I لا أتغلغلُ في شجرِ العائلةِ، لا أملكُ شجرةً أمام البيتِ، ولا ذكري بعيدةً في الحكاياتِ. صلبتْني الأماثلُ علي شجرٍ يابسٍ، الولدُ القاحلُ بحبرٍ وكتبٍ، خفتُ من الظّلامِ، من نفسي الفقيرةِ، من الرياحِ في الليلِ الشتويِّ. دخلتُ حديقةَ الخيالِ، صرختُ: من أنا في الرّكامِ الكبيرِ؟! لستُ وحدي، بل وحدي، ووحدي أخالفُ الوصايا، وأمشي ليلاً في رملٍ تحت قمرٍ شاحبٍ بلا سببٍ، لأنني ظننتُ القمرَ رغيفًا من خبزِ أمِّي، كالحنانِ والحبِّ الذي دقَّ البابَ الحديديَّ بحماسةٍ. II لا الابتسامةُ الشاحبةُ في الخريفِ، ولا الأصابعُ الطويلةُ في الطّينِ. بلا رابطٍ سقطتُ من الشجرةِ لفضاءِ النّدمِ. أصطادُ السمكَ من الخلجانِ ببقايا العجينِ والصبرِ، أسيرُ والأحلامُ العريضةُ، ساهمًا في الضجيجِ، أبتسمُ ويظنُّ العابرون بي الظنونَ. مَنْ بالقريةِ لم يحرثْ أرضَ الصمتِ فليرمِهِ بحجرٍ! مَن حملَ التوتَ البريَّ في قميصِهِ الحائلَ ورائحةَ العذاري في الحقولِ؛ كإثمِ التائبِ من دهشةٍ ورهبةٍ. راودتْهُ الأقاصيصُ والكلماتُ، ينسجُ منها في خفاءِ الروحِ ويبكي، كلَّمَا سمعَ جُذِبَ من يمينٍ وشمالٍ، من تحتِهِ ومن فوقِهِ. III أطلُّ من طاقةٍ صغيرةٍ، أطلُّ علي ضيقِ العالمِ، علي سعةِ روحي في المساءِ. تقولُ أمِّي: مَن كان بلا خوفٍ؛ فلن يحيا سليمًا، مَن كان بلا ندمٍ؛ لن يستقيمَ دربُهُ. تأخذُني رائحةُ الجوافةِ في الصُّبحِ الصيفيِّ، أفتِّشُ جسدي الناحلَ عن سلامٍ فلا أجدُهُ، عن هدنةٍ تحتَ الجدارِ الحائلِ والذي يريدُ أنْ ينقضَّ سأمًا. وأدحرجُ كرةَ اللهبِ صوبَ صدري وشجرِ العائلةِ: حكايةُ جدٍّ ذهبَ شبحًا في تخومِ بعيدةٍ، الكرمُ بلا رداعٍ، الوسامةُ، عشقُ الجميلةِ، ماتتْ بعدَهُ بالذكري والوحدةِ الصافيةِ. رمتْني الوحدةُ والخجلُ في الحديقةِ الهائلةِ؛ حديقةُ الشيخِ الذي يجدلُ الكلماتِ، القصصُ والأغنيةُ القويّةُ للرجلِ الأشقرِ، برائحةِ التّبغِ الزاعقةِ في أصابعِهِ المصفرّةِ، بحنانٍ في العيونِ الدامعةِ للطيورِ والصغارِ. IV أيامٌ طويلةٌ في الصخبِ. غريبٌ في قاعِ العالمِ اللزجِ، في السخريةِ الفجَّةِ، وكلمةٍ تزهرُ في حافةِ الأصابعِ، يا لطغيانِ الشجرةِ وتشعُّبُها بالروحِ بلا رادعٍ ولا وساوسَ بيضاءَ ولا صلاحيةٍ. بصصْتُ من ثقبٍ علي الحريقِ، الجسدُ أشعلَ الخرافةَ: الطينَ والماءَ، السماءَ التي تحطُّ بالكفِّ، الحبُّ يشبُّ نبتةً في الإسفلتِ، أقيسُها بشهوتي الصغيرةِ وهواجسي عن جسدِ الأخرياتِ، ثمَّ إنَّ رائحةً منّي تفوحُ بالغرفةِ وفضاءِ الشجرةِ؛ حاصرتني العيونُ تتلصَّصُ علي نحولي وخجلي الأصفرِ والكلماتِ المندفعةِ طبلاً بدائيًا من بين أسناني التي ضربتْها الزلازلُ. خافتْ أمِّي عليَّ؛ ضحكتْ وقالتْ: كم أنتَ جميلٌ ووحيدٌ! أخوتي رَمَوني بالسخريةِ والحنانِ المتواري، أبي حصّنني من الرمدِ بحديقةِ الأحلامِ، الأوهامِ، والدموعِ. V التذكرُ حقلُ كبريتٍ، الماضي يطلّ بوجهِ طفلٍ معطوبٍ، النوستالجيا في صحنِ الدّارِ تسمّمُ الهواءَ الثقيلَ. بعيدٌ في الهجرِ والقطيعةِ، من شمالٍ ويمينٍ تناولوني بأيديهم، أحجاري رميتُ في بئرِهم فما غفروا لي، بِلْتُ علي جدرانِهم وصورهم المعلقةِ؛ فقطعوا لساني وقالوا: مجنونٌ وازدجرْ. استطالتْ أصابعي كأصابعِ العازفِ، رسمتْ بالجدارِ رجلاً طويلاً يقبضُ علي رقبةِ آخرَ جاثٍ علي ركبتِهِ. أمي بكتْ، غسلتْ فمي وعيوني، قبلتْ أصابعي وهمستْ: سِحْ في البلادِ، هناك متسعٌ لكَ أبعدَ من هنا. أوراقي حملتُ ثيابي، خثارةَ الندمِ، وعيونها. ومشيتُ الطريقَ مشيتُ.. ومازال الطريقُ يكبرُ معي.