تعددت قضايا الخلاف بين القوي السياسيةفي مصر منذ سقوط حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك, وبعد أن توحدت القوي التي شاركت في الثورة حول هدف إسقاط النظام, دب الخلاف فيما بينها حول كثير من القضايا منها كيفية حكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية, وأولويات المرحلة الانتقالية, وحكمة الأخذ بمباديء دستورية أساسية, وأضيف أخيرا إلي موضوعات الخلاف هذه جدل حول فكرة الدولة المدنية, فما هي حقيقة الخلاف حول هذه الفكرة؟. وما هو المقصود بالدولة المدنية؟. يحتج المعترضون علي فكرة الدولة المدنية بأنه ليست بها أصول في علم السياسة, ومعروف أن علم السياسة هو غربي في مضمونه حتي الآن, ولهذا فأيا كان وضع هذا المفهوم, فهو مرفوض منهم, إذا كانت له جذور في علم السياسة, فهو مرفوض في رأيهم لأنه مفهوم مستورد, وإن لم تكن له جذور في هذا العلم, فهو مفهوم غير علمي, والواقع أن هذا الاعتراض لا يبدو مقنعا, لأن المفاهيم النظرية تتولد أيضا من واقع الحياة السياسية والاجتماعية, ولذلك فالقول بأن مفهوما معينا لامكانة له في العلم في الوقت الحاضر لا تنفي عنه امكانية أن يصبح مفهوما مقبولا في العلم في وقت لاحق, إذا كان هناك قسم مهم من المجتمع السياسي المصري يعلق أهمية كبيرة علي مفهوم معين, فلا شك أن هذا المفهوم له قيمة كبيرة, وسوف يصبح أحد عناصر علم السياسة العربي, بل وعلم السياسة في كل أنحاء العالم فيما بعد. وفي محاولة التعريف بمفهوم الدولة المدنية هناك بكل تأكيد عناصر تتفق كل هذه الأطراف علي ضرورة أن تتسم بها الدولة التي يدعون إليها, ولكنها تختلف في تفسير عناصر أخري. هناك اتفاق مثلا علي أن الدولة المرجوة في مصر ليست امتدادا لما يسمي بالولاءات الأولية, أي الولاءات الإثنية أو العرقية أو القبلية, فهي تقوم علي اساس المواطنة, والمساواة في المواطنة بدون أي تمييز علي أي أساس, سواء كان الدين أو النوع أو الجنس أو اللغة, وهناك اتفاق أيضا علي أنها دولة لا يحكمها العسكريون, بل وهناك اتفاق أيضا علي أنها دولة ليست ثيوقراطية, أي لا يحكمها رجال الدين, فكل الإسلاميين في مصر يؤكدون أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية, وأن ما يتطلعون إليه هم دولة يحكمها البرلمان, ولكنها دولة تلتزم بالشريعة الإسلامية, أو هي دولة ذات مرجعية إسلامية. والواقع أن هذه النقطة الأخيرة هي موضع كل الخلافات حول هذا المفهوم, الفريق الداعي إلي دولة مدنية يؤمن بالأديان, ومعظم أعضائه من المسلمين المتدينين, وفيه مسيحيون, بل إن الإخوان المسلمين يقولون أيضا إنهم من أنصار الدولة المدنية, أما الفريق الرافض لفكرة الدولة المدنية ويجد أنصاره بين الفرق الإسلامية الأخري, خصوصا بين السلفيين والجماعة الإسلامية وبقايا تنظيم الجهاد فهو يشن حربا علي المفهوم والقائلين به, ولذلك فمن الضروري معرفة أبعاد الخلاف بين الفريقين, خصوصا أن الفريق الثاني لا يوضح حدود تفسيره لمكانة الدين في الدولة التي يتطلع إليها, أنصاره بل ومعهم الإخوان المسلمون هم غالبا ليسوا راضين عن الصياغة التي أصبحت موضع إجماع بين كل القوي السياسية في مصر, وهي أن مبادي الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي, وبعضهم يقول إنها يجب أن تكون المصدر الأول للتشريع. فما هي أبعاد الخلاف بين الفريقين حول هذه القضية؟ هناك أربعة جوانب لمكانة الدين في الدولة المدنية, هي الموقف من حرية الاعتقاد, ومصادر التشريع, وعلاقة المؤسسات الدينية بالحياة السياسية وخصوصا الانقسامات الحزبية, وأخيرا حدود حريات الفكر والتعبير. الدولة المدنية هي أولا دولة تحترم حرية الاعتقاد لكل المواطنين, أيا كانت عقيدتهم, سواء كانت ديانات سماوية أو غير سماوية, وسواء كان أصحاب العقائد المختلفة من المتدينين أو الملحدين. والدولة المدنية هي ثانيا دولة تحكمها قوانين وضعية, بمعني أنها قوانين يصنعها البشر وفقا لحاجاتهم, وتجد هذه القوانين مصدرها في العرف, وأحكام القضاء والمذاهب القانونية, وقد لا تختلف هذه الأخيرة مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية, ولكن ما يثير الخلاف حول هذه القضية أنه لا توجد دولة مدنية وحيدة في العالم تستمد تشريعاتها من أي دين, بل لا توجد دولة حديثة واحدة تفعل ذلك, والأمثلة القائمة علي دول تستلهم عقائد دينية في صنع قوانينها هي كل من المملكة العربية السعودية وإيران, وربما اسرائيل, التي يثير الأخذ بتعاليم التوراة فيها خلافات حادة بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين. والواقع أن الرافضين لفكرة الدولة المدنية علي هذا الأساس يواجهون بثلاثة تحديات يصعب تجاوزها أولها أن أي دولة هي رابطة إقليمية تقوم علي المواطنة لكل من يعيش علي إقليمها, وهي ليست رابطة دينية, الدولة ليست هي الأمة في المفهوم الإسلامي, ومن ثم فتعدد العقائد هو الأمر المألوف فيها, ولذلك ليس من المقبول أن يفرض أصحاب عقيدة معينة تفضيلاتهم علي المواطنين الآخرين في تلك الدولة, والتحدي الثاني هو أن عليهم أن يبينوا للمواطنين الآخرين ماهي أحكام الشريعة التي يريدون الأخذ بها, والتي تتجاوز المبادئ العامة للشريعة الإسلامية التي لا خلاف عليها, والتحدي الثالث هو أنهم يظلمون الشريعة بتصور أنها يمكن أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع في مختلف أحوال الوطن المتنوعة والمتجددة من قضايا سعر العملة وإدارة التجارة الخارجية وإقامة المفاعلات النووية والبحث العلمي وانتهاء بقواعد المرور وتنظيم البناء في المدن والقري. وهناك فارق كبير بين القول ان قيم الدين في تفسيرها المستنير تشكل حافزا قويا للتقدم, وتصور أن الشريعة الدينية يمكن أن تطرح أساسا لوضع القوانين في كل هذه المجالات, والتحدي الثالث هو تحديد السلطة التي سوف تحدد ما يتفق مع شريعة الإسلام وما يخرج عنها, هل هي القيادة السياسية لهذه الأحزاب والجماعات؟, أي مكتب إرشاد جماعة الأخوان المسلمين أو قيادة أحزاب السلامة والتنمية أو البناء والتنمية, الوجهان السياسيان لكل من جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية أم هم شيوخ الأزهر. ألا يعيدنا ذلك إلي جوهر الدولة التي يحكمها رجال الدين؟ وثالثا لا ينبغي أن يكون للمؤسسات الدينية دور سياسي في الدولة المدنية. يحظر علي هذه المؤسسات أن تفسح دور العبادة لأي حزب من الأحزاب. دور العبادة هذه هي من بين مؤسسات المجتمع المدني التي يجب إما أن تكون محفلا للحوار بين كل القوي الاجتماعية والسياسية مثلها في ذلك مثل المؤسسات الإعلامية, أو تقف موقفا محايدا منها مثل الجامعات ومراكز الأبحاث. وهذا يجب ألا يحول بينها واتخاذ مواقف علي أسس أخلاقية في القضايا الكبري التي تهم الوطن. وأخيرا, أحد المعايير الأساسية لمدنية الدولة والمجتمع السياسي فيها هو احترام التعددية في الرأي ورفع القيود علي حريات الفكر والتعبير في كل المجالات سواء كانت البحث العلمي أو التنافس الحزبي. ومن ثم لا تعرف الدولة المدنية اضطهاد مفكر بسبب آرائه أيا كانت, أو تقييد حرية البحث العلمي لأي سبب لأن فتح باب الاجتهاد في كل المجالات هو السبيل لتقدم المجتمع. بطبيعة الحال هذا هو المثل الأعلي للدولة المدنية الذي يتطلع له كثيرون في مصر, وهو مثل تقترب منه الدول المتقدمة بدرجات متفاوتة, ولكن لا يعرف علم السياسة في القرن الحادي والعشرين, دولة متقدمة تبتعد كثيرا عن هذا النموذج. فليشرح لنا إذن أطراف هذا الخلاف في مصر مواقفهم من كل هذه الأبعاد, لعل الرأي العام يستنير بتوضيحهم.