في توقيت مناسب تماما تقدم مثقفة مصرية عملا موسوعيا غير مسبوق في الثقافة السينمائية المصرية والعربية لتشكل "موسوعة النقد السينمائي- تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة" التي صدرت مؤخرا في ستة أجزاء بحق حدثا ثقافيا هاما بقدر ما تنطوي هذه الموسوعة على جهد وطني مخلص لتعظيم القوى الناعمة المصرية. والدكتورة نهاد إبراهيم صاحبة هذا العمل الموسوعي الكبير الذي يحق وصفه بأنه يدخل في نطاق "الصناعة الثقافية الثقيلة" هى ناقدة سينمائية ومسرحية كما أنها شاعرة وقاصة ومترجمة فيما حصلت على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي من المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون عام 2006 عن أطروحة بعنوان "أسطورة فاوست بين مارلو وجوته والحكيم وباكثير وفتحي رضوان". ومن المثير للإعجاب "تلك النظرة الكلية الشاملة والمحيطة بالعديد من المعطيات والعوامل والمتغيرات" وذلك المنهج الذي اعتمدته "المثقفة الموسوعية المصرية" نهاد إبراهيم في موسوعتها السينمائية والذي انطلق من منظور علمي تحليلي وموضوعي للكثير والكثير من الأفلام المصرية والأجنبية وأن تسعى المؤلفة في الوقت ذاته "لمنح القاريء مفاتيح الفرجة وصولا للمتعة في عالم الفن السابع". والمتأمل لهذه الموسوعة بأجزائها الستة بمقدوره ملاحظة التفوق اللافت للمؤلفة في استخدام أدوات المنهج التحليلي في سياقاته الحداثية والتوغل بعمق عند جذور القضايا المطروحة للبحث مع فهم عميق للمؤثرات السوسيولوجية والمعطيات المفسرة لأفلام تصدر عن خلفيات اجتماعية مختلفة ورؤى وسياقات مجتمعية متعددة وتوجهات فكرية قد تصل أحيانا لحد التباين إن لم يكن الصدام. فالدكتورة نهاد لإبراهيم تظهر حساسية عالية في موسوعة النقد السينمائي-تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة" لحقيقة ارتباط السينما أو "الفن السابع" بالسياقات الثقافية والمجتمعية بقدر ما هى مدركة لإشكاليات المقارنة بين أفلام تصدر في سياقات ثقافية-مجتمعية مختلفة وإن كان من المفترض بل والضروري أن يكون الإبداع الإنساني بأطيافه وتلاوينه المتعددة جوهرها وقوام فنها. وتأتي هذه الموسوعة السينمائية التي تجاوزت صفحاتها الثلاثة ألاف ومائتي صفحة واستغرق أعدادها خمس سنوات تتويجا لجهد بحثي ومعرفي للدكتورة نهاد إبراهيم عبر العديد من الكتب والدراسات، فضلا عن المقالات والمشاركة في عضوية لجان التحكيم لمهرجانات سينمائية فيما لم يكن من الغريب أن تثير موسوعتها للنقد السينمائي اهتمام جامعات أمريكية مرموقة مثل هارفارد وييل وبرينستون وكولومبيا واوهايو. وتؤكد الدكتورة نهاد إبراهيم أن الفن يدافع عن القضايا النبيلة للمصريين وحضارتهم الإنسانية الممتدة عبر ألاف السنين فيما تطالب بالتصدي الواعي "للممارسات واللغة البذيئة المنسوبة ظلما للفن والإبداع" بقدر ما تستنكر "تسليع المرأة وتحويلها لمجرد جسد بعيدا عن جوهرها الإنساني ودورها الحقيقي في المجتمع"، فضلا عن "تغييب الوعي أو تزييفه بسبل الفن الهابط والخطاب الفكري المسموم الذي قد يكون أشد خطرا وفتكا من المخدرات". وقد يكون من حسن الطالع أن تتزامن هذه الموسوعة السينمائية الجديدة للدكتورة نهاد إبراهيم مع اهتمام لافت على المستوى الرسمي بدعم صناعة السينما المصرية وحرص حميد على استعادة روافد القوة الناعمة لمصر وتعظيم قدراتها الثقافية. وكان مجلس الوزراء برئاسة المهندس شريف إسماعيل قد قرر مؤخرا زيادة الدعم الموجه لصناعة السينما بنسبة 150 % ليرتفع من 20 مليونا إلى 50 مليون جنيه سنويا فيما أكد رئيس الوزراء اهتمام الدولة بصناعة السينما وحرصها على دعم الثقافة والفنون