أقصد بالمعركة هنا ما يجري من جدل فكري حول قضية المباديء الدستورية الحاكمة التي لجأت إليها القوي السياسية الداعية إلي دولة مدنية ديمقراطية تجاوزا للاستقطاب الحاد الذي ظهر بعد نتيجة استفتاء 19 مارس سنة 2011م حيث تبلورت أزمة السؤال الدستور أولا أم الانتخابات علي أمل أن يكون الوصول إلي توافق اجتماعي حول هذه المبادئ بين جميع القوي السياسية في مصر بمختلف أطيافها هو الطريق لتجاوز هذا الاستقطاب, ولكي تستعيد هذه القوي الوحدة الرائعة التي كانت لها في ميدان التحرير, وأيضا لإشاعة قدر من الطمأنينة لدي القوي السياسية التي تخشي أن يؤدي حصول الإخوان المسلمين علي أغلبية في البرلمان الجديد دافعا لها لأن تختار لجنة تضع دستورا يعكس سطوة هذه الاغلبية, ولهذا كله فقد تم اختيار هذه المبادئ الحاكمة بدقة هائلة من جملة اختيارات عديدة بحيث يصعب بل يستحيل أن يكون هناك خلاف حولها ولكن النتائج التي تظهر تباعا لطرح هذه المباديء لا تبشر بالوصول إلي التوافق المأمول, فهي تتراوح بين الرفض القاطع من بعض تيارات الإسلام السلفية, وبين القبول بها كمجرد مبادئ متوافق عليها فقط ودون أن تكون ملزمة أو حتي محل استرشاد بها أمام اللجنة التي يمكن أن تسند إليها مهمة وضع الدستور بعد الانتخابات, وهذا رأي بعض القيادات البارزة في جماعة الإخوان المسلمين, أو النظر اليها باعتبارها مجرد محاولة للالتفاف علي رأي الشعب, وعلي الديمقراطية التي حسم أمرها استفتاء91 مارس سنة1102 وهذا رأي آخرين من التيارات الإسلامية! وهكذا فإن ردود الفعل هذه التي جاءت من جماعات الإسلام السياسي تؤكد أنهم يتراجعون عن الدور الرائع الذي كان لهم في أيام الثورة المجيدة, التي وقفوا فيها إلي جوار بقية القوي السياسة وقوي الشعب ودفعوا معهم ضريبة الدم فما معني هذا التراجع, وعلام يدل؟ هل هو حقا تشبث بالديمقراطية؟ أم تشبث بالفرصة التي تتيحها لهم نتيجة الاستفتاء وهي أن تكون الانتخابات أولا حيث هم أكثر القوي المتقدمة لهذه الانتخابات تنظيما وصلة بالشارع المصري, وتأثيرا فيه, منذ عقود طويلة! وفي الواقع فإن الشعور العميق بالإحباط والأسي هو ما يمتلئ به قلب المواطن الذي عايش هذه الثورة أيا كان موقعه وهو يبصر هذه التحولات التي تضرب قوي الثورة, وتشتتها في كل اتجاه, فالتيارات الإسلامية, وعلي رأسها قوة الإخوان المسلمين أصبحت لا تري سوي أنها علي قيد خطوات من السلطة التي كانت في أغلب مراحل حياتها ضحية الاصطدام بها, وقد كان هذا الوضع جديدا بأن يجعل الإخوان المسلمين بالتحديد يعيدون النظر في متطلبات هذا التوقع حين يكونون في موقع السلطة, فهي لم تكن يوما متفرغة لتقوم بالعمل الذي كان يجب أن تقوم به من قديم وهو تجديد الفكر الإسلامي, وتنقية الفقه الإسلامي وتطويره ليكون قادرا علي مواجهة التحديات التي يطرحها العصر وهو أول ما ستجد نفسها مطالبة به حين تكون في السلطة, فماذا لديها في خزائنها الثقافية والفكرية من آراء لتجيب به علي الأسئلة المتحدية التي ستنهال عليها من آفاق العالم عن موقفها من قضايا المال والأعمال والصناعة والسياحة والفنون والفكر, وكيف ستواجه منظومات القوانين