متاحف طوال فترة طفولتي، كنت مفتونا بالمتاحف. في البداية، كان متحف التاريخ الطبيعي ب فريسكاتي، في الطرف الشمالي لاستكهولم. أيّ بناية هذه! عملاقة، بابلية ولا نهائية! كانت القاعات في الطابق الأرضي، الواحدة تلو الأخري، تحوي الثدييات والطيور المحنطة المكدسة وسط الغبار، والأقواس التي تفوح منها رائحة العظام، حيث الحيتان مُعلقة إلي السقف. أما الطابق الأعلي، فكان يضمّ الحفريات والفقاريات... اصطحبني أحدهم لمتحف التاريخ الطبيعي وكنت لا أزال في الخامسة من عمري. عند المدخل كان هيكلان عظميان لفيلين هما أول ما يقابل الزائر. كانا هما حارسي البوابة المُطلة علي عالم العجائب. كان تأثيرهما عليّ هائلا؛ حتي أني قمت برسمهما في كراسة رسم كبيرة. بعد فترة توقفت هذه الزيارات لمتحف التاريخ الطبيعي. كنت أدلفُ مرحلة الخوف من الهياكل العظمية، وكان أكثرها قسوة هو الشكل العظمي الموصوف في ختام مقالة عن "الرجل" في معجم سلالات شمال أوربا، غير أن خوفي تزايد بشكل عام من الهياكل العظمية، ومن بينها هيكل الفيلين في مدخل المتحف. صرت أخاف حتي من رسوماتي لها ولم أعد قادرا علي أن أفتح كراسة الرسم تلك. تحول اهتمامي بعد ذلك إلي متحف القطارات. إنه يحتل الآن مساحات هائلة علي أطراف بلدة جافل لكن المتحف بكامله - وقتها - كان حبيسا في جزء من حي كلارا في قلب استكهولم. كنت أنا جدّاي نتوجه مرتين أسبوعيا من سودر لزيارة المتحف. لا بد أن جدي نفسه كان مفتونا بنماذج القطارات، وإلا ما كان تكلف مشقة كل هذه الزيارات. كنا أحيانا ما نقرر تخصيص يوم كامل للأمر فنمضي بعدها إلي محطة قطار استكهولهم، والتي كانت علي مقربة منا، ونشاهد القطارات بحجمها الطبيعي تنفث البخار. لاحظ طاقم العاملين مدي حماس هذا الصبي الصغير - الذي كنتُهُ، فأخذوني إلي مكتب المتحف وسمحوا لي بكتابة اسمي في كتاب الزوار. في ذلك الوقت كنت أريد أن أكون مهندس قطارات، وكنت، علي الرغم من ذلك، أكثر اهتماما بالآلات البخارية عن الآلات الكهربية. بعبارة أخري، كانت شخصيتي رومانسية أكثر منها عملية. لاحقا، وأنا في المدرسة، عدت إلي متحف التاريخ الطبيعي. كنت قد صرت عالِم حيوانات هاوٍيا، وقورا، مثل بروفيسور صغير. كنت مُكبا علي كتب الحشرات والأسماك. بدأت في تكوين مجموعتي الخاصة والتي كنت أحتفظ بها في خزانة بالمنزل، لكن داخل رأسي كان متحف هائل ينشأ ويتطور، وكان نوع من التداخل يتطور بين المتحف المتخيل والمتحف الحقيقي الذي زرتُه هناك، في فريسكاني . كنت أذهب لمتحف التاريخ الطبيعي تقريبا كل أسبوعين، يوم الأحد. أستقلُّ الترام لروزلجستل وأمشي المسافة المتبقية. كان الطريق دائما أطول قليلا مما أتوقعه. أتذكر تلك التمشيات بوضوح: كان الجو عاصفا دائما، أنفي سيّال وعيناي مليئتان بالدموع، غير أني لا أتذكر طريق العودة، وكأني لم أرجع أبدا للمنزل. فقط أتذكرني ذاهبا للمتحف، عاطسا دامعا راجيا معايشة مغامرة استكشافية في ذلك المبني البابلي الضخم. أصلُ في