وتهيئة المشجع على حرية الفكر والإبداع.. لافتا إلى أن "صناعة السينما تمثل أحد أهم روافد قوة مصر الناعمة". وفيما وصف الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قرار الحكومة بتخصيص 50 مليون جنيه لدعم السينما وإنتاج أفلام جيدة وراقية "بالقرار الجريء" فإنه أعرب عن اعتقاده بأن هذا المبلغ لا يكفي "لإنقاذ السينما المصرية وهى تعيش محنة قاسية بينما ترى الدكتورة نهاد إبراهيم أن أزمة السينما المصرية بدأت منذ عام 2006 مع ما تصفه "ببداية تدهور النظام العام". وأعاد فاروق جويدة للأذهان أن السينما المصرية في أواخر الأربعينيات كانت تنتج 90 فيلما في السنة وكانت صادرات مصر منها تحتل المرتبة الثانية بعد القطن "ووصلت أفلامنا إلى دول أفريقيا والهند بجانب سوق واسعة في الدول العربية التي عاشت سنوات طويلة على الفن المصري والفيلم المصري". وإذ تذهب نفوس المثقفين حسرات جراء الأزمة الحادة للدراما المصرية سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة وبما يعكس مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى يرى هذا المثقف المصري البارز أننا أمام "موجة من الفن الهابط التي دمرت إنتاجنا السينمائي في السنوات الماضية". وهناك من الكتاب والنقاد من يجتر "ذكريات الزمن الجميل" ويذهب معها إلى أن "السينما المصرية كانت ثالث سينما في العالم بعد أمريكا وفرنسا" وذلك في سياق حالة ثقافية عامة تجلت فيها معاني القوة الناعمة المصرية ما بين السينما والمسرح والأغنية والأدب والفن التشكيلي. وفي "الزمن الجميل" كان الفن كما تقول الدكتورة نهاد إبراهيم هو المدافع عن حرية المرأة وجوهرها الإنساني وحقوقها في العيش الكريم ومشاركتها الفاعلة في بناء المجتمع المصري بعيدا عن "حصرها في نطاق أنثوي ضيق" فيما ترى هذه الناقدة والمبدعة المهمومة "بقضايا شهرزاد أو المرأة في سياقات مجتمعها المعاصر" أن "أحوال السينما المصرية الآن ليست على ما يرام". وفي الوقت ذاته تحذر الدكتورة نهاد إبراهيم من مخاطر الفوضى الهدامة والعدوان على ثوابت ومرتكزات المجتمع بدعاوى حرية الفن المزعومة والتي لا علاقة لها بحرية الإبداع بالمعنى الحقيقي بما يعني اغتيال الحرية باسم الحرية". وقضايا القوة الناعمة موضع اهتمام لافت للمثقفة الموسوعية والوطنية المصرية نهاد إبراهيم صاحبة كتاب "دراما بلا حدود" الذي يتناول مسيرة أحد أهم كتاب السيناريو السينمائي في مصر وهو الراحل عبد الحي أديب كما أنها نهضت بمهمة ترجمة وتحرير كتاب "المخرجون:كلاكيت أول مرة" الصادر عن المركز القومي للترجمة شأنه شأن كتاب "تحت مقص الرقيب" الذي يتعلق بإشكاليات وهموم الرقابة السينمائية. ولئن كان الفن من أهم آليات القوى الناعمة فإن دعم القوى الناعمة لمصر وتطوير آليات هذه القوى أمر لا غنى عنه في مرحلة تصفها الدكتورة نهاد إبراهيم بأنها "الأخطر في مواجهة عدو يريد شطب خصائص الشخصية المصرية وهويتنا الوطنية". وفي زمن ما بعد الحداثة وجدل العولمة كان لصاحبة "موسوعة النقد السينمائي-تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة" والتي تهديها لأمها التي علمتها احترام العلم ولروح الناقد والكاتب النبيل رجاء النقاش أن تناقش قضايا هذا الزمن من منظور الفن السابع في كتابها "سينما حول العالم" وكذلك في كتابها "دراسات سينمائية متنوعة" مؤكدة حقيقة الدور الملهم للفن في تحريك المشاعر وحركة البشر وحراك المجتمعات. ولئن ركزت نهاد إبراهيم جهدها البحثي والنقدي في دراسات الفن السابع أو السينما فإن هذه المثقفة المصرية الغزيرة الإنتاج تبدو أيضا مهمومة بقضايا المسرح وهو ما يتجلى في كتاب "قراءات نقدية في العروض