السيسي يهنىء المصريين بعيد الأضحي المبارك    الآلاف يؤدون صلاة العيد بساحة مسجد ناصر الكبير بالفيوم (صور)    ميسي بديلا، الأرجنتين تهزم تشيلي في تصفيات مونديال 2026    أخبار مصر: المصريون يحتفلون بالعيد، ماسك يفتح الملف الأسود ل ترامب، زيزو يطير لأمريكا، الأرصاد تحذر من طقس أول أيام العيد    إقبال واسع على شواطئ ومنتزهات جنوب سيناء في العيد (صور)    آلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى في 214 ساحة بسوهاج (فيديو وصور)    محافظ الجيزة يؤدي صلاة عيد الأضحى بساحة مسجد مصطفى محمود    تعرف على سعر الدولار فى البنوك المصرية اليوم الجمعه 6-6-2025    مجازر القاهرة تفتح أبوابها مجانا لذبح الأضاحي طوال أيام العيد    بالصور.. آلاف المصلين يؤدون صلاة العيد في المنصورة    محافظ الغربية يؤدي صلاة العيد بمسجد السيد البدوي.. صور    محافظ جنوب سيناء يؤدي صلاة العيد بشرم الشيخ ويوزع عيديات على الأطفال    فرحة العيد تملأ مسجد عمرو بن العاص.. تكبيرات وبهجة فى قلب القاهرة التاريخية    محافظ بورسعيد يتفقد مستشفى الحياة عقب صلاة العيد ويقدم التهنئة للمرضى والأطقم الطبية (صور )    فى أحضان الفراعنة ..آلاف المواطنين يؤدون صلاة العيد بساحة أبو الحجاج الأقصري    أهالي مطروح يؤدون صلاة عيد الأضحى بالمسجد الكبير    موظفون في البيت الأبيض سيجرون اتصالًا مع إيلون ماسك للتوسط في الخلاف مع ترامب    أوكرانيا تتعرض لهجوم بالصواريخ والمسيرات أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص    بعد صلاة العيد.. شاهد مظاهر الاحتفال بعيد الأضحى من محيط مسجد مصطفى محمود    10 صور ترصد أكبر تجمع للمصلين بالإسكندرية لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك    إصابة 10 أشخاص في انقلاب سيارة أجرة بالبحر الأحمر    الرئيس السيسي يغادر مسجد مصر بالعاصمة بعد أداء صلاة عيد الأضحى المبارك    هبة مجدي: العيد يذكرني بفستان الطفولة.. وبتربى من أول وجديد مع أولادي    تدخل عاجل بمجمع الإسماعيلية الطبي ينقذ شابة من الوفاة    متحدث الأمين العام للأمم المتحدة: نحتاج إلى المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبت في غزة    «علي صوتك بالغنا».. مها الصغير تغني على الهواء (فيديو)    خليل الحية: حماس لم ترفض مقترح ستيف ويتكوف الأخير بل قدمنا تعديلات عليه    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 6 يونيو بسوق العبور للجملة    ناصر منسي: كنت على يقين بتسجيلي هدفاً في نهائي الكأس    محمد صبحي: بذلنا قصارى جهدنا لإسعاد جماهير الزمالك    محافظ سوهاج يتفقد الحدائق العامة والمتنزهات ليلة العيد    عيدالاضحى 2025 الآن.. الموعد الرسمي لصلاة العيد الكبير في جميع المحافظات (الساعة كام)    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك للرجال والنساء في العيد (تعرف عليها)    خاص| الدبيكي: مصر تدعم بيئة العمل الآمنة وتعزز حماية العاملين من المخاطر    «محور المقاومة».. صحيفة أمريكية تكشف تحركات إيران لاستعادة قوتها بمعاونة الصين    التصريح بدفن جثة شاب عثر عليها داخل سيارة ملاكي بأكتوبر    «زي النهارده» في 6 يونيو 1983.. وفاة الفنان محمود المليجى    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    عبارات تهنئة رومانسية لعيد الأضحى 2025.. قلها لحبيبك فى العيد    أبو الغيط: الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار بلبنان تهدد بتجدد العنف    وفاة الإعلامية والكاتبة هدى العجيمي عن عمر 89 عاماً    الفرق بين صلاة عيد الأضحى والفطر .. أمين الفتوى يوضح    طرح البرومو الرسمي لفيلم the seven dogs    كيفية صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 في البيت وعدد التكبيرات في كل ركعة    الأوقاف: صلاة الرجال بجوار النساء في صف واحد مخالفة صريحة للضوابط الشرعية    مسجد نمرة.. مشعر ديني تُقام فيه الصلاة مرة واحدة في العالم    بعد التتويج بالكأس.. الونش: الفوز بالكأس أبلغ رد على أي انتقادات    خلال حفل إطلاق خدمات الجيل الخامس.. «مدبولى»: معًا نبنى مُستقبلًا رقميًا واعدًا تكون فيه مصر مركزًا إقليميًا للبيانات والبرمجيات    كيرلي وقصات شعر جديدة.. زحام شديدة داخل صالونات الحلاقة في ليلة العيد    بعد طرحها.. "سوء اختيار" ل مسلم