صحوت مبكرا كعادتي منذ أن صدر أمر تكليفي للعمل بهذه الشركة, وجدتني أتحرك آليا... أرتدي ملابسي التي حرصت دائما علي أن يتواءم لون رباط عنقي مع لون البدلة والقميص. ما أكاد انفلت من أسر البيت حتي أنطلق خفيفا, ونشيطا إلي حيث ينتظرني السائق بالسيارة التي خصصتها لي الشركة منذ ترقيتي رئيسا لأهم قطاعاتها,. ما أن يلمحني من بعيد حتي يهرول نحوي مختطفا الحقيبة من يدي, ثم يهرول إلي العربة ليفتح بابها الخلفي, ويظل ممسكا به حتي أستقر في ركني الذي اعتدت أن أقبع به ليقفله, يرتد ليأخذ مكانه وراء عجلة القيادة التي يتهادي بها بين مارة تنغرس أعينهم فيها وكأنهم يتحسرون علي حظهم العثر... في هذا الصباح رحت أجرجر الخطو إلي نفس المكان شارد الفكر.. زائغ العينين.. غير مصدق أن كل هذه السنوات قد مرت هكذا كلمح البصر.. ثمانية وثلاثون عاما.. بعد أن ظهرت نتيجة البكالوريوس بشهر واحد.. تلقيت مكالمة هاتفية تطلب مني الذهاب إلي مقر الشركة لاستلام عملي... ياااه.. معقول..؟!! نعم.. معقول... تزوجت وأنجبت بنينا وحفدة, ورحل الأب ولحقت به الأم التي لم تطق صبرا علي بعاده, والكثير من الجيران والاصحاب والأقارب... سكينة حامية شقت صدر الزمن بسرعة كبيرة ومازالت, لتفاجأ بهذا اليوم الذي ظننته بعيدا ولم تكن تدري أنه أقرب من حبل الوريد. لم تعد شابا ولا كهلا, بل شيخ كبير... ياه.. لم أكن أدري أن الأيام تجري هكذا بسرعة البرق جلست وراء مكتبي الذي لم يعد يشغل سطحه ورقة واحدة مهموما, تائه الفكر, زائغ العينين, مضطرب الفؤاد. يا سعادة الباشا.. يا حسين باشا.. اتفضل سعادتك في القاعة, الجميع في انتظارك ليبدأوا الحفل.. اضطر أن يضع كفه علي كتفي ويهزني قائلا: يافندم كل الناس في انتظار سعادتك في القاعة ليبدأوا الحفل. ها.. آ.. أيوه أيوه... حاضر. ما أن انفلت من مبني الشركة حتي سألتني نفسي وأنا أخطو.. علي غير العادة نحو محطة الحافلات: خلاص... أصبحت مثل خيل الحكومة..؟! أحسست وكأن نصلا ينغرس في نفسي, وأنا أجر الخطو تحت وطأة الشمس الحارقة.. التقط أنفاسي بصعوبة.. أقف في انتظار الحافلة.. جاءت مبقورة البطن من كثرة ما تحمل فيه من ركاب, حشرت نفسي بينهم.. كادت رائحة عرقهم وخلوف أفواههم, وحرارة الجو المختلطة بالرطوبة تخنقني, وددت لو أنفلت إلي الطريق وأكمل المشوار مشيا علي قدمي, لكن كيف والمسافة مازالت بعيدة وحرارة الجو تشوي الوجوه, لذت إلي الصبر الذي لم يبد جميلا, لم تكن هكذا أيام أن كنت أعتمد عليها في ذهابي وإيابي في الزمن الفائت. عابدين يا ريس. ياللا استعد. شكرا. كل ملابسي تكرمشت.. اتسخت.. بللها العرق, غير مهم.. المهم أنك وصلت.. إحمد ربك.. ياااه.. لم أكن أعرف أن حالنا وصل إلي هذا السوء, ولكن لم العجب.. أليس هذا نتيجة للعشوائية التي ندير بها حياتنا..؟ يقول أحد المسئولين: سننقل العاصمة, فيقول آخر: لا.. لن تنقل العاصمة, فأخالهما صبيان يعاندان بعضهما. ما أن رأتني علي هذه الحال حتي أصابها الفزع, أطل من عينيها وافترش صفحة وجهها وهي تسألني: ما هذا.. ماذا حدث..؟! استندت إلي كتفها.. لفت ذراعها حول ظهري.. أخذتني لأقرب مقعد.. سألتني ملهوفه: ماذا بك...؟ من فعل بك هذا؟! أشرت إليها بأصابعي المضمومة إلي بعضها أن اصبري علي قليلا.. جرت إلي المطبخ.. جاءتني بكوب ماء.. دلقته في جوفي وهي تنظرني مضطربة, حتي استطعت أن ألتقط أنفاسي. لهج لسانها بالحمد, ثم راحت تهون علي الأمر.. وماذا في هذا..؟ أليس لكل شيء نهاية.. ألم يكفك شقاء كل هذه السنين..؟ ألم يأن لك أن تستريح..؟ ثم راحت تدعو لي بالصحة والعافية وتثني بالحمد لله أنني أنهيت مدة خدمتي علي الصورة المشرفة, وأن أتفرغ بعد ذلك للعبادة. مر الوقت بطيئا, مملا.. أسبوع, أسبوعان, شهر وأنا قابع في البيت لا أبرحه, حتي الشارع لم أره, ولم أجلس أمام التلفاز.. تراكمت علامات الحزن والأسي فوق صفحة وجهي, فاعتري زوجتي القلق علي فحاولت أن تخرجني منه.. سألتني: ما رأيك لو تسلي نفسك بالذهاب إلي السوق وتشتري لنا بعض الخضر والطماطم والذي منه..؟ تعرف أن نزولك الي السوق فيه تسلية لك, وخروج من الحالة التي تعانيها من فراغ وملل وضيق. وكأنها فكرة كانت تائهة عني ووجدتها فجأة, فرحت بها فوجدتني أهب واقفا وأرتدي ملابس الخروج, التقطت شنطة الخضار وجريت الي السلم فرحا, رحت أهرول في الطريق وكأني طفل فرح تخلص من قبضة أمه. ما هذا.. أين الناس..؟ ربما يكونون مضربين عن الشراء..؟ أتمني أن يكون لهم موقف واحد إزاء شيء ما؟؟ أي شيء ولو موقفا سلبيا.. هل يتحقق هذا الأمل في القريب بعد أن طفح الكيل من الكثير مما يمارس ضدنا... غلاء الأسعار, وإهمال المرافق, وبيع شركات ومصانع القطاع العام, والاستيلاء علي الأراضي الزراعية وتسقيعها وبيعها علي أنها أراضي بناء وإهمال الزراعة والاعتماد علي الاستيراد.. مثالب كثيرة تمارس ضدنا, ولكن من فرعن الفرعون غيرنا..؟ لكن لكل شيء نهاية التي أراها قد اقتربت, فانفجار البركان نتيجة حتمية لازدياد الضغوط. قرص الشمس في كبد السماء يرسل حمما, تخترق أشعتها فروة رأسي, جلد وجهي, تتسرب الي دمي, أحسه يغلي.. أسرع الي بقع الظل الشحيحة المتناثرة في أرجاء السوق.. أقلب عيني في الأسعار.. أووه.. لقد أصابتها حرارة الجو.. الطماطم سبعة جنيهات, والبامية ثمانية.. الفاصوليا خمسة ونصف الجنيه, الكوسة التي لم أكن أعيرها نظرة أربعة جنيهات.. بلاها بامية.. وبلاها فاصوليا.. عليك بالمسقعة. بكم كيلو الباذنجان ياحاج؟ أربعة جنيهات الباذنجان الرومي.. القلية؟ لم يعرني التفاتا, اكتفي بأن مسحني بعينيه.. سبحان الله.. أكيد اننا نستخلص حقنا من بعضها, مادمنا قد عجزنا عن ذلك مع الذين أوصلونا لهذه الحالة.. لكن أكيد سيجيء اليوم الذي يمكننا أن نترجم انفعالاتنا ذلك بشكل عملي في يوم آت, فالإرهاصات التي ألاحظها تدل علي اقترابه. المهم الان أن استكمل تسوقي وأخرج سالما من السوء .. ما رأيك في البطاطس؟ والله فكرة.. ممكن نعملها ني في ني, أو حتي بوريه.. الكيلو بثلاثة جنيهات, والخيار لزوم السلاطة أيضا بثلاثة جنيهات.. أمعقول هذا؟! الخيار الذي كنا نضرب به بعضنا ونحن صغار..؟!! نعم خيار صوب مقاس واحد... تفصيل.. خيال ارستقراطي.. ابن ناس.. أما الخيار الذي عرفته فخيار بلدي.. عجر, علي الرغم من أن له طعم الخيار, لكنه بلدي. أووه.. يبدو انك اصبت بالبرجوازية علي الرغم من أصولك العمالية, دعك من الخضر والبطاطس والخيار وعليك باللحم لزوم طبخة كفتة بالدمعة, مادامت أسعار الخضر في بلدتنا التي يتخللها نهر النيل ويقع جنوبها أكبر بحيرة مياه عذبة ويتناثر فيها العديد من الترع لم تعد في متناول يدك. بكم كيلو اللحم يا معلم؟ أربعون جنيها. الجملي يا معلم؟ أمال الضاني ياحبيبي؟ آثرت الفرار من أمامه فشيعني بصوته الأجش: مالك أنت واللحم, الأحسن تاكلك طبق كشري تملأ به بطنك. قلت لنفسي: والله فكرة.. كانت تايهة ووجدتها. ووجدتني أقف وجها لوجه أمام دكانة علافة.. تطالعني أسعار الأرز والمكرونة والعدس.. اشتريت نصف كيلو من كل صنف.. سنقضيها اليوم كشري.. ثم ماذا..؟ حدثتني نفسي غير الأمارة بالسوء أن تذهب أنا وهي يعني إلي سوق السمك فلعل وعسي أن تكون أسعاره أكثر حنانا من اللحوم, وحتما ستكون كذلك, بحكم توافر البحور ومجاري المياه العذبة لدينا.. اللااااه.. السوق ملآن بكل أنواع السمك.. بوري وشيلان ومكرونة وبلطي.. أكيد والأمر كذلك ستكون الأسعار مهاودة, طالما أن العرض بهذا الكم, وستكون في متناول الفقراء قبل الأغنياء ومتوسطي الحال, وأكيد أكيد أنه السبب في انصراف الناس عن اللحوم.. اللااه البلطي عند هذا البائع طازج..( بيلعلط), لكن ياتري أهو نيلي أم مزارع..؟ بكم الكيلو يامعلم..؟ خمسة عشر جنيها. أهو سمك نيلي أم..؟ نظرني شزرا ثم قال: يبدو انك ستأكل سمكا لأول مرة.. أهذا السمك المعتبر مزارع.. لا لا.. معلش.. أنا أردت فقط أن أتأكد.. عموما أوزن لي كيلو. كيلو واحد..؟! ***** قلت لنفسي وأنا أدس كيلو السمك في الشنطة.. يكفي هذا اليوم. في طريق عودتي قابلته مصادفة, لم أره منذ مدة طويلة.. سألته: أخبارك أيه, وأخبار الأولاد..؟ إعتراه الأسي, وبدا الحزن في نبرات صوته قائلا: تخرج الاثنان..أحدهما من العلوم والآخر من الهندسة, وتجاوز الاثنان الثلاثين وللآن لم يوفقا إلي عمل... تصور..؟!! للأسف.. هذه مشكلة عامة تعانيها كل الأسر. حتي السفر للخارج لم يستطيعوه, فمكاتب التسفير تطلب مبالغ كبيرة, ففكرنا في تسفير أحدهما, ليساعد في تكاليف سفر أخيه. ثم ماذا.. ألا تري أننا بذلك نساعد علي تفريغ البلد من شبابه, فيبقي سوء الحال الذي نعاني منه علي ما هو عليه؟ وماذا في أيدينا إذا كانت البلد تأكل شبابها وشيوخها..؟ قلت مبتسما: لا.. في أيدينا الكثير, فقط نتحرك.. نبدأ وستري ماذا يمكننا أن نفعل..؟ أزاحت بسمة وليدة تكشيرة وجهه, فانبسطت أساريره وهو يردد.. الأمل في الله ثم الشباب. قلت: لن يبقي الحال علي ماهو عليه طويلا, خاصة بعد أن بلغ هذا السوء. سألني: أأنت متفائل..؟ قلت: إلي أبعد حد.. ولن يطول انتظارنا. قال وهو يودعني وقد انفجرت أسارير وجهه والبسمة الحلوة قد اعتلت ثغره: نلتقي غدا إن شاء الله. --------------------------------- عن الكاتب: صدرت له عدة روايات منها: بين النهر والجبل ودوامات الشمال وبحر الزين وهي روايات قصيرة. كما صدرت له عدة مجموعات قصصية منها: الهاموشي وأنا الموقع أدناه, وخور رحمه وعينان زرقاوان و دوائر الغبار وبيننا الوطن وجدار الشمس. حصل علي الجوائز التالية: جائزة نادي القصة1982 اتحاد كتاب مصر في القصة2002 تكريم نادي القصة.2007