آخر الأمر، يحييني هيكلا الفيلين علي البوابة. أمضي من فوري نحو الجزء "القديم"، حيث الحيوانات التي يعود تاريخ تحنيطها للقرن الثامن عشر، بعضها برؤوس منتفخة حيث تم إعدادها علي عجل. غير أنه كان ثمة سحر هناك. فشلَت المناظر المُصورة الضخمة بتصميماتها الأنيقة أو نماذج الحيوانات في إثارة اهتمامي - كانت مجرد محاكاة للطبيعة، شيء تم تصميمه للأطفال. حسنا، ينبغي أن يكون واضحا أن الأمر هنا لا علاقة له بالكائنات الحية، فالحيوانات هنا محنطة خدمة للعلم. كان المنهج العلمي الذي اقتربت منه أشبه بمنهج العالم السويدي الشهير لينيوس: راقب، جمّع واختبر. يمكنني أن أنصرف إلي هذا المتحف تماما. الوقفات الطويلة بين الحيتان وغرف علم الأحياء القديمة، ثم الجزء الذي يجذبني أكثر من أي شيء آخر: اللافقاريات. لم يحدث أن تواصلت أبدا مع أحد الزوار. في الحقيقة، لا أتذكر اصلا أنه كان هناك زوار غيري. المتاحف الأخري التي كنت أزورها من وقت لآخر - مثل المتحف القومي للبحريات أو المتحف القومي لعلوم الإنسان أو متحف التكنولوجيا - كانت جميعها مزدحمة دائما، بخلاف متحف التاريخ الطبيعي الذي كان يبدو وكأنه مفتوح خصيصا من أجلي. بالرغم من ذلك، التقيت ذات يوم بشخص ما - كلا، لم يكن زائرا، كان أستاذا في العلوم أو شيئا من هذا القبيل - يعمل في المتحف. التقينا وسط اللافقاريات عندما ظهر لي فجأة بين المعروضات، وكان ضئيل الحجم مثلي. تحدث بصوت خافت لنفسه ثم ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا نتناقش في المحار والرخويات. إما أنه كان غائب الذهن أو أنه كان متواضعا جدا، فقد كان يحدثني كأنني شخص كبير. كان واحدا من أولئك الملائكة الحراس الذين كانوا يظهرون من وقت لآخر في طفولتي ويلمسونني بأجنحتهم. بفضل وجوده، انتهت محاورتنا إلي السماح لي بدخول قسمٍ في المتحف غير متاحٍ للجمهور. مَنحني نصائح طيبة عن إعداد الحيوانات الصغيرة قبل أن أدلف للقسم والذي كان مجهزا بأنابيب زجاجية دقيقة، وهو ما بدا لي احترافيا تماما. من سن الحادية عشرة وحتي سن الخامسة عشرة كنت أقوم بجمع الحشرات، لا سيما الخنافس، ثم بدأت اهتمامات أخري، فنية في الأغلب، تفرض نفسها منافِسةً اهتمامي بجمع الحشرات. كم بدا مثيرا للأسي أن علم الحشرات كان عليه أن يتراجع قليلا للوراء! أقنعتُ نفسي أن ذلك أمر مؤقت فحسب، وأنه، في خلال خمسين أو ربما أقل، سأستعيد هواية جمع الحشرات. كان النشاط يبدأ في الربيع ثم يزدهر بطبيعة الحال في الصيف، هناك علي جزيرة رونمارو. في المصيَف، حيث لم تكن هناك مساحة لنتحرك، كانت تقبع برطمانات تحوي حشرات ميتة ولوح خشبي لعرض الفراشات. ومعي في كل مكان: رائحة إيثيل الكحول، حيث كان معي دوما في جيبي علبة قصدير بها مبيد حشري! لا شك أني كنت سأصير أكثر جرأة لو استخدمت بوتاسيوم السيانيد حسبما يوصي الكتيب الإرشادي، لكن هذه المادة لسوء الحظ لم تكن في متناول يدي ولم يكن هناك مجال لاختبار شجاعتي ما إذا سأستخدمها