بتنسيق مصري.. مساعدات عربية وإماراتية مكثّفة تدخل غزة برًا وجوًا رغم أهوال الحرب    وديا.. فياريال يضرب أرسنال بثلاثية استعدادًا للموسم الجديد    أسهم "الإسماعيلية للدواجن" و"سبأ للأدوية" تقود صعود السوق.. وتراجع حاد ل"القاهرة الوطنية"    تحليل إخباري: ذكرى هيروشيما 80 عامًا - نداء متجدد لنزع السلاح النووي    فلسطين تدين استهداف مستوطنين لبعثتي روسيا وهولندا وتدعو لعقوبات رادعة    رئيس الوزراء البريطاني: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر حال استمرار الأزمة الإنسانية بغزة    عقب الصيف.. تطوير عدد من الطرق والشوارع بمرسى مطروح    أمير هشام: عبدالقادر ينتظر قرار مدرب الأهلي    "الحكومة": التجهيزات الداخلية للمتحف الكبير اكتملت.. وحريصون على إخراج حفل يليق بمصر    بالبينك.. بوسي تتألق بأحدث ظهور لها    تفاصيل لقاء نائب رئيس جامعة أسيوط مع القنصل العام للسفارة الهندية بمصر اليوم    الرطوبة ستصل ل 90%.. الأرصاد تكشف مفاجأة عن طقس أغسطس    مصرع سائق لودر أثناء هدم منزل في الفيوم    محمد صلاح يعلن التحدى بصورة مع كأس الدورى الإنجليزى قبل انطلاق الموسم    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. توقعات كليات التجارة علمي وأدبي (الحد الأدنى 2024)    هكذا ينظر الأمريكيون للمقاومة    «خارج بكره من المستشفى».. تطورات الحالة الصحية للفنان محمد صبحي بعد تعرضه لأزمة صحية    "مسرحنا حياة" يفتتح حفل ختام الدورة 18 للمهرجان القومي للمسرح المصري    أسامة كمال: أصبح هناك مط وتطويل في التعامل مع مشكلة غزة مثل المسلسلات    عملية جراحية دقيقة.. فريق طبي بمستشفى قنا الجامعي ينجح في إنقاذ حياة سيدة وجنينها    فحص 1087 متردد في قافلة طبية بقرية الإسماعيلية في المنيا    «بعد إطلاقه النار على قاعدة فورت ستيورات».. السلطات الأمريكية تعتقل منفذ العملية (فيديو)    الضرائب: 12 أغسطس آخر موعد لتقديم التسويات المعدلة لضريبة المرتبات عن 5 سنوات    وزير الخارجية يلتقى رئيس مجلس إدارة الشركات المعنية بتنفيذ مشروع الربط الكهربائى بين مصر واليونان    بمشاركة الحضري.. ورشة عمل مصرية إماراتية لتطوير مدربي المنتخبات    كرة يد - الأهلي يعلن تعاقده مع مودي    استشهاد سليمان العبيد لاعب منتخب فلسطين السابق    لماذا حسم القرآن مدة مكوث أصحاب الكهف ولم يحسم عددهم؟.. خالد الجندي يوضح    فيديو- أمين الفتوى يوضح حكم تجفيف الأعضاء بين غسلات الوضوء.. جائز أم مكروه شرعًا؟    رفعت فياض يكشف الحقيقة الغائبة عن وزير التعليم العالي.. ترشيحات عمداء المعاهد معظمها تحايل وتزوير وبيانات غير حقيقية    متحدث الحكومة: توفير سكن بديل للمتضررين من قانون الإيجارات القديمة    طريقة عمل مكرونة وايت صوص، أحلى وأوفر من الجاهزة    نقابة الأطباء تكشف سبب الاستقالات الجماعية بقسم أمراض النساء بطب طنطا    من محطة القطار إلى ثلاجة الموتى.. قصة شقيقين يعودان في نعش واحد بالبحيرة    3 أبراج تواجه أزمة عاطفية خلال أيام.. احذروا سوء