تتصدر تريند " يوتيوب" في مصر والسعودية    رسميا.. نهاية عقد زيزو مع الزمالك    سعر طن الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 6 يونيو 2025    خطوات عمل باديكير منزلي لتحصلي على قدمين جميلتين في عيد الأضحى    محمد عبد الشافي يعتزل كرة القدم بعمر ال 39    صبحي يكشف سبب حزنه وقت الخروج وحقيقة سوء علاقته مع عواد    قطر تهزم إيران بهدف نظيف وتنعش آمالها في التأهل إلى مونديال 2026    جامعة كفر الشيخ ترفع درجة الاستعداد بمستشفى كفر الشيخ الجامعى خلال العيد    في وقفة العيد.. «جميعه» يفاجئ العاملين بمستشفى القنايات ويحيل 3 للتحقيق (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإبحار في ذاكرة الغيطاني
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2015

تبحث حكايات الغيطاني الهائمة عن مستقر تأوي إليه في نفس القارئ؛ بينما تهيم عبر الأمكنة والأزمنة. ممتزجة ببعضها. من الفراعنة حتي كومبيوتر ستيف جوبز، بخيوط عنكبوتية في دقتها وصلابتها. تتنطلق من مصدر لا شكل له ولا حجم، مصدر حار فيه العلماء منذ باكورة التاريخ، مصدر اسمه »الذاكرة«.
يقدم الغيطاني في هذا الكتاب مخزون سبعين عاما من ذاكرته. ولا يبدو أنه رجع إلي أي مما قرأ، وهو يقص علينا هذه الحكايات. مثله مثل قدامي »الحكواتية« الذين كانوا ينشدوننا السير والملاحم من آلاف الأبيات، دون اللجوء إلي كتب أو لفافات يربئون بها ثقوب النسيان. تشع »حكايات« الغيطاني بثقافة مترامية. ثقافة من نوع خاص حيث أن ما قرأه الغيطاني لا يأتي في هذا الكتاب علي شكل استشهادات أو مقتطفات من الكتب، بل تداخلت الكتب في نسيج وجدانه فأصبحت ملكا له يطوعها، لا في شكل استنساخ ولكن في شكل خلايا حية سرت سريان الدم في عروقه. شعرت عندما قرأت هذا الكتاب أن أطراف المعرفة التي جمعها الغيطاني تجاوز مجال الكتابة الأدبية، إذ تجاوز فضوله مجال الأدب، واستشرف الموسيقي شرقية وغربية كما انغمس في الفنون التشكيلية. وقد لفتني أن الأمريكي إدوار هوبر (1882 1967) من رساميه المفضلين، رغم أنه ليس من ذائعي الصيت، وإن كان علي قدر كبير من العبقرية؛ نحت لنفسه طريقا مستقلا عن المسار الشائع في الفن. كما تبحر الغيطاني في دراسة العمارة، بالإضافة إلي تذوق للحرف اليدوية التي تلامس الفنون التشكيلية مثل نسيج السجاد. أما عن معرفته بالتراث العربي فلا تحدث.
فلسفة الحكواتي
يفوح من هذا الكتاب عبق غريب. شذي أزمنة قديمة. جو من الغرابة هو أقرب إلي جو الحكايات الشعبية والأسطورية، التي يقدمها »الحكواتي«. ترددت كثيرا قبل أن استخدم هذه التسمية لما فيها من ظلال ومعان ترتبط بالتراث الشعبي غير أنني في النهاية رأيت أنها تنطبق علي ما يقدمه لنا الغيطاني في هذا الكتاب. وشجعني علي ذلك اختياره لعنوان الكتاب بأنها »حكايات« وليست »قصصا«.
تختلف هذه الحكايات عن القصص القصيرة من حيث الموضوعات وطريقة الحكي. إذ يحدثنا الكاتب عن تجارب وقعت له. ولكنها تجارب من نوع خاص. فهو يحاور الطيور وتحاوره، يري ما لا يراه الغير، اطلع علي كتب مفقودة. أين وكيف؟ لا نعرف. يأتيه ظل شجرة، هي في واقع الأمر كتاب، تظله وتقيه القيظ. هذه التجارب المنسوجة بين الواقع والمتخيل لها دلالتها التي نستشفها من الحكاية. يتنقل بنا الحكواتي بين الواقع واللاواقع، بين الظاهر والباطن، بين الموجود واللاموجود. فالطيور، مثل الناس، تعرف الحب. الأشجار يخرج منها الآلهة، ويرضع منها الملوك لبنا صافيا يعيدهم إلي الحياة. يقابل الحكواتي في مساره أناسا مختلفين، متألقين يبادلهم الحديث ويجالسهم فيستمع إلي حكاياتهم التي يرويها لنا. هو حلقة الوصل التي لولاها لاندثرت هذه الحكايات. فهو الذي يلم شمل »الحكايات الهائمة«. ولكل حكاية منها حكمة صريحة أو مكنونة. في عالم مليء بالأسرار، هل لك أن تفك ألغازها؟ ما هي حكمة اللاكتاب؟ هل يوجد أصلا شيء اسمه لاكتاب؟ أو مثلا كتاب الحدائق الذي ما إن نفتح صفحاته حتي نجد أنفسنا قد وطأنا هذه الحدائق الجميلة ووصلنا إلي الصين، فلا نستطيع الخروج من الكتاب والعودة أدراجنا. هذه الحكاية هي بمثابة تجربة القراءة في قمة تجليها أي عندما نفقد أنفسنا في الكتاب، وقد لا نجدها ثانية! ولايسعنا هنا أن نغفل أن جوهر الحكاية يكمن في تفاصيلها. فلا يمكن تلخيصها مثل القصة. إذ كل تفصيل له معناه ودلالته. فلا بديل عن قراءتها. وإعادة قراءتها.