أم لا. كان الكثيرون متعلقين بهواية جمع وصيد الحشرات. كان أطفال الجيران قد تعلموا إصدار صوت تحذيري عند رؤية حشرة ما ربما تكون مثيرة للاهتمام. كانت عبارة "هنا واااااااحدة!!" يرنّ صداها بين البيوت فأهرع إليهم ممسكا شبكة صيد الفراشات. خرجت في عدد لا نهائي من الرحلات الاستكشافية. حياة حافلة في الهواء الطلق دون أدني تفكير في الاعتناء بصحتي. لم يكن لدي آراء جمالية في الغنائم التي أقتنصها، بالطبع - فهذا قبل كل شيء مجهود لخدمة العلم - إلا أنني استغرقت تماما وبشكل غير واع في الكثير من تجارب جمال الطبيعة. كنت أتحرك داخل لغز عظيم. تعلمت أن الأرض كائن حي، أن هناك عالما لانهائيا من المخلوقات التي تزحف أو التي تطير، تعيش حياتها الثرية دون أن تلقي أدني اهتمام نحو وجودنا. استطعت أن أقبض علي جزء من جزء من هذا العالم وقمت بتثبيته في صناديقي، والتي لا أزال محتفظا بها. متحف مصغر مخبأ نادرا ما أنتبه إليه، إلا أنها - تلك الحشرات - موجودة هناك، وكأنها تنتظر وقت خروجها. مدرسة ابتدائية بدأت مشوار التعليم في مدرسة كاتارينا نورا الابتدائية، وكانت مُدرستي هي السيدة راء؛ عانس أنيقة ترتدي ملابس جديدة كل يوم. مع انتهاء المدرسة في الحصة الأخيرة من كل سبت، كانت تمنح كل طفل قطعة كراميل، إلا أنها كانت بخلاف ذلك مُدرسة حازمة. كانت كريمة عندما يتعلق الأمر بشدّ الشعر وتوجيه اللكمات، رغم أنها لم تقُم بضربي أبدا؛ فقد كنت ابنا لمُدرسة زميلة! كانت مهمتي الرئيسية في ذلك الفصل الدراسي الأول هو البقاء ساكنا في مقعدي. كنت أتقن فعليا الحساب والكتابة، وكان مسموحا لي أن أجلس وأقص أشكالا ء، من الورق الملون، لكني لا أذكر شيئا الآن عن ماهية تلك الأشكال. كانت الأجواء رائعة في العام الأول، لكنها بدأت تزداد رتابة مع مرور الوقت. كان أي اضطراب في النظام، أي عقبة أو مشكلة، تجعل السيدة راء تفقد أعصابها. لم يكن مسموحا لنا بكثرة الحركة أو الصوت المرتفع. لم يكن مسموحا لنا أن نبكي، ولا أن نظهر صعوبات غير متوقعة في التعلم. وقبل كل شيء، لم يكن مسموحا لنا فعل اي شئ غير متوقع. لم يكن من حق أي طفل - أو طفلة - يُبلل ملابسه، في خزي وعار، أن ينتظر أي رحمة. كما أسلفتُ، أنقذني كوني ابنا لمُدرسة من اللكمات، لكنه كان بوسعي أن أشعر بجو القهر المتمثل في كل تلك التهديدات واللوم. في الخلفية، كانت تطل دائما المدرسة الأولي، الشخصية المرعبة ذات الأنف الشبيه بالصقر. كان اسوأ الاحتمالات هو أن نذهب للإصلاحية، الشيء الذي يمكن أن يوصي به في ظروف معينة. لم أكن - شخصيا - أشعر بخوف من ذلك، غير أن الفكرة في حد ذاتها كانت تمنحني إحساسا بغيضا. كان بإمكاني أن أتصور جيدا شكل هذه الإصلاحية، لا سيما بعد أن عرفت اسم واحدة منها Scrubba، الاسم الذي كان يقترح وجود مَبَارد و مَسَاحج وما أشبه. اعتبرت ذلك دليلا علي تعرض النزلاء هناك للتعذيب. كانت الرؤية التي شكّلتُها عن العالم ترجح وجود مؤسسات خاصة يقوم فيها الكبار