من فترة ليست قصيرة راحت كتابات لأدباء وسياسيين ونشطاء, ومعها برامج فضائية كثيرة تتناول العلاقة بين المجلس الأعلي للقوات المسلحة والثورة, بعض هذه الكتابات خلطت ومازالت- بين الحقائق كما هي علي ارض الواقع والأحداث كما لو كانت منقولة من رواية أو مسلسل تليفزيوني, فمزجت بين الدراما وما تحمله من شحنات عاطفية وانفاعلات وجدانية وبين التحليل السياسي بما يتسم به من عقلانية وصرامة وتفكير منظم.. وقد دارت معظم هذه الكتابات والبرامج حول عدة نقاط جوهرية تثير الحيرة والاضطراب بين المصريين في لحظة فارقة من تاريخ مصر, يبدو فيها الأفق مفتوحا علي احتمالات كثيرة, بعضها خطير للغاية, فتزيد من حالة الهياج النفسي لقطاعات عريضة من شبابنا, ويظل المجتمع متوترا عصبيا غير قادر علي استعادة توازنه وهدوئه! أولي هذه النقاط أن قرارات المجلس العسكري السياسية مرتبكة ومتضاربة تعكس رؤية ضبابية للمستقبل.. ويبدو لي أن الرؤية ليست ضبابية إلي هذا الحد, وإن كانت بعض قرارات المجلس مرتبكة وربما كانت متضاربة فعلا, وهذا راجع فيما أري إلي المطالب المتعددة والمتضاربة لفئات الثوار المختلفة وما أكثرها والتي حاول المجلس- مخطئا وما كان له أن يحاول- الإستجابة لها مما تسبب في تناقض القرارات, وإلا بربك أخبروني كمثال كيف يوفق المجلس بين من يستعجلون إجراء الانتخابات ومن يطلبون تأجيلها ومن ينادون بالدستور أولا ومن ينادون بالانتخابات أولا, وكلا الفريقين غاضب إذا لم تنفذ مطالبه ؟ ثانيا كان لجمعة تصحيح المسار مطلبان هما: إيقاف إحالة المدنيين إلي محاكمات عسكرية, وتحديد جدول زمني لانتقال السلطة.. وقد نتفق تماما علي إيقاف إحالة المدنيين إلي محاكمات عسكرية باستثناء جرائم البلطجة والمخدرات والاعتداء علي القوات المسلحة أو الشرطة ولفترة محدودة فقط, أما المطلب الثاني فقد كان غريبا وهو تحديد جدول زمني لانتقال السلطة, وسؤالي: ألم يكن الجدول الزمني وطريقة تنفيذه وتوقيتاتها موجودة بالفعل وسبق استفتاء الشعب ووافق عليه ؟, فما الذي حدث ؟, لقد أفسدت فصائل الثورة المتناقضة والمتصارعة خريطة الطريق هذه حينما خرجت علي شرعية الاستفتاء ابتغاء مكاسب آنية أقل ما يقال فيها أنها جدلية غبية بلا معني, لقد طالب نصف الثوار بتأجيل الانتخابات, وإذا لم تؤجل اعتبروا المجلس موالسا مع الإخوان لأنهم الفصيل السياسي الأكثر تنظيما, وعلي الجانب الآخر نجد النصف الآخر من الثوار يتهمون المجلس في حال موافقته علي تأجيل الانتخابات بأنه يخالف خارطة الطريق التي تم الإستفتاء عليها وإنه يفعل ذلك طمعا في الاستيلاء علي السلطة والبقاء في الحكم, فما الذي يمكن أن يقوم به المجلس وهو يحاول إرضاء الجميع سوي التخبط في القرارات وهو ما يلومه البعض عليه الآن؟ والمدهش أن ثمة كتابات وبرامج تتهم بعض جماعات الإسلام السياسي بأنها تحالفت من أجل إفشال جمعة إصلاح المسار, حرصا علي نيل رضا المجلس العسكري حتي تضمن لنفسها أكبر عدد من مقاعد الحكم. وهذه اتهامات خطيرة تحاول أن تقلل من قيمة مثقفين ومفكرين وأساتذة جامعات أعضاء في هذه الجماعات, والغريب أن نلوم هذه الجماعات السياسية لأنها رفضت الاشتراك في المظاهرة, أليس هذا من حقها ؟ أليس الاختلاف واردا ؟ أليست الرؤي متباينة ؟ أم أننا نريدها أن تسير قطيعا خلف بعضها البعض بمن فيهم من أساتذة الجامعات وأصحاب الخبرات السياسية مثلهم مثل الصبية محدودي الثقافة السياسية والخبرات الذين يسارعون إلي قذف الحجارة قبل التفكير, وهم الذين هاجموا وزارة الداخلية ودار القضاء والسفارتين السعودية والإسرائيلية, أليس لكل فصيل سياسي الحق في اختيار مواقفه ؟ لكن أخطر الاتهامات هي أن المجلس العسكري يضاعف من إجراءات لإجهاض الثورة, ولن ينجح لأنه يواجه مصريين مختلفين تماما عن أولئك الذين حكمهم مبارك ثلاثين عاما.. وفعلا المصريون الآن مختلفون..