مازالت الثورات العربية التي اندلعت أخيرا وخصوصا في تونس ومصر تمر بمرحلة الصراع ولم تصل بعد إلي نقطة التوازن! يمكن القول بدون أدني مبالغة ان قانون الصراع والتوازن هو الذي يحرك التاريخ الانساني منذ اقدم العصور حتي العصر الحديث. وبيان ذلك ان المجتمعات الانسانية التي نشأت في سياق صراع عنيف مع قوي الطبيعة الشرسة واستقرت في وجودها, كان لابد لها من اجل تأسيس مجتمع سياسي أن تمر بمرحلة صراع عنيفة بين قوي سياسية متعارضة قبل ان تصل الي مرحلة التوازن. وهذه القوي السياسية المتعارضة اختلفت اتجاهاتها عبر العصور, فقد جاء وقت كانت فيه القوي الدينية هي المسيطرة والتي ارادت أن تسم المجتمع بمسميها وتسيطر من ثم علي النظام السياسي. استمر هذا الوضع قرونا متعددة الي ان قامت ثورة سياسية كبري في اوروبا للخلاص من قيود الكنيسة والأغلال التي احاطت بها المجتمع الانساني, معلنة بداية العلمانية التي تعني الفصل بين الدين والدولة وليس الفصل بين الدين والمجتمع. غير ان ذلك بداية لصراع طويل مستمر بين قوي اليمين المحافظة وقوي اليسار الراديكالية. ويمكن القول إنه في العصر الراهن وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتغيرات النظام الدولي والازمات الحادة التي تمر بها كل من الماركسية والليبرالية الجديدة, فان معاني اليمين ودلالات اليسار اختلفت اختلافات جوهرية. وايا ما كان الامر فما اردنا الاشارة اليه هو انه بعد فترة من الصراع لابد للمجتمع ان يحاول الوصول الي نقطة التوازن, لان المجتمعات لايمكن لها ان تعيش في ظل صراع دائم, ينطبق ذلك كقاعدة عامة علي حركة المجتمعات الانسانية عموما وعلي الثورات خصوصا. كيف يمكن تنظيم الصراع في هذه اللحظة التاريخية الحساسة حتي لاتتبدد قوي الثورة وتذهب سدي في مسارات جانبية, او تستنفد طاقتها في معارك مزيفة؟ كان هذا هو الموضوع الذي تصدت له ندوة المثقف والجماهير في معرض الكتاب بالقاهرة والتي أشرنا إليها في المقال الماضي. وقد قدم الدكتور عمرو حمزاوي مداخلة بالغة الاهمية ركزت علي خمس نقاط أساسية تكاد تكون مانيفستو لادارة الثورة لحركتها في المرحلة الحاسمة الحالية والتي يسعي فيها المجتمع سعيا وراء الاستقرار الي الانتقال من الصراع الي التوازن. النقطة الاولي هي اهمية ترشيد الخطاب السياسي للثورة, وينطبق ذلك علي الناشطين السياسيين وعلي الحشود الجماهيرية في نفس الوقت. بمعني ضرورة ممكنة هذا الخطاب, ودعم رفع شعارات سياسية غير واقعية تنادي بالتحقيق الفوري لمطالب تحتاج الي سنوات. النقطة الثانية وهي بالغة الاهمية انه لاينبغي للرأي العام أو الحشود الجماهيرية ان تصدر احكاما مسبقة علي المتهمين من رموز النظام السياسي, الذين يخضعون للمحاكمة الجنائية هذه الايام. ومن المعروف ان من بين عقائد الثورة ضرورة احالة المتهمين الي القاضي الطبيعي وعدم قبول اي محاكم استثنائية مدنية كانت او عسكرية. ولذلك بدا احتجاج الحشود الجماهيرية علي بطء محاكمة رموز الفساد, وكأنه رفض لاجراءات المحاكمات القانونية في القضاء الطبيعي, وهذا القضاء كما