بتعذيب الأطفال - ربما حتي الموت - عقابا لهم علي إزعاجهم. كان ذلك مرعبا، لكنه كان حتميا. لو كنا مزعجين إذن ... حين أخذوا ولدا من مدرستنا للإصلاحية وعاد بعد عام من هناك، كنت أراقبه كأني أراقب شخصا بُعث من موته. كان التهديد الأكثر واقعية هو الإخلاء. في الأعوام الأولي من الحرب، كانت هناك خطط بإخلاء جميع طلبة المدارس في المدن الكبري. كتبت أمي اسم ترنسترومر بحبر لامع علي أوراقنا، وما إلي ذلك من إجراءات. برز سؤال حول ما إذا كان سيتم إخلائي مع أمي وفصلها المدرسي أو مع فصلي أنا من كاتارينا نورا، بمعني، أن يتم إخلائي مع السيدة راء، لكني تشككت في حدوث هذا الاحتمال الأخير. فررت من مصير الإخلاء؛ استمرت الحياة في المدرسة. كنت أُمضي جميع وقتي في المدرسة متلهفا علي اليوم الذي سأنتهي فيه من الدراسة وألقي بنفسي فيما يعنيني حقا: أفريقيا، عالم ما تحت الماء، العصور الوسطي إلخ إلخ. كان الشيء الوحيد الذي يجذب انتباهي في المدرسة هو لوحات الحائطّ! كنت متيما بلوحات الحائط. كانت بهجتي الكبري هي مصاحبة المدرس لغرفة المخزن لجلب بعض اللوحات القديمة من الورق المقوي، وبينما نفعل ذلك، كنت أختلس النظر لباقي اللوحات المعلقة هناك، كما حاولت صناعة بعضها في البيت، في حدود إمكانياتي. فارقٌ مهمٌ كان بيني وبين زملائي في الفصل، هو أنه ليس بإمكاني أن أقدم أي أب. كان معظم طلبة فصلي من أسر تنتمي للطبقة العاملة حيث كان الطلاق - بشكل واضح - أمرا شديد الندرة. لم أكن لأعترف أبدا أن هناك شيئا ما مختلفا حول حالتي الأسرية، ولا حتي لنفسي. كلا، لدي أبٌ بالطبع، حتي لو لم أكن أراه إلا مرة واحدة في العام (عادة في عشية عيد الميلاد) وظللت أتتبع أخباره - ذات مرة، علي سبيل المثال، كان في الحرب وكان علي مركب طوربيد وأرسل لي رسالة رائعة. ظللت أتمني لو أني تمكنت من عرض هذه الرسالة في الفصل، لكن الفرصة لم تسنح لذلك أبدا. أتذكر لحظة ارتباك وهلع. كنت قد تغيبت ليومين عن المدرسة وحين عدت أخبرني زميل بالفصل أن المُدرسة - ليست السيدة راء ولكن مدرسة بديلة - أخبرتهم أنه ليس عليهم أن يضايقوني وذلك لأني بلا أب، بعبارة أخري، كانوا يشعرون بالأسف من أجلي. شعرت بالاضطراب عند سماع ذلك. كان من الواضح أني لست طبيعيا. حاولت أن أواصل الكلام بشكل عادي، لكن وجهي كان مضرجا بالحمرة. كنت واعيا بحدة لخطورة أن يتم التعامل معي كشخص غريب لأنني في أعمق أعماقي كنت أظن نفسي كذلك. كنت غارقا في اهتمامات لا تشغل بال الأولاد العاديين. كنتُ مشتركا، بشكل تطوعي، في فصل الرسم وكنت أرسم مشاهد لكائنات من عالم ما تحت الماء: الأسماك، قنافذ البحر، الكابوريا وقواقع البحر. أشارت المدرسة ذات مرة بصوت عال أن رسوماتي "مميزة" فعاد إليّ الاضطراب والهلع مرة ثانية. كان هناك دائما واحد ما متبلد الشعور من "الكبار" يرغب في الإشارة لكوني غريبا بشكل أو بآخر، بينما كان زملاء فصلي أكثر وعيا وتسامحا. لم أكن ذا شعبية بالغة ولم أكن، كذلك، مثار