لكن أليس من العقل والحكمة أن نكتفي بالتسعمائة شهيد الذين سقطوا حتي الآن ومن خلفهم من الثكالي والأيتام, يضاف إلي ذلك الثمانية آلاف جريح ومصاب ومعاق, هل من الضروري أن يستمر بعض من أصحاب الغرض في استفزاز القوات المسلحة والإساءة إليها كما لو أنهم يستهدفون أن يتحول الجيش المصري إلي جيش سوري أو جيش ليبي أو جيش يمني آخر ثم يأتي اليوم الذي نتحدث فيه عن العشرة آلاف قتيل والخمسين ألف جريح, هل افتعال الصدام مع الجيش في صالح الثورة أو الوطن؟! ثم نأتي إلي بيت القصيد وهو أحداث العنف في مبني وزارة الداخلية ودار القضاء العالي ومديرية أمن الجيزة والسفارة الإسرائيلية وبدلا من إدانة الغوغاء والبلطجية والأجراء الذين التحقوا بالمظاهرة السلمية وحولوها إلي العنف المجنون الذي شاهدناه في نهاية اليوم, إندفع البعض إلي لوم الآخرين لعدم الانضمام إليهم رغم أن رؤيتهم حين تحسبوا للأمر وامتنعوا عن الاشتراك في التظاهر كانت هي الأصح وبالتالي فوتوا الفرصة علي البلطجية, وكما هي عادة الإعلام المضلل لجأ البعض إلي نظرية الهروب إلي الأمام بادعاء التآمر و تدبير الحوادث والاعتداءات من أجل تشتيت الانتباه عن نجاح المليونية وتبرير العمل بقانون الطوارئ, وأن الهجوم علي وزارة الداخلية والسفارة الإسرائيلية ليس سوي مؤامرة مدبرة ضد الثورة.., ما هذه السذاجة في الاستدلال؟! ومن فرط التربص تساءل البعض: لماذا انسحبت قوات الشرطة قبل الهجوم؟ ولماذا لم تحرك الشرطة العسكرية ساكنا علي مدي ساعات وتركت المعتدين يفعلون ما بدا لهم في وزارة الداخلية والسفارة الإسرائيلية؟! هنا نسأل نحن بدورنا:, ما الذي يريده الثوار من الشرطة وبالذات العسكرية؟!, تمنع المتظاهرين أم تطلق عليهم الرصاص أم تقدمهم للمحاكم العسكرية أم تتركهم يفعلون ما شاءوا ؟ وهو فعلا سؤال صعب.. فهي إذا لم تحرك ساكنا واكتفت بالوقوف وتركتهم يقومون بالتخريب والتدمير اتهمهم البعض بالتآمر علي الثورة لتطبيق قانون الطوارئ, وإذا حاولوا منعهم من التخريب والتدمير وما يتطلبه ذلك من استخدام القوة ثم الاعتقال والمحاكمة إتهمهم نفس البعض بالقسوة والعنف ضد متظاهرين مسالمين وخرجت إحدي المليونيات الكثيرة الجاهزة في أحد الأدراج لتندد بما فعله الجيش او الشرطة, واضح أن المشكلة ليست في المجلس العسكري الحاكم, وإنما هي في عرابو الثورة الذين سيعارضون إذا ذهبت يمينا وسيعارضون إذا ذهبت يسارا, ويحملون في صدورهم الكثير- طبقا لأدبياتهم ومعتقداتهم- ضد من يسمونهم العسكر, وليس ضد قواتنا المسلحة بالذات. أخيرا أقول وأناشد كل من له تأثير قيادي في الثوار أن تكون قراراتهم أكثر نضجا, وخياراتهم أكثر عقلانية, بدعوة الثوار إلي الكف عن التداخلات المتناقضة في عمل المجلس الأعلي, وعدم تجاذبه ذات اليمين وذات الشمال, حتي يمكنه أن يقوم بعمله الذي وعد به واستفتي الشعب عليه, وهو استعادة بناء المؤسسات الدستورية للدولة في المدة التي حددها, وفي الوقت نفسه ألوم المجلس الأعلي وأدين محاولته الاستجابة لطلبات هذه المجموعات السياسية المعوقة للثورة, أيضا ألوم المجلس علي محاولته رفع المعاناة عن بعض قطاعات الموظفين بقبول امتناعها عن العمل ومن ثم محاولته الاستجابة إلي مطالبها الفئوية التي دائما ما تكون متعارضة ومتناقضة, مع أن هذا لم يكن عمله المكلف به ويحتاج إلي دراسة متأنية وقانونية من المتخصصين المهنيين والماليين, وأيضا إلي تدبير الموارد المالية اللازمة وهو ما يدخل ضمن نطاق عمل الحكومة المنتخبة المقبلة وإلا فما هو عملها ؟ لقد تسبب المنتسبون زورا إلي الثورة في تشتيت عمل المجلس وإلهائه عن مهمته الرئيسية.. فهل يمكن أن تتركوه يعمل ثم تحاسبوه علي نتائج العمل؟