والحقوق والقواعد التي تصنع شبكات التواصل والتعامل بين الدول والمجتمعات, في الوقت الذي لا تريد فيه أن تتوافق مع مجموعة المبادئ الدستورية التي تقترحها القوي السياسية في مجتمعها! ونعود لشباب الثورة الذين حققوا المعجزة, فمن نجاحهم في تحقيق التواصل بين مجموعتهم عبر العالم الافتراضي إلي نجاحهم في تحقيق الألتحام بين قوي الشعب المصري السياسية والاجتماعية علي الأرض المصرية في52 يناير سنة1102 وتحقيق أعظم ثورة في تاريخ مصر بل في التاريخ الإنساني كله, كيف انتهي الأمر بهم إلي أن يصبح كل همهم أن يظفروا بتوافق القوي الوطنية حول المبادئ الدستورية الحاكمة لتكون البوابة الآمنة للدولة المدنية الديمقراطية التي طالما حلموا بها قبل الثورة؟! ليس عندي أدني شك في أنهم يعرفون جيدا أن الدستور في ذاته أو الديمقراطية في ذاتها لا يحققان النهضة للأمم وإنما يوفران أفضل الشروط لتحقيق النهضة, وأن محمد علي الذي حقق نهضة مصر الحديثة لم يفعل ذلك بناء علي دستور يمتلكه, وأنه في عصر الملك فاروق كان لدينا أفضل دستور لبرالي, لم يبخل علينا به الانجليز الذين كانوا يحتلون مصر, كان حسبهم فقط أن هذا الدستور يؤكد قطع ما كان مقطوعا من صلة مصر بالدولة العثمانية! ومع ذلك ففي ظل هذا الدستور, وبالرغم من كل مآثر هذه اللبرالية نشأ وترعرع مجتمع النصف في المائة الذي جاءت ثورة32 يوليو لتطيح به, وبالمناسبة كان لهذه الثورة دستور أيضا يؤكد العدالة الاجتماعية والتنمية, ولم ينجح في تحقيق الديمقراطية, فالمسألة في بداية الأمر ونهايته ليست في أوراق الدستور وما هو مكتوب فيها فقط بل في الرجال وفي الرؤي وفي الإرادات التي تترجم ما هو مكتوب إلي برامج وانجازات وحقائق علي الأرض وتصبر علي ما يحتاجه كل ذلك من قوة وعزم! وقصة الدستور في عهد أنور السادات أو في عهد مبارك تعرفونها مثلي أو أكثر مني, وأثق في انكم تعرفون أو ينبغي أن تعرفوا أن الرحلة العظيمة التي بدأت في52 يناير سنة1102 لن تنتهي عند أول برلمان يأتي بعد أول انتخابات حرة قادمة, ومهما تكن نتائجها, الرحلة العظيمة سوف تبدأ في وصولكم أو وصول رسائكم لأول قرية مصرية نائية أو لأول بيت في منطقة عشوائية في مدينة القاهرة وفي غيرها من المدن, كيف لمثلي أن يضع لكم خرائط أو يصف طريقة للوصول؟! وأنتم الذين حققتم معجزة التواصل في العالم الافتراضي والواقعي علي السواء؟! كيف لمثلي أن يوضح لكم ما ينبغي أن تحمله رسائلكم للشعب المصري الذي يعيش في القري النائية وعشوائيات المدن, المتدين منذ أيام الفراعنة والصابر منذ أيام المماليك, من أن الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوي أفرادها في الحقوق وأمام القوانين هي التي تتيح أفضل فرص الازدهار والنمو للقيم الإنسانية والروحية في كل الأديان! إن التواصل مع الناس بمثل هذه الرسائل وبترجمة مضمونها إلي وقائع علي الأرض, وتماما مثلما كان يفعل الإخوان المسلمون, هو الطريق الذي لا طريق سواه لاستكمال خطوات الثورة التي بدأت في52 يناير سنة1102, وللوصول إلي الدولة المدنية الديمقراطية التي تزدهر فيها كل القيم الروحية والإنسانية في كل الأديان!