خوف. هاس، صبي أسمر أقوي مني بخمس مرات علي الأقل، كانت لدية عادة، وهي أن يصارعني كل فسحة في أعوامنا الأولي بالمدرسة. في البداية كنت أقاوم بعنف لكني لم أصل لأي نتيجة لأنه كان يطرحني، ببساطة، علي الأرض كيفما اتفق ويرقد فوقي منتصرا. ذات مرة، فكرت أن أحبطه بطريقة ما: الاستسلام التام. حينما اقترب مني تظاهرت أن "ذاتي الحقيقية" هربت بعيدا عني تاركة إياي جثة هامدة يمكنه أن يضعها علي الأرض كيف يشاء؛ وسرعان ما شعر بالملل من ذلك. أفكر ما الذي صارت تعنيه حيلة التحول لجثة هامدة بالنسبة لي بعد ذلك في الحياة. إنه فنُّ الحصول علي لامبالاة الآخرين دون أن تفقد احترامك لنفسك. هل استخدمت هذه الحيلة كثيرا بعد ذلك؟ أحيانا ما تنجح وأحيانا لا ... الحرب في ربيع 1940 كنتُ في التاسعة من العمر، صبيا نحيلا؛ منحنيا علي الجريدة اليومية مُكبا علي خريطة الحرب حيث العلامات السوداء تشير لتقدم وحدات الجيش الألماني. كانت هذه العلامات تخترق فرنسا و لم تكن بالنسبة لنا، نحن أعداء هتلر، أكثر تهديدا من كائنات طفيلية تعيش في أجسادنا. كنت أعتبر نفسي علي الحقيقة واحدا من أعداء هتلر. لم أمارس التزاما سياسيا أكثر إخلاصا مما عشته في تلك الفترة! لا شك أن الكلام عن الالتزام السياسي لصبي في التاسعة يستدعي نوعا من السخرية، لكن المسألة لم تكن متعلقة بالسياسة بمعني الكلمة، لكنها كانت تعني ببساطة مشاركتي بشكل ما في حدث الحرب. لم يكن لدي أدني إدراك لأمور مثل: المشاكل الاجتماعية، الطبقات، نقابات العمال، الاقتصاد، توزيع الثروات، أو دعاوي المنافسة بين الاشتراكية والرأسمالية. بالنسبة لي، كان الشيوعي هو الشخص الذي يؤيد روسيا. "الجناح الأيمن" كان مصطلحا غامضا لأن بعضا من هؤلاء في طرف الطيف السياسي كانت لديهم ميول ألمانية، ثم بعد المزيد من الفهم "للجناح الأيمن" أدركت أنه الشخص الذي يُصوت له لو كان ثريّا، لكن ما الذي تعنيه كلمة "ثري"؟ في بعض المناسبات كانت تتم دعوتنا للغداء عند أسرة توصف بالثراء. كانوا يعيشون في أبلفيكن وكان رب الأسرة تاجر جملة. كانوا يقطنون فيلا كبيرة، بخدم يرتدون الأبيض والأسود، ولاحظت أن الصبي في تلك الأسرة - وكان يماثلني في العمر - يمتلك سيارة لعبة كبيرة ورائعة، بمحرك احتراق؛ كانت شديدة الجاذبية. كيف يمكن للمرء أن يكون لديه لعبة مثل هذه؟ عندها، حانَت مني التفاتةٌ خاطفة لفكرة أن هذه الأسرة تنتمي لطبقة اجتماعية مختلفة، حيث يمكن لهم أن يشتروا سيارات لعبة كبيرة غير عادية. لكنها تظل في آخر الأمر ذكري بعيدة، وليست ذات قيمة كبيرة. ذكري أخري: أثناء زيارة لمنزل أحد زملائي في الفصل، اندهشت من أنه ليس لديهم حمام، مجرد مرحاض جاف في الفناء الخلفي، مثل الذي كان لدينا في القرية، وبوسعنا أن نتبول في مرحاض مُلقي بإهمال يمكن لأم صديقي أن تشطف به حوض المطبخ. إنها تفصيلة مشهدية، في العموم لم أنتبه لأن الأسرة كان ينقصها هذا الشيء أو ذاك، كما أن فيلا أبلفيكن لم تصدمني بشكل