كل الناس صادقون الي ان يثبت العكس علي اساس من تلك الحقيقة الاولية نشأت حضارة مصرية قديمة, ومارس اهلها الصدق مع النفس ومع الغير, فبنوا الاهرام ونحتوا أبا الهول, وقدموا للبشرية اختراعا هو رغيف الخبز, ومعه قاموا بتأثيث البيوت بواحد من افضل اختراعاتهم هو الكرسي الذي مازال يذهل اساتذة الجراحة المتخصصين في تشوهات العمود الفقري, لان الكرسي الفرعوني كان مصمما بطريقة لا تسمح للعمود الفقري بالالتواء, واضافوا فوق كل ذلك اختراع السرير الذي يمكن ان ينام عليه الانسان فيصحو دون اوجاع, ونظروا الي البيئة المحيطة فأسسوا نظاما معماريا اتقن معرفة مسارات تيارات الهواء ومواعيد شروق الشمس وغروبها, وكأنهم فهموا طبيعة الحوار بين الانسان وبين البيئة, ومن بعد قدموا عصير الشعير كعلاج لحيوية الانسان بعد نهار عمل طويل, فهو عصير لا يذهب بالعقل كعادة ما قدمته الحضارات الاخري من عصير العنب المخمر. وقدم المصريون كل ذلك بالعقول الشابة, لا من اجل الفرعون, ولكن من اجل قداسة الانسان ايا كان. ودليلنا ان المصريين العاديين عندما كان الكهنة يسيئون استنزافهم وبيع الزيف الذي يقلل من قيمة وكرامة حياة المصري اليومية مطالبين اياه بان يحرم نفسه من قوت اليوم من اجل تزيين المقابر بكل ما يحتاجه الانسان الحي من مطعم ومشرب, فضلا عن ادوات الزينة من ذهب وفضة, حين فعل الكهنة ذلك فوجئوا بان الفلاح الفصيح لا يشكو للفرعون فقط من آلامه, ولكنه اقتحم المقابر المزدحمة بادوات الزينة ليستولي علي ما فيها من ذهب ومجوهرات ليعيد بيعها للفرعون الجديد. ومن الغريب ان عصابات سرقة المقابر في الزمن الفرعوني لم تلمس اي اناء من اواني الطعام, ذلك انهم تركوا لصاحب المقبرة ما يقوت به نفسه ان عادت روحه الي جسمه احتراما منهم لفكرة الخلود. هذا ما كنت افكر فيه وانا ارقب الوجوه الشابة في مؤتمر الشباب العربي الذي توازي مع مؤتمر الاصلاح العربي, وكانت وجوه الشباب العربي من المحيط الي الخليج تقتحم ابواب معرفة التكنولوجيا واستخدام ادوات العصر لتنبيه قادة مجتمعاتهم ان الاجيال القادمة لن تسمح لاي ترهل بلمس روحها, وهم يحتاجون الي نوعية مختلفة من التعليم ونوعية مختلفة من العلاقات الاجتماعية ليس فيها استهانة بخبرات الكبار, وهي ايضا لا تقبل حالة الركود التي تقلل من قيمة ومكانة ما تحمله العقول الشابة من افكار, وهي اجيال تطلب سرعة تغيير مناهج التعليم لا بتكديس العقول وقهر قدراتها لتكون مجرد اجهزة تسجيل لمعلومات يتم دلقها في اوراق اجابات الامتحانات, ولكن بتدريب العقول علي العمل الجماعي, لان المواهب الفردية علي الرغم من اهميتها الا انها غير قادرة علي فهم معني التآزر الواعي لتكامل الافكار وتتسق لتنتج علما, فالعلم في جوهره منذ حضارة قدماء المصريين الي الحضارة العربية التي انتجت الحسن بن الهيثم, مرورا بكل من ابداع اسحق نيوتن ووقوفا عند البحث النظري الذي قدمه آينشتين وهو في الخامسة والعشرين ليضعنا امام اكتشاف قدرات الطاقة الكامنة في الذرة, ووصولا الي بيل جيتس الذي ترك هارفارد في سنة