الفهم    محمد هنيدي يُعلق على قرار تركي آل الشيخ باعتماد موسم الرياض على فنانين سعوديين وخليجيين    جيوكيرس يقود تشكيل أرسنال في مواجهة فياريال الإسباني اليوم    منى عبدالوهاب: حظر «تيك توك» ليس الحل وعلينا وضع ضوابط صارمة    البرهان: معركة الكرامة لن تتوقف إلا بالقضاء الكامل على التمرد    وزير الزراعة يتلقى تقريرًا عن مشاركة مصر في البرنامج الدولي لسلامة وأمن الغذاء بسنغافورة    الحكومة ترد على أنباء انحيازها للملاك في قانون الإيجار القديم    حاسوب «أوبتا» يرشّح ليفربول للفوز بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز 2025 - 2026    «خد بتار أبوه بعد 13 سنة».. ضبط شاب بتهمة قتل عمه في قنا    القومي للمرأة يهنئ الدكتورة عزة كامل لفوزها بجائزة التميز للمرأة العربية    ما حكم أداء ركعتين قبل صلاة المغرب؟.. الإفتاء توضح    أقل حجز ب4500 جنيه فى الشهر…عصابة العسكر تقرر تأميم مستشفى العباسية وحرمان المرضى الغلابة من العلاج    أمين الفتوى يعلق على حادث "الأولى على الثانوية".. هل الحسد والعين السبب؟    موعد بداية العام الدراسي الجديد 2026    اجتماع مصري- روسي.. وتوجيهات رئاسية بتسريع نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة    الداخلية تكشف ملابسات فيديو سرقة مسن بالإكراه بالقاهرة    أخبار الطقس في الكويت اليوم الأربعاء 6 أغسطس 2025    ضبط مدير كيان تعليمي وهمي بالقاهرة للنصب على المواطنين بشهادات مزيفة    السيسي: لا نخشى إلا الله.. واللي بيعمل حاجة غلط بيخاف    وكيله: الأزمة المالية للزمالك أثرت على سيف الجزيري    34 شركة خاصة تفتح باب التوظيف برواتب مجزية.. بيان رسمي لوزارة العمل    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأربعاء بالأسواق (موقع رسمي)    "المنبر الثابت".. 60 ندوة علمية بأوقاف سوهاج حول "عناية الإسلام بالمرأة"    اللجنة العامة ببني سويف تستقبل إجراءات الحصر العددي للجان الفرعية -فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفينة الخامسة

تراودني السفن كثيرًا في أحلامي. سفن خشبية تبدو ملونة، كأنها مصنوعة من الورق، أو أشكال من حكايات خرافية في أفلام الرسوم المتحركة، يمكن أن يحدث فيها أي شيء. سفن حادة الشكل، مصنوعة من ألواح خشبية خشنة، الفتحات بين ألواحها الخشبية ملوثة بمادة لاصقة. كل تعرجاتها مغطاة بطبقة زرقاء وبيضاء لامعة. تبدو هشة وغير مستقرة، لكنها لطيفة. أحيانًا تكون بها مقصورة يمكن الاختباء فيها. وأحيانًا تبدو مجرد أصداف خاوية من دون مجاديف أو حبال. أتهادي فوق سطح ماء ثابت لا يتحرك. ماء هادئ وخالٍ من تيارات الهواء. وعندما أستيقظ أجد جسدي مبللًا. أشعر بالإرهاق، ويداي تؤلمانني كأنني كنت أسبح طوال الليل، أو أجدف. أجد شعري متلبدًا، ويحتاج إلي أن أغسله بالشامبو. أستيقظ علي خيبة أمل وانزعاج، أشعر أني أهدرت طاقة كبيرة بلا طائل. نعم، فلم أبلغ أي مَرْسي. حتي تيارات الماء لم أشعر بها، الرياح تدور وهي حبيسة أحد الأحواض البعيدة عن الماء.