هو معروف متعدد الدرجات ففيه محاكم ابتدائية واستئنافية ومحكمة نقض, وهذا التعدد يعطي اكبر الضمانات للمتهم حتي يصدر الحكم النهائي البات عليه ويصبح حسب التعريف السائد هو عنوان الحقيقة. ومن هنا فإن رفض الحشود الجماهيرية لبعض احكام البراءة التي صدرت ضد بعض المتهمين فيه خلط بين الثورة والغوغائية وذلك لانه من المعروف ان القاضي لايحكم بعلمه وانما يحكم من واقع الاوراق, واذا كانت اوراق الدعوي لاتتضمن ادلة قاطعة تؤدي الي الحكم علي المتهم فلابد للقاضي الجنائي الذي يقوم حكم حسب الاعراف القضائية علي الاقتناع ان يصدر حكما بالبراءة. كذلك نزوع بعض الحشود الجماهيرية الي ان الحكم علي الرئيس السابق مبارك واعوانه لابد ان يكون بالاعدام فيه مصادرة لحق القضاة في اصدار احكامهم, وقد شهدنا في الايام الاخيرة بعد حوادث مقتل الجنود المصريين علي الحدود بين مصر وإسرائيل نوبة غضب عارمة مشروعة في حد ذاتها غير ان بعض الهتافات التي اطلقتها الحشود الجماهيرية واهمها شعار الشعب يريد اسقاط كامب دافيد تحتاج الي تحليل نقدي. وذلك لانه لايمكن للحشود الجماهيرية مهما كانت درجة ثوريتها ان تفرض علي الدولة توجهات سياستها الخارجية التي تحقق المصلحة القومية وفق حسابات بالغة الدقة. ومن هنا تبدو مهمة المثقفين والناشطين السياسيين في ترشيد لغة خطاب الشارع السياسي والذي يمكن ان تغيب عنه مخاطر الغاء اتفاقية كامب دافيد. والنقطة الثالثة التي اثارها عمرو حمزاوي هي اهمية التركيز علي الاولويات وعدم انجرار القوي السياسية المتصارعة الي قضايا خلافية تؤدي الي تشرذم الحركة الثورية.ومن ناحية ثالثة اهمية الالتزام بشعار الثورة سلمية سلمية والاحتفاظ بالطبيعة السلمية للعمل العام, بما يتضمنه ذلك من عدم التحريض علي العنف وعدم اللجوء الي العنف اللفظي بما يتضمن احيانا تخوين بعض الاطراف او تكفير بعضهم الآخر. وذلك يستدعي السعي الي التوافق العام بين قوي الثورة والتيارات السياسية المؤيدة, وادراك انه لايمكن ازالة القديم بالكامل في فترة وجيزة واهمية ضرورة استحداث الآليات المؤسسية التي تحقق شعارات الثورة وتعبر عن طموحاتها. واخيرا لابد من التمسك بالرأي او الفكرة حتي لو كانت لاتلقي القبول العام. وعلي ذلك من وجهة نظرنا لاينبغي مسايرة بعض الآراء المتطرفة التي تنادي بتطهير المؤسسات العامة جميعا والجامعات والإعلام وحتي القضاء من فلول النظام السابق. وذلك لأن فكرة التطهير في ذاتها وتعني الفصل او العزل من الوظيفة او الحرمان من المرتب والمعاش لجماعات عريضة من الموظفين بغير توجيه اتهامات محددة وفقا لقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.. تعد عدوانا صريحا علي الدستور والقانون وهو يمثل لإجراء ضد حقوق الانسان. الحديث يطول حول الصراع والتوازن في الحركة الثورية, وتحتاج الي جولات قادمة من النقاش النقدي حفاظا علي مثاليات ثورة52 يناير.دة وإن كان فرصة لتنعم البلاد ببعض الهدوء للانشغال بالعبادة وحرص الكثيرين علي أداء العمرة وزيارة البيت الحرام الذي شهد زحاما. نقلا عن جريدة الأهرام