الدراسة الثانية ليقدم مع فريق شاب اكتشاف النوافذ وصولا الي الكمبيوتر المحمول, ثم اكتشاف قدرات الاتصال والتواصل عبر الانترنت, كل ذلك من خلال الايمان بان مهمة من يتعلمون هي استيعاب ما يقدمه العلماء من افكار ثم التوغل في اسرار تلك الافكار واكتشاف النقص فيها كي تقدم العقول الشابة الجديد. ولعل ذلك هو ما يجعل الشاب العربي يرفض دون ضجيج ان تتقدم كل من تركيا وايران ومعهما اسرائيل بما يصرفونه علي البحث العلمي وهو يفوق بمراحل شاسعة ما تصرفه الامة العربية علي العلم والتعليم.. فبذور العقول الكبيرة موجودة عند الشباب العربي, وهي قادرة علي ان تمد مجتمعاتها بما تحتاجه من عقول كبيرة ان ردمنا هوة النظر الي العقول الشابة كمادة تليفزيونية نفخر بها في المناسبات, ووصلنا الي قناعة واهمية ان نوفر للعقل الشاب حالة من التواجد في المعامل وقبولا لافكاره. ولذلك كنت اري في عيون الشباب حالة من الرفض لتقديم نماذج فردية ناجحة, وكانوا يعلنون اعجابهم بانتاج أي فريق عمل يفتح ثغرة في جدار الواقع الصلد ليفتح ابواب مستقبل مختلف, وتمثل ذلك في ترحيبهم بما تقدمه مكتبة الاسكندرية من نماذج شابة قادرة علي ان تزاحم في سوق التكنولوجيا مما دفع مكتبة الكونجرس علي سبيل المثال لتطلب من فريق العمل التكنولوجي بالمكتبة كي تساعدها في انجاز مهام كثيفة, فضلا عن طلب الاممالمتحدة لمعونة الفريق التكنولوجي بالمكتبة لمساعدتها في مشروع تصميم برامج ترجمة فورية من اي لغة لاي ثقافة الي لغة اخري من ثقافة مغايرة. وطبعا يحدث هذا وهو محاط بصمت اعلامي لا يجد من يرصده حتي من اهل العاصمة القاهرة. ونجد من فرق العمل الشابة من سوف يسافر خلال ايام ليقدم في سوق المخترعات الشابة بالولايات المتحدة ما يمكن ان تستفيد به الحضارة البشرية, مثلما استفاد هذا السوق في العام الماضي من عديد الافكار, كاختراع شاشة صغيرة توضع علي صدر اي اصم ابكم, وتتصل تلك الشاشة بقفاز يرتديه في يده الاصم الابكم العارف بلغة الاشارة, وحين يحرك اصابعه بلغة الاشارة في القفاز يتم ترجمة حركات الاصابع الي كلمات يمكن ان يقرأها اي انسان علي الشاشة الصغيرة الموجودة علي صدره. ورغم كل ما يقدمه العمل الجماعي من افكار الا ان الطريق امام تواصله مع العلم التطبيقي ليس مفتوحا لضيق امكانات المدارس والكليات المختلفة, سواء اكان هذا الضيق بسبب الامكانات المادية مثلما يحدث في المجتمعات الكثيفة السكان والتي تملك ثروات مادية كبيرة, او كان هذا الضيق بسبب عجز الكبار عن تقليص التقاليد البالية التي تنظر الي الجامعات كبيت يستورد العلماء دون ان يكتشفوا قدرات الشباب من ابناء تلك المجتمعات. والدليل اننا لا نجد فيما نرصده من براءات الاختراع, ما يرفع الرصيد العربي الي الحد اللائق ولا اقول المنافس كل من تركيا او ايران او اسرائيل. ان الواقع العربي من المحيط الي الخليج في حاجة الي الخروج من حصار عدم الثقة بالاجيال الشابة, وهي مهمة قد تبدو هينة ولكنها ليست كذلك ان نظرنا الي الواقع والوقائع التي تجري كل لحظة من المحيط الي الخليج.