استثنائي. لم تكن لدي الطاقة التي يبدو أن الكثيرين يكتسبونها - حتي في أعوامهم الأولي - لإدراك الحالة الطبقية والمستوي الاقتصادي لبيئة ما بمجرد النظر. كان الكثير من الطلاب قادرون علي فعل ذلك، أما أنا فلا. كانت غريزتي "السياسية" موجهة بكاملها نحو الحرب والنازية. كنت أعتقد أن الشخص إما أن يكون نازيا أو ضد النازية. لم يكن بوسعي فهم ذلك السلوك الفاتر، أو انتهازية "لننتظر ونرَ" والتي كانت ذائعة الانتشار في السويد. ترجمت ذلك إلي أنه تأييد للحلفاء أو نازية خفية، أما حين اكتشفت أن واحدا ممن أحبهم مؤيد للألمان فقد شعرت بضيق مفاجئ في صدري، كأن كل شيء تحطم، وصار من المستحيل أن تقوم بيننا مشاعر مشتركة من جديد. كنت أتوقع من المقربين مني تأييدا لا لبس فيه. ذات مساء، كنا في زيارة للعم إيلوف والعمة أجدا، كانت الأخبار تدفع العم، الكتوم عادةً، للتعليق "الانجليز يتقهقرون بشكل تام..." قال ذلك بأسي هزني ما فيه من نبرة مفارقة (وكانت المفارقة بشكل عام أمرا غريبا بالنسبة لي) وشعرت فجأة بذات الضيق. لم تخضع رواية الحلفاء للتاريخ للمساءلة أبدا. حدقت متجهما في ضوء السقف. كان وجودها هناك نوعا من العزاء. كان لها شكل خوذة إنجليزية من الفولاذ: مثل طبق الشوربة! في أيام الأحد نتناول العشاء عادة عند خالي وخالتي في أنسكيد؛ كانا يمثلان نوعا من الدعم الأسري لأمي بعد الطلاق. كان هناك ما يشبه الطقس؛ أن نُشغل إذاعة البي بي سي السويدية علي الراديو. لن أنسي ما حييت افتتاحية البرنامج: في البداية شارة النصر ثم لحن توقيعي، والذين كان يُزعم أنه معزوفة بروسيل للترومبيت" بينما هو في الحقيقة توزيع مصطنع لمقطوعة جرميا كلارك للهاربسيكورد. أتذكر صوت المذيع الهادئ، ولكنته الخفيفة، يتحدث إليّ مباشرة من عالم أصدقائي الأبطال الذين كانوا يُحكمون سيطرتهم كالعادة حتي لو كانت القنابل تنزل فوقهم كالمطر. حين كنا نركب قطار الضواحي متجهين لإنسكد كنت أطلب من أمي دائما - والتي لا تكره شيئا قدر أن تلفت الانتباه - لفض صحيفة النشرة الدعائية أخبار بريطانيا العظمي وهكذا، نعبر عن موقفنا بشكل صامت. كانت تلبي لي كل طلباتي تقريبا، ومن بينها ذلك. لم ألتق والدي أثناء الحرب إلا نادرا، لكنه ظهر ذات مرة وأخذني لحفل مع أصدقائه الصحفيين. كانت الكئوس علي أهبة الاستعداد، كان ثمة صخب وضحك ودخان سجائر كثيف. تجولت في المكان حيث كان يتم تقديمي والإجابة عما أتلقاه من أسئلة. كان هناك جو من الاسترخاء والتسامح وكان بإمكاني فعل ما أريد. انفردت بنفسي وتمهلت خفية جوار أرفف مكتبة ذلك البيت الغريب. عثرت علي كتاب منشور حديثا يدعي استشهاد بولندا. كتاب تسجيلي. جلست علي الأرض وقرأته من الغلاف للغلاف بينما الصخب يملأ المكان. الكتاب المرعب - والذي لم أره أبدا بعد ذلك - كان يحوي ما أخشاه، أو ربما ما كنت آمل أن أعثر عليه. كان النازيون وحوشا كما تصورت، لا، كانوا أسوأ! كنت أقرأ مندهشا ومضطربا وفي الوقت ذاته شاعرا بنوع من