سادت فى الفترة الأخيرة حالة من الجدل الواسع شغلت جميع الأوساط المصرية حول اجراء الانتخابات التشريعية أولا، أم انتخابات هيئة تأسيسية لوضع دستورا جديدا للبلاد.. أولا . وانقسم المجتمع المصرى الى قسمين كل منهما يتبنى وجهة نظر فى هذا الشأن.. ولكنه لم يكن من الواضح - حقيقة – مدى قوة أى من الطرفين فى التأثير على الرأى العام، فى ظل حالة الاستقطاب الكبيرة التى شهدتها الساحة السياسية انذاك، وفى ظل الاصرار الذى غلب على الجانبين، والذى كان من شأنه أن يسقط بالبلاد فى هوة الصراع السياسى الذى لا يعرف عواقبه الى الله . حيث ذهب الطرف المناد بوضع الدستور أولا – وهو الطرف الذى ضم كثيرا من النخب السياسية – الى أن اجراء الانتخابات أولا هو محاولة للسيطرة على غالبية المقاعد البرلمانية من قبل فصيل معين من الفصائل السياسية – والمقصود هنا بالطبع هم جماعة الأخوان المسلمين، أو التيار الاسلامى بصفة عامة – بحجة أن هذا الفصيل هو الأكثر تنظيما وقدرة على خوض الانتخابات فى ظل الظروف الحالية . كما فضل الاسلاميون - الداعون الى انعقاد الانتخابات أولا - الارتكاز على نتيجة الاستفتاء الشعبى الشهير الذى جاءت فيه الأغلبية التصويتية ب "نعم" وهو ما يعنى – من وجهة نظرهم – أن وضع الدستور أولا سوف يرى على أنه خروج صريح على الأغلبية، وخرق واضح لتوجهاتها وارادتها . انتهى الأمر أخيرا – بعد مشاورات ومفاوضات ومناورات – الى تحيز أغلب التيارات السياسية الى احترام ما جاءت به نتيجة الاستفتاء، وتغليب المصلحة الوطنية.. كان من نتائج ذلك ظهور الاخوان المسلمين وبعض التيارات السلفية فى جمعة 8 يوليو.. وعودتهم للمشاركة فى المليونيات التحريرية من جديد.. وان كانت المشاركة هذه المرة على استحياء . ولكن – وبعد أن هدأت الأمور الى حد ما – نجد أن بعض القوى السياسية مازالت غير راضية عما توصلت اليه النخب السياسية من نتيجة – وهى احترام وجهة النظر الشعبية كما أسلفنا – حيث أنها ترى فى ذلك فتح للطريق أمام الاسلاميين للسيطرة على الهيئة التأسيسية التى سوف تنتخب لوضع الدستور الجديد فى بنيتها التكوينية، مما سيؤدى – بحسبهم – الى اضفاء الصبغة الدينية على هذا الدستور.. وكأن هؤلاء أصبحوا على يقين بأن التيارات الاسلامية سوف تنجح فى الفوز بأغلبية المقاعد البرلمانية، أو حتى بثلثها المعطل.. فسعوا الى تشكيل ما يدعى "بالمجلس الوطنى المصرى" الذى تدور فيه المناقشات حاليا حول وضع ما يسميه البعض "مواد فوق دستورية" أو ما يطلق عليه أخرون "مبادىء حاكمة للدستور".. مما أدى بالطبع الى استفزاز الاسلاميين الذين هددوا بالتصعيد، الذى وصل الى حد دعوة التيار السلفى الى مليونية لمجابهة هذه المحاولات . فأين اذا المجلس العسكرى من كل هذه المناوشات التى تحدث على الساحة السياسية الان؟ وما موقف الثوار مما يدور حول هذا الموضوع داخل الغرف المغلقة ؟ فى الحقيقة، أرى أن المجلس العسكرى لا يهتم كثيرا بمثل هذه المحاولات، وخاصة عندما نعلم أن المجلس ربما يميل برأيه الى الطرف الناظر اليها على أنها محاولة للالتفاف على وجهة نظر غالبية القوى السياسية التى ارتأت تغليب المصلحة العليا للوطن فى سبيل الاستغناء عن موائد ومناقشات ومؤتمرات لن تفيد كثيرا – مع أننى كنت من مؤيدى وضع الدستور أولا – وانما سوف تؤدى الى حدوث تصدع فى الصف الوطنى، وانشقاقات بين النخب السياسية من شأنها أن تعصف بما تم التوصل اليه – أخيرا – من توافق عام على المطالب الأساسية للثورة . أما من جهة الائتلافات والحركات الشبابية فاننى أزعم أنهم لا يكترثون كثيرا بالمناقشات الدائرة حاليا، لأنهم ببساطة يصبون كل انشغالهم وتركيزهم فى المرحلة الحالية على الحفاظ على مطالبهم خوفا من الالتفاف عليها، ويتشبثون بكل ما أوتوا من قوة بالمكتسبات الثورية الى كانت على وشك ابتلاعها وهضمها من قبل القوة المضادة للثورة . التوجه الصحيح اذا هو أن نتخلى عن محاولات اختراع وصاية غير دستورية على الدستور نفسه، الذى هو بمثابة المحرك الأساسى للسياسات القانونية للدولة، والأب الشرعى لجميع مؤسساتها.. هذا لا يمنع أيضا بذل الجهود لضمان عدم تلون الدستور بلون طيف واحد من الأطياف التى سوف تشكل البرلمان، لذا كان من الواجب العمل على ايجاد الية لضمان احتواء الهيئة التأسيسية للدستور على ممثلين لجميع القوى السياسية والشعبية، وأيضا جميع الأيدولوجيات والتيارات الاجتماعية والفكرية، بدلا من اهدار الوقت والجهد فى مكلمات لن تنفع ولن تشفع.. فالدستور هو العقد الذى يضعه الشعب لتحديد صلاحيات واختصاصات من يتولى أموره.. والدستور هو المترجم الوحيد لمبدأ "الشعب هو الحاكم الفعلى، وهو مصدر جميع السلطات".. والدستور هو من يعلو ولا يعلى عليه..!