أثار رحيل رئيس الأركان الليبي، الفريق أول محمد الحداد، بشكل مفاجئ في حادث تحطم طائرة خاصة أثناء عودته من زيارة رسمية إلى تركيا، تساؤلات واسعة حول انعكاسات هذا الغياب على المؤسسة العسكرية في غرب ليبيا، وعلى مسار توحيد الجيش الليبي في ظل انقسام سياسي وأمني لا يزال يلقي بظلاله على المشهد العام. ولقي الحداد مصرعه برفقة عضو لجنة «5+5» العسكرية الفيتوري غريبيل، إضافة إلى رئيس جهاز التصنيع العسكري ومستشار رئيس الأركان، في حادث وصفه مراقبون بأنه يشكل ضربة موجعة للقيادة العسكرية في المنطقة الغربية، نظراً للدور المحوري الذي لعبه الراحل خلال السنوات الماضية. «عامل توازن» غاب عن المشهد ويرى المحلل السياسي فرج فركاش أن غياب الحداد يمثل خسارة كبيرة للمؤسسة العسكرية في غرب ليبيا، مؤكداً أن الراحل لم يكن مجرد قائد عسكري تقليدي، بل شخصية محورية سعت إلى توحيد الصفوف واحتواء الصراعات المحلية في طرابلس ومحيطها، إلى جانب بناء علاقات عسكرية متوازنة مع شركاء دوليين، من بينهم تركيا وإيطاليا وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وأوضح فركاش، في حديث لوكالة الأنباء الألمانية، أن الحداد كان يمثل «عامل توازن» وحلقة وصل مهمة بين شرق البلاد وغربها، وكان يحمل رؤية مؤسسية – وإن اتسمت بالبطء – تهدف إلى دمج التشكيلات المسلحة وإنهاء الانقسام داخل المؤسسة العسكرية. وحذّر من أن غيابه المفاجئ قد يؤدي إلى ارتباك في التنسيق داخل المنطقة الغربية، ويعيد التنافس القائم على الولاءات المحلية والمناطقية، في حال لم يتم اختيار خليفة دائم يحظى بقبول واسع ورؤية جامعة. تعيين مؤقت واختبار للمرحلة المقبلة وفي خطوة سريعة لاحتواء الفراغ القيادي، كلف المجلس الرئاسي نائب رئيس الأركان، الفريق أول صلاح الدين النمروش، بتسيير مهام رئاسة الأركان. ويرى فركاش أن هذا التكليف يأتي كإجراء مؤقت، لكنه قد يتحول إلى قرار دائم بعد مشاورات مع الجهات العسكرية الفاعلة في المنطقة الغربية، وفي مقدمتها وزارة الدفاع التابعة لحكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وينحدر النمروش من مدينة الزاوية، ويشغل منصب قائد المنطقة العسكرية الغربية، كما سبق أن تولى منصب وكيل ووزير الدفاع في أواخر حكومة فايز السراج. ويشير فركاش إلى أن النمروش يتمتع بخبرة عسكرية ولديه قاعدة من المؤيدين، لا سيما في الزاوية، غير أن نجاحه في المنصب سيبقى مرهوناً بقدرته على التعاطي مع ملف توحيد المؤسسة العسكرية، والتفاوض مع القيادة العامة في شرق ليبيا. انقسام عسكري مستمر ويأتي هذا التطور في ظل استمرار الانقسام العسكري، حيث يوجد في شرق وجنوب البلاد رئيس أركان آخر هو الفريق خالد حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، ما يعكس عمق الانقسام السياسي والعسكري الذي تعيشه ليبيا منذ سنوات. وفي سياق متصل، كشف المستشار السابق للقائد الأعلى للجيش، وعضو لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس الأعلى للدولة، العميد عادل عبد الكافي، أن زيارة الحداد الأخيرة إلى أنقرة جاءت في إطار استكمال الإجراءات العسكرية المرتبطة بمذكرة التفاهم الليبية – التركية، لا سيما بعد تصديق البرلمان التركي على تمديدها، بما يشمل ملفات التدريب والدعم الفني والإمدادات العسكرية. العلاقات الليبية – التركية خارج دائرة الشك وأكد عبد الكافي أن العلاقات الليبية – التركية تشكلت منذ عام 2019 في سياق خلق توازن إقليمي، بدعم أميركي لمواجهة النفوذ الروسي، مشدداً على أن حادث سقوط الطائرة – رغم ما أثير حوله من تساؤلات – لن يؤثر على مسار هذه العلاقات أو على مذكرة التفاهم المشتركة. وفيما تتردد أحاديث عن فرضيات غير مؤكدة بشأن أسباب الحادث، استبعد فركاش بدوره «نظرية المؤامرة»، مرجحاً أن يكون السبب خللاً فنياً في الطائرة التي يعود عمرها إلى نحو 38 عاماً، مع تأكيده أن نتائج التحقيق، ولا سيما بعد فحص الصندوق الأسود بواسطة جهة محايدة، ستبقى الفيصل في تحديد الأسباب النهائية. تحديات متراكمة أمام القيادة الجديدة وبينما تظل مسألة توحيد المؤسسة العسكرية التحدي الأكبر، يواجه رئيس الأركان المكلف، كما كان الحال مع سلفه، ملفات شائكة تتعلق بإصلاح أوضاع التشكيلات المسلحة في غرب ليبيا، وتحجيم الطابع الميليشياوي الذي فاقم الأزمات الأمنية، إضافة إلى التعامل مع الحساسيات القبلية والمناطقية المرتبطة باختيار قيادة عسكرية دائمة. وفي هذا الإطار، شدد عبد الكافي على ضرورة اختيار شخصية محايدة، بعيدة عن تأثيرات التشكيلات المسلحة والاعتبارات الجهوية، وقادرة على فرض حضورها وثقلها في المشهدين العسكري والسياسي. لجنة «5+5» تحت المجهر أما على صعيد لجنة «5+5» العسكرية، التي فقدت أحد أعضائها في حادث الطائرة، فقد رأى عبد الكافي أن أداء اللجنة ظل محدوداً منذ تأسيسها، ولم يحقق اختراقات حقيقية في ملفات كبرى مثل إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب أو استلام خرائط الألغام، مشيراً إلى أن بعض الإنجازات، كفتح المجال الجوي وتبادل الأسرى، جاءت بجهود اجتماعية وسياسية أكثر منها عسكرية. وفي ظل هذه المعطيات، تبدو وفاة رئيس الأركان الليبي لحظة مفصلية، تعيد طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل المؤسسة العسكرية، وقدرتها على تجاوز الانقسامات، واستكمال مسار التوحيد في بيئة سياسية وأمنية لا تزال شديدة التعقيد.