النصر: لقد كنتُ علي صواب! كان كل شيء في الكتاب، كان الدليل هناك. انتظروا فحسب! يوما ما سينكشف ذلك، يوما ستُلقي الحقيقة في وجوهكم يا كل المتشككين. انتظروا فحسب! وهذا ما أتت به الأحداث بعد ذلك. مكتبات تم بناء الميدبورجارهيست (وترجمته الحرفية: بيت المواطنين) حوالي عام 1940. إنه بناء كبير من أربعة طوابق في وسط حي سودر، وهو كذلك مبني مشرق وواعد، حداثي، و"فعال". كان يبعد خمس دقائق فحسب عن مكان سكننا. كان من ضمن ما فيه، حمام سباحة وفرع لمكتبة المدينة. كان قسم الأطفال، بطبيعة الحال، هو الفضاء المخصص لي، وكان به من الكتب علي سبيل البداية ما يكفي استهلاكي. كان أهم هذه الكتب حياة الحيوانات لبرِهم. كنت أنزلق للمكتبة كل يوم تقريبا، غير أن هذه العملية لم تكن خالية من المنغصات تماما. كان يحدث أحيانا أن أحاول استعارة كتب تعتبرها المشرفات علي المكتبة غير ملائمة لسنّي. أحدها كان عمل نوت هولمبو التسجيلي العنيف: الصحراء تحترق. "لمن هذا الكتاب؟" "أنا.." "أوه، كلا.." "أنا.." "يمكنك أن تقول لوالدك أن يأتي ويستعيره بنفسه" كانت المسألة اسوأ عندما حاولت الدخول لقسم الكبار. كنت بحاجة لكتاب كان من الواضح أنه ليس موجودا في قسم الأطفال. تم توقيفي عند المدخل. "كم يبلغ عمرك؟" "أحد عشر" "لا يمكنك استعارة الكتب من هنا، بإمكانك أن تعود بعد عدة سنوات" "لكن الكتاب الذي أريده موجود هنا فقط" "أي كتاب؟" "حيوانات اسكندنافيا: تاريخ هجرتها" وأضفت "ل إيكمان" بنبرة متقعرة، شاعرا أنني خسرت المباراة، وقد كان. لن أسامح هذه المشرفة ما حييت! في الوقت ذاته تدخل عمي قليل الكلام - عمي إيلوف - في الأمر، وأعطاني بطاقته لدخول قسم الكبار وواصلنا تمثيلية أنني أستعير الكتب من أجله، وهكذا، صار بإمكاني الدخول حيث أريد. كان هناك جدار مشترك بين قسم الكبار والمسبح. عند المدخل كان المرء يشعر بالأبخرة القريبة، كانت رائحة الكلور القادمة من جهة نظام التهوية وأصوات الأصداء يمكن سماعها من مسافة قريبة؛ حمامات السباحة بها دائما أصوات مميزة. كان معبد العافية ومعبد الكتب متجاورين، كانت فكرة جيدة. كنت زائرا مخلصا لفرع ميدبورجارهست ومكتبة المدينة سنواتٍ طويلة. كنت أعتبرها أرقي من المكتبة المركزية في سفيفاجن - حيث كان الجو أثقل والهواء راكدا، لا رائحة كلور ولا أصوات ضجة. حتي رائحة الكتب هناك كانت مختلفة، كانت تصيبني بالصداع. بعد السماح لي بدخول المكتبة، كنت أكثر اهتمامي مكرسا للكتب غير الأدبية. تركت الأدب لمصيره، وكذلك رفوف كتب الاقتصاد ومشاكل الاجتماع.. بالرغم من ذلك، كان التاريخ مثيرا لاهتمامي، أما الطب، فقد كان يخيفني. كانت الجغرافيا هي ركني المفضل. كنت مخلصا تماما لرف إفريقيا، المُمتد أمامي. أستعيد عناوين مثل جبل إلجون، صبي السوق في إفريقيا و لوحات للصحراء ... يخطر في بالي تساؤلٌ ما إذا كانت تلك الكتب التي تملأ الرفوف أيامها ما تزال موجودة. كان شخص ما يدعي ألبرت شفايتزر قد كتب كتابا جذابا