع الانتشار, ومستمر, لتعليم وتثقيف الوالدين, أو من يقومون علي رعاية الأطفال حديثي السن غيرهما, علي أساليب التنشئة الميسرة لبزوغ المواهب. وإذا كان أحد إنجازات العقود الأخيرة من القرن العشرين هو تعميم برامج تحصين الأطفال ضد الأمراض المعدية والفتاكة والذي اقتضي تعليم وتثقيف الآباء والمربين غيرهما علي نطاق واسع, فليكن هدف مسار النهضة هو تعليم وتثقيف جميع الآباء والمربين علي أساليب التنشئة الميسرة لبزوغ المواهب علي أن يربط تسجيل الأبوين, أو من ينوب عنهما في تربية الطفل, في أحد هذه البرامج بقيد ميلاد الطفل, وقد يعد التحاق المربين بهذه البرامج أحد متطلبات التحاق الأطفال بالمدارس. وجلي أن وزارات التربية والتعليم تمتلك بنية أساسية ضخمة ترشحها للقيام بالدور الرئيسي في برنامج تربية المربين هذا, بحيث تتحمل كل مدرسة نصيبا من المهمة, بعد التحاق المعلمين ببرامج التدريب المناسبة بالطبع. الثاني: أن تضمن الدولة, بمساعدة الفاعلين الاجتماعيين الآخرين, ألا يحرم طفل من فرصته في بزوغ المواهب بسبب فقر أسرته, ويتطلب ذلك اعتماد مفهوم ايجابي جديد لمسألة المساعدة الاجتماعية او شبكات الأمان الاجتماعي. في الماضي كانت غاية هذه البرامج ضمان الخبز وأساسيات الطعام, أما في عصر كثافة المعرفة وتسارع تقادمها, فيتعين أن يكون معني الأمان, للفرد وللمجتمع علي حد سواء, هو تأمين الفرصة لبزوغ المواهب في سني الطفولة, خاصة المبكرة, من خلال إتاحة أنواع اللعب ومواد القراءة والنشاطات الأخري التي تشحذ الخيال وتنمي المواهب, عن طريق قنوات مجتمعة حين تقصر إمكانات الأهل عن ذلك. وليست المسألة هن مجرد اعتبارات أخلاقية خاصة بضمان العدالة الاجتماعية, علي أهميتها, ولكن الحرص علي تعظيم منفعة المجتمع كله من خلال توسيع قاعدة استنبات المواهب لأبعد مدي ممكن. ومرة أخري, يمكن أن تلعب مدارس وزارات التربية والتعليم دورا مهما في هذا الصدد من خلال توفير مقار لنشاطات الطفولة المبكرة تستوعب الأهل والأطفال حديثي السن في المجتمع المحلي وكأنها رياض أطفال, يشارك فيها الآباء في رعاية أطفالهم, مثرية للخبرات الحسية والوجدانية للأطفال صغار السن. والواقع أن اتساع مهام الوزارات لشمل تربية المربين والطفولة المبكرة يمثل ترجمة حية لشق التربية في اسم الوزارة. والمفترض ان تلعب مجالس الآباء/ المجتمع دورا محوريا في تنفيذ هذه البرامج. دون أن يعني التزام الوزارة بهذا المفهوم الواسع للتربية قصر المسئولية عليها, فهذا مجال واسع لمساهمة منظمات العمل الأهلي والمجتمعات بوجه عام. نسق تعلم يبدأ من سنوات الطفولة الأولي مازال الالتحاق برياض الأطفال مقصورا علي نسبة ضئيلة من الفئة العمرية المناظرة بحيث يعد امتيازا لأبناء الفئات الأغني في المجتمع, أما الالتحاق بدور الحضانة الجيدة فهو امتياز لشرائح مجتمعية حتي أضيق الحدود. ولعله من الصعوبة بمكان ان تعمم دور حضانة راقية بحيث تستوعب جميع الأطفال في سني العمر الأولي. كما ان السياق العائلي المغني للخبرات الحسية والوجدانية أفضل لبزوغ الموهبة في دار حضانة فقيرة في استثارة المخ وتنمية وجدان الطفل. وفي غياب مثل هذه البيئة العائلية, قد تمثل مقار نشاطات الطفولة المبكرة في المدارس, المقترحة في ثانيا أعلاه, بديلا أفضل حيث يتيح تواجد الأهل, أو القائمين بالرعاية في هذا المقار, دعما وجدانيا للأطفال لا يتيسر في دور الحضانة السيئة. غير انه قد آن الأوان لأن يحتل هدف تعميم الالتحاق برياض الأطفال, راقية النوعية, بحيث تيسر بزوغ المواهب, أولوية علي سلم أهداف وزارات التربية والتعليم. ومرة أخري, يجب الا يحرم قصور القدرات المادية للأهل طفلا من الالتحاق بروضة أطفال راقية, كما لا تعني مسؤولية الدولة هنا تقديم جميع خدمات رياض الأطفال, وإنما يفضل أن يقوم تضافر خلاق بين وزارة التربية والتعليم والمؤسسات الأهلية - غير الهادفة للربح - لتحقيق هدف تعميم الالتحاق برياض الأطفال. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى