- كأنني أنا.. إنه أنا، كما قدر لي أن أكون علي هذه الهيئة، أعرف نفسي أكثر مما تعرفونني، كلكم تحدثتم عن صلابتي ويقيني، عن ملائكيتي وصفاء عيني، صورتموني ملاكاً طاهراً، وأنا لست كذلك، ولم أكن فيما مضي، لأنه لم يقدر لي أن أكون ملاكا، لماذا نزعتم بشريتي، وجردتم روحي من تلعقاتها الأرضية؟ خلقني الله بشريا، وأرادني المسيح كذلك، بشريتي هي اختباري الأجمل، ولن تكون الروح جميلة دون جسد يخالفها ويدفعها إلي ارتكاب الأخطاء، جسد يستمتع بالصغائر، وبالتطلع إلي اللذائذ، من أجل ذلك أنا هنا غريب في أرض قريبة، كما كنت غريباً في أرضي، صلبني العمل الشاق، والتوق إلي اللحم الطري، خشونة الصحراء كانت تعدني بمتعة مؤجلة، فكرت فيها لحظة الذبح اكتمالا لبشريتي الناقصة، وغير الموجودة في نظركم. كانت نظرتي لحظة الذبح التي ارتجت لها قلوبكم النبيلة، تنظر داخلي، كم من رغبة لم أحققها، وكم من وعد لم أف به، وكم من صديق لن أراه مرة أخري، كنت أتخيل لحظة عري ستمنحني إياها بنت وعدتها بالزواج، ظللت أتخيل تفاصيلها وأشم رائحة لحمها، وطعم عرقها، وحماستي لو تحققت الرغبة، تذكرت حينما جلسنا منفردين ووعدتها بالصفاء، ووعدتني بخياطة روحي صعودا من جسدي، ومن بشريتي، بشريتي التي تنكرونها، بزعم البطولة لحظة التهيئة للذبح، مشيت في دروب متربة في ساعة فجر وأنا بين العمال ذهابا لجني القطن، ورائحة الندي فوق التراب ونقيق الضفادع، كان كل ذلك جميلا، ولو أنه شاق ومنهك، وكنت أستمتع لحظة فرد ظهري علي الحصير الموضوع علي الأرض بعد العودة آخر النهار، أو الجلوس تحت الصفصاف والسيبسان، واعذروني أنتم لا تعرفون هذه الأشجار يا أهل البنادر، أنا أحب حياتي وأقدس عرقي. الآن أراكم، غير ما تتخيلون أنفسكم، أري جمالكم وأشفق عليكم، كأنكم تحلمون لأنفسكم بالملائكية، مع أن البشرية أجمل، والدنيا جزء من الجنة وبعض من النار، وأنتم تختبرون كل ذلك ولا تعرفون، آلاف مثلي خبروا آلام الشفرة الحادة فوق العنق، وشموا رائحة دمائهم علي أيدي غزاة وأصحاب رسالات، دافعوا عنها بالذبح أو الحرق، أو دفن الناس أحياء، المذبوح يتطلع إلي جنة أخري وإلي يقين لم يخبره في معيشته، والذابح يفعل ذلك، طمعا في جنة ويقين يشك فيه، ويخاف عليه من المخالفين، كلانا حالم بجنة، تركناها وراءنا، فيها الأطفال والنساء والطعام اسمي لا يعني أحدا، فهو مكرر وشائع في مصر، واسم البنت التي حلمت بها ومن أجلها سافرت، كذلك شائع في مصر، لكنها مثلي الآن تنسي بشريتها وتفكر في أنني في الجنة ونعيم الإله برفقة المسيح، وهي لو تعلم، كما علمت وأنا أذبح، إن المسيح يريدها أن تحيا وأن تتزوج وتنجب، أنا لست عاملا بسيطا، ولست قلبا بسيطا وصامدا كما تدعون، إنما مستسلم لدراما البشرية الخبيثة التي تنصف ضعف المظلوم، وهو ما أدركه ذابحي، وكانت يده تهتز، وهو يقبض علي رقبتي من الخلف، وفي هذه اللحظة تذكرت ما كان يقوله لنا القسيس في درس الأحد، من أن المسيح أمرنا أن نطوب أعداءنا، ونحب كارهينا، وأن نمنح خدنا الأيسر لمن صفعنا علي خدنا الأيمن، مرة ذهبت إلي دير المحرق ورأيت قلايات الآباء، وأماكن اختباء أجدادي من الغزاة الذين نهبوا بلدنا مرة باسم الدين، وأخري بوهم أنهم الأقوي منا، وجلست أستمع إلي عظة الأب الذي حكي لنا، كيف طرد أحمس الهكسوس من مصر؟ وكيف تعرض لموقف عصيب؟ وكان الهكسوس وضعاء، عندما أدركوا حصار أحمس لهم، وضعوا نساء مصر عرايا منكوشات الشعر فوق الأسوار، فتراجع أحمس، لكن قائد جنده »أحمس إبانا« أصر علي الاقتحام معتبرا النساء شهيدات حرب سقطن في المعركة، وهما يتداولان، الفرعون أحمس يرفض الاقتحام ويؤجل طرد الهكسوس، وأحمس إبانا قائد الجيش، يصر علي الاقتحام لطردهم فورا، صاحت النساء: يا فرعون، يا أحمس إبانا، اقتلونا واقتحموا، نحن جنود مثلكم، اقتلونا وطهروا مصر من الهكسوس، بشرية النساء، تفوقت علي مثالية الفرعون يا أبنائي. تذكرت هذه العظة، وموقف النساء، وأنا جندي فديت بلدي بذبحي، مع زملائي، لأن قائد الجند انتصر وأراد طرد الأعداء من وطننا. أكثر ما آلمني لحظة الذبح وجه أمي، ودموع أمي، والمرأة الأخري التي وعدتني ابنتها بالمستقبل، هي الآن ذاهبة لعزائي، والعزاء للأحياء، والانتقام يفرح به الأحياء، والعزة يستشعرها الأحياء، أما نحن، أقصد أما أرواحنا فقد تخلصت من كل هذه المشاعر، لكننا نحبها لمن بعدنا، هؤلاء النسوة قويات، جميلات، ربين عشرات وآلاف أمثالنا، ومن لم يمت منا بالذبح، مات بفشل كلوي، أو بالكبد، أو بالسرطان، أو البلهارسيا، أمراضنا القومية المتوطنة مثل مشاعرنا المصرية المتوطنة، ومع ذلك لم يتوقفن عن الإنجاب. من ذبحني لم يرد دمي كفرد، لم يزهق أرواحنا كمجموعة، إنما أراد أن يربط، دون وعي منه، بيننا وبين تاريخنا، سمعت وهو يهمس إلي جاره عظة الأب في الكنيسة: إنه يا أبنائي عندما بدأت المسيحية في مصر في منتصف القرن الثاني الميلادي، اضطهد الرومان آباءنا، وكانوا يلقون بهم إلي الأسود في مسارح روما، وأن المؤرخ »ترتوليان« قال في إحدي فقراته المشهورة عن اضطهادنا، «فإذا فاض »التيبر« علي الأسوار، أو غاض النيل فلم يبلغ الحقول، أو أمسكت السماء عن المطر، وإذا زلزلت الأرض، أو حدثت مجاعة، أو انتشر وباء، تعالت الصيحات علي الفور هاتفة: فليلق بالمسيحيين إلي الأسود، كان ذلك بدء عصر الشهداء أيام دقلديانوس، وخيط الدم الذي سال علي الرمل اتخذ طريقه في الزمان حتي وصل إلي ذلك العهد، رابطا دمي بجذوره، من حيث أرادوا له أن يقطع ، في تلك اللحظة أحببت بشريتي، وأشفقت علي تجردكم. مرة قرأ لنا الأب في الكنيسة كلاما من كتاب في يده، قال لنا إن اسمه »كفاحنا ضد الغزاة« يحرضنا علي حب بلدنا، أيام أن كانت كنائسنا تحرق، وتضرب بناتنا في الطرقات، بعد فض اعتصام رابعة، وكنا نري إخوة لنا في الدم يدوسون علي هياكل الكنائس ويضرمون فيها النار، أوشكنا حينها أن نكره مصريتنا، لكن الأب ذكرنا بعصر الشهداء، وقال لنا إن المقصود بهذه الأفعال، أن ندخل عصر شهداء جديداً، لأننا شككنا في عصر شهداء قديم، إن المقصود هو كراهية هذه الأرض، قال لنا الأب إن المقصود هو أرضكم قبل دينكم، وقرأ من الكتاب: »وهل صدقت أن هذا الشعب ساهٍ لاهٍ، مستسلم مستخز، يترك للأجانب أن يضطلعوا دونه بشئون الحكم، وبشئون الحرب، ويقنع هو بمرتبة الأجير الذي يعمل مأمورا، ويعود آخر النهار بلقمة عيش يتبلغ بها ويقيم أوده«. "وهل صحيح أنه شعب لا يحارب عن حرص علي الحياة، وخوف من الموت، وعن عجز في إتقان فنون الحرب، وأنه أخيرا متكل مقلد، يقبل بالأمر الواقع، ". ويتكيف له ولا يكيفه"؟ قال لنا الأب: هذه - يا أبنائي - قائمة الاتهام التي صاغها ضدنا أجانب كرهوا أن نعرف حقيقة أنفسنا، وحقيقة تاريخنا، فحالوا أولا بيننا وبينه، فلم نعد نقرؤه، فإن قرأناه قرأناه مكتوبا بأيديهم، وأصبحت علي مر الأيام للتاريخ المصري نسختان: نسخة منصفة عادلة تعطي المصريين حقهم علي طوال التاريخ ومداه الفصيح، ونسخة تمسح ذلك التاريخ وتزيفه وتردمه تحت أطلال وأثقال من الأكاذيب والمبالغات، أما النسخة الأولي فيكتبها العلماء الأجانب، ليقرأها عنهم مواطنوهم في المعاهد والمجامع، وتبقي النسخة الأخري وقفا علي مدارسنا ومعاهدنا نحن، وعلي الاحتجاج بها علينا إذا ناقشنا وجادلنا«. قال لنا الأب، ونظرت الأم، وهبت علي أنفي رائحة الأرض المنداة، رأيت عري حبيبتي المكتمل، وبكاء أهلي أمام الفضائيات، لكن السكين قطعت فوصلت، أراقت دما فخصبت أرضا، أهانت عقيدة، فقالت أختي: "لو أنكر أخي إيمانه لينجو لقتلته بيدي"، لن يفهم ذابحي هذا المعني، وكأن الأب المعلم أراد أن يكمل له الرسالة وهو يحدث المعزين، ويخطب فيهم، ويطوب روحي: »واجتاحت العالم كله موجات من الغزو والفتح، كانت أشبه شيء بالأعاصير، وأخذنا نصيبنا في مصر فلم يجرؤ علي الطمع فيها ولا الاقتراب من حدودها إلا أقوي الغزاة الذين دانت لهم الدنيا التي كانت معروفة في ذلك التاريخ، وكان المصري الذي عرف معاني الحياة الأصيلة، ينظر إلي هؤلاء الغزاة في حكمة وفهم، فهو يعرف أنهم زائلون، فإن تخلف عنهم أثر من حكم حاربه بأسلوبه وطريقته، فإن لم ينفع هذا الأسلوب - وقل أن يخفق - استعمل أسلوب الذين يقلون عنه حضارة، أسلوب السيف والمدفع، وعندها يبدو في صورة المقاتل الذي لا يشق له غبار، وقد عرف عنه أعداؤه هذه الطبيعة الكامنة تحت مظهره الهادئ، فنحوا عنه السلاح ما استطاعوا، وحرموه الاقتراب منه، وأكدوا له أنه زارع الأرض وباذر حبها وجاني زرعها، وحاصد خيرها، وهم يقصدون بهذا أن يغضوا من قدره، فكان يسمع ويضحك بينه وبين نفسه، فالحضارة كانت عنده أغلي ما يقدمه للناس وهو ما يعجز عنه الآخرون. قال الأب للمعزين: »لقد كانوا يقصونه أيضا عن منصات الحكم لأنهم يعلمون أنه لا يضع قدمه في أول درجاته حتي يمكنه أن يصل إلي قمة السلم، ثم كانوا يقيمون بينه وبين الحكم حواجز وفواصل، ويحوطون أنفسهم بأخلاط من الأجانب ويظنون أنهم استأثروا بالأمر دونه، فلا يمضي علي ذلك عقد أو عقدان من الزمن حتي يروا أنهم أصبحوا مصريين فيما يأكلون ويلبسون، و فيما يملأ قلوبهم من عقائد، ويجري علي ألسنتهم من قوالب الكلام وصيغه، ثم يتحللون كما تتحلل الأحياء والأشياء، فيعود الأمر كله إلي مصر«. كأنني أنا.. لم أكن أفهم كلام الأب في عظة الآحاد، بل لم أكن أميل إليه، كان واجبا، وكان تقليدا مكرورا، لا أرتاح في الأماكن المغلقة، هكذا رأتني الطبيعة، وهكذا وجدت نفسي في الصحراء الحقيقية هربا من صحراء الفقر والعزوبية والصحراء، علي كل حال، استثناء من الطبيعة، وليست جزءا منها، فالطبيعة حنون، وورق الشجر أحن، وحياتنا تمزقت بين قساوات بامتداد البصر، وقصر العمر، مرة شكوت، ومرات صبرت، وحياتي تسير، ولما شكوت قرأ لي صاحبي: "أنت لا تختار حياتك، بل هي تختارك، لا جدوي من سؤالك لم خصصت لك الحياة أفراحا أو أتراحا معينة، عليك أن تتقبلها و تمضي".. كنت أعجب حين تذكرت كلام صاحبي، من همس رفيقي لحظة الإعدام، وتمتمته بالدعاء، فاللحظة نفسها كانت أبلغ دعاء، وأفصح قربي إلي الله، وأدق معني للإيمان، والشهادة، لكن ما غفر له في قلبي أنه كان يخاطب أهله: «الانتقام هو لي.. هكذا يقول الرب الإله"".