هو بين الماء والغابة البدائية. كان يدور بالأساس حول تأملاته في الحياة، غير أن شفايتزر نفسه ظل حبيسا في مهمته تلك ولم يتحرك بعدها؛ لم يكن مكتشفا حقيقيا، ليس مثل جوستاف موبيرج علي سبيل المثال والذي غطي بقدميه عددا لا نهائيا من الأميال (لماذا يا تُري؟) في مناطق غامضة ومجهولة مثل النيجر وتشاد، مناطق لم يكن هناك سوي القليل من المعلومات عنها في المكتبة. كانت كينيا وتنجانيقا، بالرغم من ذلك، مُفضلتين لوجود مستعمرات سويدية بهما. السواح الذين أبحروا عبر النيل نحو الجنوب ثم عادوا شمالا ثانية - أولئك الذين دونوا رحلاتهم في كتب، لكن لم يكتب أحد ممن ذهبوا للمناطق القاحلة بالسودان أو كردفان أو دارفور. كانت المستعمرات البرتغالية بأنجولا أو موزمبيق، والتي بدت كبيرة للغاية علي الخريطة، كانت هي أيضا مجهولة ومهمَلة علي رف أفريقيا - وهو ما جعلها أكثر جاذبية. قرأت الكثير من الكتب وقوفا، هناك في المكتبة؛ فلم أكن أريد أن أصطحب للبيت الكثير من الكتب من النوع نفسه، أو الكتاب نفسه أكثر من مرة بشكل متتابع. شعرت أنني سأتعرض لانتقاد أحد العاملين بالمكتبة، وهو ما كان ينبغي تجنبه بأي ثمن. ذات صيف - لا أذكر أيهم بالضبط - عايشت حلم يقظة طويل متكرر ودقيق التفاصيل حول إفريقيا. كان ذلك علي جزيرة رانمارو، التي تبعد مسافة طويلة عن المكتبة. استسلمت للخيال - كنت أقود حملة استكشافية عبر قلب أفريقيا. كنت أخوض في غابات رانمارو وأحافظ قدر استطاعتي علي المسار الذي تخيلته عبر خط منقّط علي خريطة كبيرة لأفريقيا، خريطة كاملة لأفريقيا كنت قد رسمتها. لو قدرت انني مشيت، علي سبيل المثال، 120 كيلومترا خلال أسبوع في رانمارو، أضع علامة بالقلم علي 120 كيلومترا في الخريطة، ولم تكن تلك مسافة كبيرة. في البداية فكرت ان ابدأ رحلتي الاستكشافية من الساحل الشرقي، تقريبا مثلما فعل ستانلي، لكن هذا كان من شأنه أن يترك مسافة كبيرة لأعبرها قبل الوصول للأجزاء المثيرة للاهتمام. غيرت رأيي وتخيلت أنني سافرت إلي بحيرة نيانسا في إفريقيا بالسيارة، وهناك تبدأ المغامرة الاستكشافية فعليا، علي الأقدام. سيكون لدي فرصة معقولة ساعتها حتي أعبر الجزء الأكبر من غابات إيتوري الإفريقية قبل انتهاء الصيف. كنت أتخيلها رحلة تحمل طابع القرن التاسع عشر، بالحمالين وما إلي ذلك، إلا أنني كنت نصف واعٍ، رغم ذلك، أنها كانت طريقة قديمة في السفر؛ عفي عليها الزمن. تغيرت إفريقيا؛ كان هناك حرب دائرة علي أرض الصومال البريطانية؛ كنت أعرف ذلك من نشرة الأخبار. كانت تلك، مؤكدا، هي أول منطقة تمكن الحلفاء من إحراز تقدم فيها - وقد دونت ذلك في دفتر ملاحظاتي بدقة - وكانت إثيوبيا هي أول دولة تم تحريرها من قبضة قوات المحور. حين عاد إلي ذلك الحلم بإفريقيا، لاحقا، بعد عدة سنوات، كان قد تم تحديثها وصارت بلادا واقعية. فكرتُ وقتها أن أصبح عالما في الحشرات؛ أقوم بتجميعها في إفريقيا، وأستكشف الأنواع الجديدة منها بدلا من الصحاري الجديدة.