ويبدو أن الغيطاني لا يريد في هذا الكتاب أن يحدد الأشياء بل يتركها معلقة. يطرح السؤال ولا يجيب عليه. فالأسئلة الكبري لا جواب لها ولا بد أن نظل معلقين بين الشك واليقين.
وللشك قصص وحكايات وأشكال وأنواع. وقد حدثنا الجاحظ عن الشك. الذي هو عنده ضرب من ضروب الحيرة تعتري الإنسان فيعلق حكمه علي الأمور حتي تتضح الأدلة الكافية التي تخرج الشاك من الحيرة والتردد، إلي برد اليقين. هو إذن مرحلة ضرورية تسبق اليقين، لابد من اجتيازها والمرور بها. ومن لا يعيشها لن يبلغ اليقين افلم يكن يقين حتي كان قبله شك و لم ينقل احد من اعتقاد إلي اعتقاد غيره حتي يكون بينها حال شك.
غير أن الغيطاني لا يحاول في هذا الكتاب أن يصل إلي يقين. بل يبحث عن المكنون المستحيل، عن الآثار التي تركتها الأقدام علي الرمال. ولا نعرف من هؤلاء الذين ساروا قبلنا. وسوف تزول هذه الآثار. يبحث عن الأخبار التي وردت في الكتب المفقودة، عن ناس قابلهم لا يعرف إذا كان قابلهم في الحلم أم في العلم. احترت أمام بنية هذا الكتاب. فهو ليس مجموعة من الحكايات تتآلف حول محور معين، أو تتسلسل زمنيا من مرحلة إلي مرحلة، أو تنطلق من الخاص إلي العام، أو تدور حول موضوعات متشابهة. ورغم ذلك فإنها متماسكة متناغمة، لا تشعر بأي نوع من التكلف عندما تنتقل من حكاية إلي أخري. فما سر هذا؟
قصر الذاكرة
يبدو لي أن الغيطاني سلك في هذا الكتاب البنية التي أبتدعها علماء القرون الوسطي عندما تحدثوا عن هيكل الذاكرة. شغل القدماء منذ العصور الأولي بماهية التذكر :كيف يمكن للمرء أن يستدعي الذكريات المختزنة في ذاكرته؟ هذا حديث يطول، ولكن، علي الطريقة الغيطانية، أحكي حكاية أوضح بها ما في ذهني:
أثناء مأدبة كبيرة أقامها سكوباس أحد نبلاء اليونان في تيسالييا، تغني الشاعر سيمونيديس بقصيدة في مديح مضيفه، إلا أنه ضمنها فقرة في شرف الإلاهين الأخوين: كاستور وبولوكس. فما كان من سكوباس سوي أن قال للشاعر أنه لن يدفع له سوي نصف المبلغ المتفق عليه، ونصحه أن يطالب الإلاهين التوأم، بالنصف الآخر. ما هي إلا برهة وأتي من أخبر سيمونيدس أن شابين ينتظرانه في الخارج ويبغيان محادثته، فترك المأدبة وتوجه إلي الخارج، حيث لم يجد أحدا. وما إن خرج حتي انهار سقف بهو المأدبة ساحقا سكوباس وكل الضيوف تحت الأنقاض. تهشمت الجثث إلي درجة تعذر معها التعرف علي أصحابها لاتمام مراسم الدفن. إلا أن سيمونيديس تذكر الأماكن التي كان الضيوف يحتلونها حول المائدة، ما مكن أهل الضحايا من التعرف علي ذويهم. وبذا دفع كاستور وبولوكس حصتهما في ثمن القصيدة، بإنقاذ سيمونيديس من الموت، عندما استدرجاه خارج البهو.
يقال إن هذه القصة ألهمت الشاعر فن الذاكرة، التي يُعد هو مبتدعها، عندما تبين أن تذكره للأماكن التي كان يشغلها الضيوف هي ما مكنه التعرف علي جثث الموتي، إذ اكتشف أن سر الذاكرة النافذة هو ترتيب مكوناتها في تنظيم شامل. ولكي ننمي هذه الملكة يقول »يمنونيد« أن علينا أن نقسم الذهن إلي أماكن معينة، وأن نتصور الأشياء التي نريد تذكرها، إذ أن الصور تذكرنا بالأشياء. ثم نرتب هذه الصور في الأماكن المختلفة. فالأماكن هي الألواح الشمعية التي نكتب عليها، والصور هي الحروف التي نكتب بها.
ولد هذا التصور فكرة "قصر الذاكرةز الذي يشبه القصر الكبير ذا حجرات متعددة. حيث نضع في كل حجرة ما نريد تذكره من الأشياء المتشابهة. ومن هنا أري أن هذا الكتاب هو قصر ذاكرة الغيطاني. نستطيع أن ندخله من الباب الرئيسي ثم نأخذ في التجول في الأبهاء والصالونات
والحجرات والردهات والأدوار المختلفة كما نشاء. يمكن أن نعود إدراجنا، وأن نبدأ بالدور العلوي ثم نهبط السلالم إلي الأدوار السفلية، فلا نظام للتريض سوي المزاج الخاص الذي يحكم تجولنا في القصر. وتختلف أحجام الأبهاء والحجرات والدهاليز، فكلما ازدادت الذكريات اتسع المكان ليشملها. وتتجانب الذكريات. فهي لا تتراص طبقا لدخولها حيز الذاكرة، بل تتجانب وتتداخل، ومع تقدم المعرفة، تبينا أن الذاكرة ملكة حية جبارة، لا تستقبل التجارب والصور والمشاعر بطريقة سلبية، بل تتفاعل معها. فتتبدل وتتداخل، ويؤثر في بعضها البعض. وأحيانا تتحول أحلامنا إلي ذكريات، كأننا عشناها فعلا.
فلنبدأ إذن زيارة قصر ذاكرة الغيطاني...
إنه يحذرنا منذ البداية:
سهذه حكايات هائمة في الذاكرة ، بعضها ربما يكون له أصول في الواقع إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها توهم محض، المصادر المذكورة لا أصول لها، ربما فقدت إلي الأبد وربما لا توجد إلا في مخيلتي.«(ص.9)
يتميز المناخ العام الذي تسبح فيه هذه الحكايات بأنه »سديم« وأظن أن هذا اللفظ مفتاح يمكننا من التفكير فيما لنا أن نتوقعه عند دخول قصر ذاكرة الغيطاني. فالسديم nebula في علم الفلك هو أجرام سماوية ذات مظهر منتشر غير منتظم. مكون من غاز متخلخل من الهيدروجين والهليوم وغبار كوني. ويدرس الفلكيون السديم عن طريق دراسة الوسط البين نجمين، وبصفة خاصة بين نجوم مجرتنا. إذن نحن هنا أمام ظاهرة كونية شديدة التعقيد والصعوبة ولها حكاية أخري مجالها للمتخصص. والسديم مثل السحاب. يتبدل ويتغير شكله، يظهر ثم يختفي .
وسط هذا السديم اخترت ثلاثة أبهاء لأهميتها في الثقافة العالمية عامة، وعند الغيطاني خاصة. وهذه الأبهاء هي : بهو الكتب، بهو اليمام، وبهو الشجر.
تختلط الذكريات في هذه الأبهاء. منها ما هو شخصي، تجارب مر بها الغيطاني ويستحضرها، ما هو عائلي، ما يتعلق بأبيه وأمه وأفراد الأسرة الآخرين؛ ما هو مجتمعي ممن عايشهم وقابلهم وتركوا بصمتهم عليه؛ ما هو ثقافي، الكتب التي قرأها؛ ما هو أسطوري، القصص والحكايات التي تناقلت عبر العصور حتي وصلت إليه،؛ما هو رمزي، أي يشير إلي غيره؛ ما هو تخييلي، الأشياء التي أبتدعتها؛ وما هو خارج هذه الأطر، وهي الأشياء الغامضة التي توجد ولا توجد في آن واحد.
1- بهو الكتب:
أبدأ بما بدأ به الغيطاني، ألا وهو بهو الكتب. هو البهو الأكبر والأهم عنده. فإنه مهووس بالكتب يبحث عنها في كل مكان. يبحث عن الكتب الكائنة والضائعة والمفقودة والمتخيلة ؛ عاشق للقراءة ودائم التساؤل حول أسرارها، يحفظ الكتب حفظا حتي أنه عندما أودع السجن وحرم من الكتب و حبس حبسا انفراديا - وهو أشنع أنماط الحبس - كانت مكتبته معه يستدعيها كما يشاء ويعرف موضع كل كلمة وسطر وفصل في كل كتاب.
يقف علي أعلي السلم القيمي للكتب تلك التي يمكن أن نطلق عليها تسمية »الأور-كتاب« ur-book، الكتب الأمهات التي قامت عليها الحضارات؛ وتأتي علي أشكال متباينة، منها الكتب العملاقة التي تجاوز الحدود المتعارف عليها.
وكتاب الكتب عند الغيطاني هو الهرم الأكبر نقشت علي صفحاته الأربع نصوص بمادة مشعة كان يمكن قراءتها في مواقيت معروفة طبقا لسقوط أشعة الشمس عليها. ولكن ما هذه النصوص؟ لقد ضاعت وانمحت وغابت في غياهب النسيان.
كتاب »الخروج إلي النهار« (»برت إم هارو«) :
هل يمكن أن ينقلب المعني في كتاب إذا نقل إلي لغة أخري ؟ سؤال طرحه الحاكم بأمر الله علي من حوله من المترجمين.
سؤال ظل معلقا ألف عام حتي أتي الغيطاني وشك في ترجمة عنوان »كتاب الموتي« رغم شيوع هذا الاسم. إلا أن الغيطاني لم يرض عن هذه التسمية وأخذ يبحث عن الحقيقة ووجد أن عنوان الكتاب باللغة الهيروغليفية هو »برت إم هارو« ومعناه »الخروج إلي النهار«. ورأي أنها قلبت مضمون الكتاب رأسا علي عقب. إذ غيرت الترجمة الخاطئة لعنوان الكتاب من مضمونه: إنه كتاب الحياة، لا كتاب الموت! وفي هذا إجابة سؤال الحاكم!
كتاب »الابستاق« (أفيستا/Avesta):
هو كتاب الرسول زاردشت الذي يعد الكتاب المقدس لدي اتباع الزاردشتية. وكلمة "أفيستا" باللغات القديمة تعني (الأساس والبناء القوي)، والأبستاق مكتوب باللغة الافستية ذات صلات قوية باللغة السنسكريتية الهندية القديمة.
ما أثار خيال الغيطاني هو حكاية هذا الكتاب، من أين جاء ؟ وما هو أصله ؟ فمن المعروف أن أصل الكتاب ضاع، وأن النصوص الموجودة اليوم ما هي إلا أجزاء نزيرة من الأصل المكتوب باللغة الأفستية. فالقصة الخاصة بأصل هذا الكتاب هي من نطاق الأساطير والحكايات الخرافية. فأتي الغيطاني وأدلي بدلوه ووضع حكاية جديدة لأصل هذا الكتاب.
كتاب كليلة ودمنة:
كليلة ودمنة من الكتب التي حار الناس في أصلها. والغيطاني، الحائر دائما وراء البحث عن الأصول والجذور، ومن أين تأتي الأشياء، هو أقرب إلي موقف الطفل الذي لا يرضي بما حوله من الأمور ويريد دائما أن يسأل. واستشهد بقول حفيده: »امبارح راح فين يا جدو؟« تتعجل المجتمعات انقضاء الطفولة. فكثيرا ما نقول لأطفالنا سأكبروا وكفوا عن هذا التصرف الطفولي!«. ولكن اليوم يتساءل علماء النفس عما إذا كان ذلك يقتل فينا الإبداع والقدرة علي التخيل والنظر إلي العالم نظرة طازجة منبهرة، فهذه النظرة التي قد تجعلنا نطرح الأسئلة حتي بالنسبة للأشياء الأكثر ألفة يمكن أن تكشف لنا حقائق ظلت مختبئة عنا طوال حياتنا بعد أن تكلست ملكاتنا ، وشاخت مشاعرنا.
لم يأخذ الغيطاني ما يقال عن كتاب »كليلة ودمنة « مأخذ التسليم. ولكنه طرح موضوع ترجمة الكتاب من الهندية. أي هندية؟ واللغات الهندية تعد بالآلاف. ومن ابن المقفع هذا؟ يتتبع الغيطاني - مثل شيرلوك هولمز - مسار الكتاب من يوم أن قرأه صبيا، ويصل إلي نتيجة أن سلفستر دي ساسي اشتري كتبا من أسرة حلبية من بينها نسخة الكتاب كما نعرفه اليوم ، ولكن ... من كتبه؟ من صاغه؟ من ننسبه إلي الأسماء التي ارتبطت به؟ لا علم لأحد بذلك...« (ص.59)
اللاكتب:
هل توجد كتب بلا كتابة؟ كل صفحاتها بيضاء خالية من الحروف؟ هذه هي اللاكتب. ومنها اللفائف المطوية، التي إذا فتحت تتطايرت كلماتها في الهواء وكأنها لم تكن. هذه هي الكتب التي تحتوي علي سر الأسرار التي لا يجب للمرء أن يطلع عليها.
كتاب الوجود:
هو المستغلق »لا صفحات له ولا سطور، كلمات لا تستخدم فهي معدومة، يحوي ذاكرة كل موجود يسع ما ظهر وما خفي، فما هيئته؟ كيف يعلم الحي والجماد بما يحويه؟ كيف؟ ليس بوسعنا إلا السؤال!« (ص. 101)
نخرج من بهو الكتب ونحن حياري ، لم نحصل علي إجابة علي ما قد نطرحه. فرحلتنا هي رحلة البحث الحقيقية عن الأبدية. والرحلة في عالم الكتب، عالم الوجود هي الغاية، الرحلة هي المرتجي والمأمول فإذا سكنا وأبطأنا الخطي انتهت الرحلة وانتهينا وهلكنا.
2- بهو اليمام:
يحب الغيطاني الطيور ، وعشقه لها لا يقل عن عشقه للكتب. وقد ألف اليمام منذ الطفولة وأخذ يحاوره ويبحث عنه في حله وترحاله.
صاحبه اليمام منذ أيام الطفولة فأنس إليه حتي أنه يبوح إلينا بشيء لم يفصح عنه من قبل أن يمامة "تبسمت، ضحكة بشرية ... ومرة أخري لمحت دمعتين وأسي إنساني، مددت أصابعي ملامسا طوق رقبتها الأزرق خطت تجاهي خطوتين، لأول مرة انتبه إلي رهافة قدميها ودقتهما، عند انصرافها مرفرفة التفتت إليّ (ص. 290).
يبدو أن الغيطاني يخلط بين اليمام والحمام، حيث استشهد بنص سقال الأصمعي في كتاب »الطير الكبير« إن اليمام هو الحمام البري، الواحدة يمامة، وهو ضروب، والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام أن أسفل ذنب الحمامة مما يلي ظهرها فيه بياض، وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه » انتهي (ص.322).
ويعتبر أن ما يميز بين الحمام واليمام هو الطوق. ويستشهد بنص يقول: سنقل النووي في التحرير عن الأصمعي، أن كل ذات طوق فهي حمام، والمراد بالطوق الحمرة أو الخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها.ز (ص.323).
وللمطوقة شأن جليل في التراث العربي فتغني بها الشعراء واستلهموها في التعبير عن الحنين إلي الحبيب والأوطان. كما أن العلاقة بين الذكر والأنثي عند الحمام تضاهي من بين المحبين من البشر من جماع مؤجل وتقبيل.
أعجبتني حكاية "يمام أبدًا«. التي يزعم أنها مأخوذة من كتاب الإصطخري المفقود »سجع الغمام في أخبار اليمام«: وأخبار هذا النوع من اليمام غير مؤكدة ومن عجائب هذا النوع من اليمام الذي يقال له »راحل« أنه لا يحط منذ خروجه من البيضة حتي دنو منيته، وحجمه صغير لا يتعدي كف اليد إلا بمقدار إصبعين. ومن شاهد هذا اليمام؟ يقول أهل جزيرة سومطرة أن "يمام أبدًا «لا بد أن يمر من بالجزيرة والسبب هو وجود شجرة من اللبان نادرة... ما علاقة اليمام بالشجرة؟ وما سحر هذه الشجرة؟ يبدو أن رائحة خاصة تنبعث من هذه الشجرة العجيبة يهتدي بها "يمام أبداز فتنبه قدماء المصريين إلي ذلك فجلبوا شجرة اللبان هذه ووفروا لها كافة وسائل النمو داخل المعبد حتي تأتي إليها الأسراب الخفية. والدليل الوحيد هو وجود رسوم علي جدران معبد الدير البحري لطيور دقيقة وكأنها تطير إلي أسفل، متجهة إلي الشجرة.
3- بهو الأشجار:
ينهي الغيطاني كتابه بهذا البهو. ويبدو لي
أننا نستطيع أن نقول إنه يمثل »قدس الأقداس« في كتابه. فالشجر الذي تأتي هنا حكاياته هو شجر رمزي أسطوري، وإذا كان هذا الفصل يبدأ بالنخلة وينتهي بها فهذا لأنها منبع من منابع المتخيل العربي والإسلامي.
وتملأ قائمة الأشجار هذا البهو مثل أعمدة المعبد :
نخل، نخلة النخلات، شجرة الانوثة، شجر الوقت، أصلها ثابت، شجرة الوحدة، شجرة الكينونة، شجر الغواية، شجرة لا تبلي، شجرة التحولات، شجر الوصال، شجرة الصمت، شجر الكون، نخلة الرغبة، عشق الأشجار، أشجار الأشجار، شجر المستحيل، أغنية النخلة.
تمثل الشجرة رمزا مهما في كثير من مجالات الحياة الإنسانية. مثل الأديان والأساطير والمرموز والطب النفسي وغيرها، والشجرة من أغني الموضوعات الرمزية وأكثرها ذيوعا في الحضارات الإنسانية.
وتوجد في مصر شجرتان لهما شأن كبير عند المصريين بصفة عامة، وعند الغيطاني بصفة خاصة؛هما الجميزة والنخلة. فالجميزة عند الفراعنة هي التابوت الذي أودع فيه سيت جثة أوزير بعد أن قتله. فكانت أول تابوت عرفه الإنسان. ولأنها مكمن جثة أوزير فهي شجرة أبدية لا تموت، إلا أنها شجرة حزينة، تعبر عن حزنها نواتها السوداء، التي تقبع في قلب الثمرة. ورغم حزنها فإنها دائمة التجدد فهي رمز الموت والحياة في آن. وكل إنسان ما هو إلا ورقة من ورق الجميزة، يولد معها ويموت عندما تسقط.
أما الشجرة الثانية فهي النخلة. وتسمو النخلة فوق غيرها من الأشجار عند العرب. كتبوا عنها الكتب وتغنوا بها في الشعر. واشتهرت بعض النخلات في التراث العربي منها نخلتا حلوان :
كان الشاعر مطيع بن إياس قد قال أبياتاً في جارة له أحبها في الري ثم اضطر فراقها. فلما كان في طريقه مر بعقبة حلوان، فجلس يستريح إلي نخلتين هناك وذكر صاحبته فقال:
أسعِداني يا نخلتي حلوان وابكيا لي من رَيبِ هذا الزمانِ
واعلما أن رَيبهُ لم يزل يفْ رُقُ بين الأُلافِ والجيرانِ
ولعمري لو ذقتما ألم الفر قةِ أبكاكما الذي أبكاني
أسعِدَاني وأيقِنا أنّ نحساً سوف يلقاكُما فتفترقانِ
وقد جعلت هذه الأبيات لنخلتي حلوان تاريخاً وذكري بين الأدباء والشعراء. قالوا: أراد المنصور أن يقطعهما، فلما أنشد هذا الشعر كره أن يكون من يفرق بينهما. وأراد المهدي أن يقطعهما، فنهاه المنصور عن ذلك. قالوا ومر الرشيد بحلوان وهو ذاهب إلي طوس، فهاج به الدم، ووصف له الطبيب جُمّاراً، فلما سئل الدهقان أشار إلي النخلتين، ولم تكن في حلوان غيرهما، فقطعت إحداهما، ثم مر الرشيد بالأخري، فرأي عليها هذه الأبيات، فندم وقال: لو علمت أن هذه الأبيات قيلت في هاتين النخلتين ما عرضت لهما، ولو قتلني الدم.
والنخلة كانت من أكثر الشجر استدرار للحنين إلي الأوطان. وقيل إن عبد الرحمن الداخل بني قصر الرصافة في قرطبة تشبها بجده هشام في الشام فلما رأي فيه نخلة منفردة أخذ يناحيها قائلا:
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيْبَةٌ مِثْلِية فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الْأَصْل
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَمَّمَةٌ عَجْمَاء لَمْ تُطْبَعْ عَلَي خَتلِ
َوْ أَنَّهَا تَبْكِي إِذاً لَبَكَتْ ... مَآءَ الْفَراتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
وكان العرب يقارنون النخلة بالإنسان وذاع الحديث الذي يقول :
" أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَرِ يُلْقَحُ غَيْرَهَا، وَأَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ فَالتَّمْرُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَرِ أَكْرَمَ عَلَي اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ مِنْ شَجَرٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ " .
»وتقول الرواية إن مدبر الأمر كله بعد أن خلق آدم، أبا البشر أجمعين من صلصال مكين، وقيل من طين ، بقيت فضلة صغيرة في حجم السمسمة، خلق منها النخلة لذلك اعتبرت صنو البشر« (ص.433). فالنخلة تشبه الإنسان بأنها لها جذع مثله وشعر، وهي أنثي وذكر وتلقح. وإذا قطعنا رأسها تموت، ولها قلب ...وهي ثابتة كما يقول الغيطاني أمام الرياح لا تتزعزع وتقاوم أعتي العواصف، كما أنها العماد الذي يصل الباطن بالظاهر، والأرض بالسماء.
ولا يفوتنا هنا ذكر أحد الشعانين الذي يبارك فيه القس أغصان الشجر من الزيتون وسعف النخيل ويجري الطواف بالبيعة بطريقة رمزية تذكارا لدخول السيد المسيح الاحتفالي إلي أورشاليم.
ويذكر الغيطاني الشجرة التي جلس تحتها بوذا مدة - هو يقول ست سنوات - حتي جاءته الاستنارة. ويسميها شجرة الصمت. وهي نوع من أشجار التين يسمي ficus religiosa، أي الفيكوس الدينية تبركا ببوذا. وهي شجرة مقدسة لدي البوذيين، ويتوارثون فسلتها، فانتشرت من موطنها الأصلي في سيريلانكا إلي جميع أنحاء عالم البوذية.
أما السرو فهو الشجرة التي ترمز إلي الأبدية في التراث الغربي، وكانوا يصنعون منه توابيت الباباوات ويزرعونها في الجبانات قرب القبور. وانتشرت الدلالة الرمزية للسرو عند الإيرانيين فيقول الفردوسي في الشاهنامه أن زاردشت أتي من منطقة الكشمير بشجرة سرو ضخمة أصلها من الجنة ووضعها أمام الهيكل الزاردشتي سبارزين ميرز فأصبحت شجرة السرو ترمز إلي الجنة.