المسرحية-تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة" وهو في طبعته الثانية من إصدارات "دار العلوم للنشر والتوزيع" التي صدر عنها عملها الموسوعي الكبير "موسوعة النقد السينمائي-تشكيل الوعي عبر القوى الناعمة". وترى نهاد إبراهيم أن "العنفوان الحقيقي للمسرح المصري" كان في سنوات عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين مع أعمال خالدة لأسماء خالدة مثل يوسف وهبي وعلي الكسار وفاطمة رشدي ناهيك عن المسرح الغنائي لسيد درويش. ولم يحل هذا الجهد البحثي والنقدي المضني والذي اتجه للموسوعات بكل ما تشكله من أهمية ثقافية للسينما والمسرح في مصر دون أعمال إبداعية للدكتورة نهاد إبراهيم في شعر العامية التي توالت لتشكل خمسة دواوين فضلا عن مجموعة قصصية صدرت بعنوان "الكونت دي مونت شفيقة" والتي فازت في عام 2013 بجائزة اتحاد كتاب مصر لأفضل مجموعة قصصية. ولاريب أن الراحل العظيم توفيق الحكيم الذي يعد أحد أبرز الآباء الثقافيين في مصر المعاصرة حاضر بقوة في الاهتمامات البحثية والنقدية للدكتورة نهاد إبراهيم التي ولدت عام 1971 وهى صاحبة كتاب "شهرزاد في الأدب المصري المعاصر" وكتاب "توفيق الحكيم من المسرح إلى السينما" ناهيك عن الحضور الواضح لصاحب "مسرحية شهرزاد" و"مفهوم التعادلية" في أطروحتها للدكتوراه حول أسطورة فاوست. وقد تكشف تحذيرات نهاد إبراهيم صاحبة القراءة التحليلية الفاحصة للواقع من خطورة "أزمة الخيال" والافتقار "لمتعة الخيال اللامحدود" عن جانب هام من أسباب أزمة السينما المصرية كما تسهم في الإجابة على تساؤلات مثل:"كيف عجزت الثورة المصرية عن التأثير على الدراما؟..ولماذا بقى المشهد السينمائي والتلفزيوني الدرامي المصري بعد ثورة 25 يناير-30 يونيو دون تغيير جوهري"؟!. ولئن كانت الدكتورة نهاد إبراهيم قد شاركت في لجان تحكيم بمهرجانات سينمائية دولية مثل لجنة تحكيم النقاد بمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي فإن موسوعتها السينمائية الجديدة قد تفسر أيضا سر الغياب السينمائي المصري الذي يتكرر كثيرا في مهرجانات هامة للفن السابع مثل مهرجان كان السينمائي. والمقصود بالغياب هنا عدم منافسة الأفلام المصرية بجدية على جوائز تلك المهرجانات أي "غياب الحضور الإبداعي" وهى مسألة تختلف كل الاختلاف عن حضور بعض الفنانين المصريين في بعض هذه المهرجانات بغية التقاط صور للذكرى أو الدعاية!. ولاريب أن هذا العمل الموسوعي الكبير للدكتورة نهاد إبراهيم يشكل قاعدة معرفية تتيح للباحث الجاد إمكانية إجراء المزيد من الدراسات السينمائية والإجابة على سؤال مثل:" هل يكون بمقدور أقدم صناعة للفيلم في منطقة الشرق الأوسط درء مخاطر هوليوود وتحقيق نهضة سينمائية إبداعية مصرية جديدة"؟. وثمة حاجة ملحة مثلا لبحث التغير في مزاج المتلقي المصري وذائقته السينمائية في السنوات الأخيرة وانعكاسات هذا التغير على الدراما المصرية على مستوى الشاشة الكبيرة التي تبدو حيرى وعاجزة ثقافيا وإبداعيا عن التكيف مع متغيرات ومتحولات ما بعد ثورة يناير-يونيو. وإذا كان تاريخ الفن السابع لن ينسى أسماء مصرية مثل يوسف شاهين وشادي عبد السلام وصلاح أبو سيف وسعيد مرزوق وصلاح مرعي الذي كان أحد أعظم مهندسي الديكور في السينما المصرية إن لم يكن السينما العالمية فها هى مثقفة مصرية تقدم فتحا معرفيا جديدا بموسوعتها السينمائية. إنها استجابة واعية من جانب مثقفة وطنية لتحديات تواجه السينما في بلادها..فتحية للدكتورة نهاد إبراهيم التي تسعى لاستعادة الدور الكبير والنبيل للسينما المصرية في التشكيل الإيجابي للإنسان المصري وتعظيم القوى الناعمة لمصر الخالدة.