ويري البعض أن هسيس الأوراق هو نوع من الكلام، بل ويعتقد آخرون أن التحدث إلي الشجر يجعله ينمو ويزدهر. لا تنتهي الدلالات الرمزية للأشجار في جميع الثقافات، وتتضافر كل هذه الدلالات في حكايات الغيطاني. يجمعها وينسجها نسيجا محكما، ويستكنهها من مشاهداته؛ فمثلا تخرج هاتور من جميزة ضخمة، كما يرضع تحتمس من الشجرة الأم التي تدر حليبها الصافي لتمد المبرأ بأسباب الوجود في اللاوجود.
ومن الفصول التي جعلتني أعود إلي كتاب لسان الدين ابن الخطيب »روضة التعريف بالحب الشريف« فصل بعنوان سرُسُوٌّ في التخومز. ورغم إني سبق أن اطلعت علي هذا الكتاب في قراءاتي عن موضوع الحب، عندما كتبت رسالتي عن »طوق الحمامة«. إلا أني لم أتذكره. كم مما قرأنا أصبح طي النسيان، كما يقول الغيطاني.
اختار الغيطاني عنوانا لفصله عبارة ألهتمه إياها عبارة في مقدمة لسان الدين ابن الخطيب وهي »رست في التخوم«. أين جاءت هذه العبارة؟ اختار ابن الخطيب شكل الشجرة بنية لكتابه، الذي يشرح لنا مساره في المقدمة فيقول:
» وعلي ذلك فذهبت في ترتيبه أغرب المذاهب، وقرعت في التماس الإعانة باب الجواد الواهب، وأطلعت فصوله في ليل الخير طلوع النجوم الغياهب، وعرضت كتائب العزائم عرضا، وأقرضت الله قرضا، وجعلته شجرة وأرضا، فالشجرة المحبة منسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة وتنبيها، والأرض النفوس التي تغرس فيها ، والأغصان أقسامها التي تستوفيها، والأوراق حكاياتها التي تحكيها، وأزهارها أشعارها التي نجنيها، والوصول إلي الله ثمرتها التي ندخرها بفضل الله شجرة لعمر الله يانعة وعلي الزعازع متمانعة ظلها ظليل والطرف عن مداها كليل والفائز بجناها قليل. رست في التخوم وسمت إلي النجوم، وتنزهت عن أعراض الجسوم، والرياح الحسوم، وسقيت بالعلوم، وغذيت بالفهوم، وحملت بالزهر المكتوم، ووفيت ثمرتها بالغرض المروم، فاز من استأثر بجناها، وتعلاي من عني بلفظها دون معناها، فمن استصبح بدهنها استضاء بسناها، ما أبعدها وما أدناها، عيناً ملأت الأكف بغناها، كم بين أوراقها من قلب مقلب، وفي هوائها من هوي مغلب، وكم فوق أفنانها من صادح، وكم في التماس سقيطها من كادح، وكم دونها من خطب فادح، ولأربابها من هاج ومادح، تنوعت أسماؤها، ولم تتنوع أرضها ولا سماؤها، فسميت نخلة تهز وتجني، وزيتونة مباركة يستصبح بزيتها الأسني، وسدرة إليها ينتهي المعني، أصلها للوجود أصل، وليس لها كالشجر جنس ولا فصل، وتربتها روح ونفس وقلب وعقل...
لم أكن أتذكر هذا النص الجميل ولذلك رأيت أن أجاوز حد الغيطاني واستشهد به كله لما يحمله من معان رائعة. فما أجمل هذه الاستعارة المطوله فقد ذهب بالشجرة كل مذهب في هذا النص فالمحبة هي الشجرة والأرض هي النفس البشرية. هل لنا هنا آن نستعير أمثولة المسيح:
فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَل: "خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَي الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَي الصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ". قَالَ هذَا وَنَادَي:"مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!"."
فهل المحبة هي هذا الزرع؟ والنفوس البشرية هي الأراضي؟، فلا يمكن لشجرة المحبة أن تنمو إلا في أرض صالحة.
ويذكر الغيطاني في خاتمة فصله نهاية لسان ابن الخطيب المأساوية ، مثله مثل العديد من شهداء العلم في التاريخ الإسلامي.
كم من شجرة اجتثت من جذورها،
وكم من كتب أحرقت وأعدمت ...
أليس لهذا العذاب والتنكيل من نهاية؟
وختاما، أدعو القارئ لزيارة باقي أبهاء حكايات الغيطاني الهائمة. وإذا كان الحكي له سحر يجذبنا ويبهرنا و يجعلنا نتعلق بكلمات الحكواتي، فإنه يذكرنا :
إننا لا نحكي لنعبر الوقت ، لنتسلي ولكن لنكشف الكامن فينا وفي الآخرين، لعل استمراري يرسيني علي فهم ما لم أفهم . (468)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.