أول مرة راودتني فيها السفن كانت منذ قرابة عشرين عامًا في أثناء استراحة قصيرة غفوت فيها، ولم أكن قد استسلمت لنوم حقيقي. لم تترك في ذهني صورة ما، بل انتابني شعور خفيف بالغثيان.
كنت وقتها في البستان، مستلقية وسط الحشائش. سيقانها الجافة في شهر أغسطس توخز في جسمي مخترقة "تي شيرت" خفيفًا كنت أرتديه، وأمارس لعبتي البسيطة؛ أتحمل الوخز إلي أن يحدث أمر تافه ومتوقع، مثل أن تسقط إحدي أوراق الشجر علي مكان ما فوق الأرض، أو يلتصق طرف الظل بأحد الأحجار، أو يغرد عصفور ما. وإن حدث؛ أتحرك وأفرك جسدي، وإلا أظل مستلقية، ساكنة لا أتحرك مثل القنفذ. كنت أنتظر حتي يعلنوا عن قدوم القطار التالي بصوت ضعيف، يتبعه صوت معدن يصقل معدنًا آخر. كنت أبقي مستلقية إلي أن أسمع ذلك الصوت الذي أعرفه. لا أتحرك، ولا أسوي حتي قميصي. أحاول أن أحافظ علي سكوني حتي وأنا أعض علي أسناني من ألم سيقان الحشائش المدببة والحادة مثل الإبر. أظل مستلقية خمس دقائق أخري وأنا أطرح ذراعي عن آخره ليختفي وسط قش الحشائش المتكسر، وأدير كفيّ نحو السماء. أشعر بنملة تزحف فوق راحة يدي؛ فأزيحها قليلًا حتي تنزل عن يدي، ثم أغرق في الزمان والمكان. أري نفسي أتمدد فوق سطح قارب يتهادي فوق سطح الماء ويجعلني أستسلم للنوم.. نوم وسط النوم. لا أري من فتحة عيني المواربتين سوي سماءٍ زرقاء صافية، وأطراف القارب المتلألئة، ومجداف وحيد ملقي علي جانبي. قررت أني حين أنهض سأمسك بالمجدافين بكلتا يدي وأذهب بالقارب إلي أعلي. لكن متي سأنهض؟ وكيف سأعرف أن عليّ أن أنهض؟
بعدها زحف ظل بيت صغير في الحديقة وظلل عيني. عندها أدركت أن أحدهم يقف بجواري، إنه إنسان. أصبت بالارتباك للحظات، لكن الخوف لم يجد إلي نفسي طريقًا. أدرت رأسي، ثم طرفت بعيني، ورفعت بصري إلي أعلي. لم أجد هناك أحدًا. لم أجد سوي شجرة تفاح، وجزء من ظل كوخ في الحديقة. كانت الشجرة تتمايل قليلًا، فتسللت هذه الحركة إلي أحلامي. شجرة متشعبة، كثيفة الأغصان. بدت كل ورقة فيها كأنها ورقتان بظلها المتهدج الذي يسقط علي عيني. علقت حبات التفاح الناضجة فوق الأغصان وكأنها حبات زينة صغيرة، أو أشياء منبوذة، لم تجد لها مكانًا مناسبًا علي سطح الأرض. لكن شجرة التفاح استعادت حقيقتها وخصوبتها بمجرد أن فتحت عيني وفركتها بأطراف أصابعي. ذكرتني ثمار التفاح بأنني لم أتناول أي طعام في ذلك اليوم تقريبًا. اتكأت علي مرفقي، وأغلقت عينيّ للحظات من جديد. كان يمكنني أن أظل هكذا مستلقية نصف ساعة أخري، رغم وخز غصن صغير سري في عظمة كتفي، وربما لساعتين إن أردت، أو كان لدي سبب لأظلّ هكذا، بأن يراهنني أحدهم علي القيام بذلك مقابل رغيف خبز مثلًا أو مشروب كاكاو ساخن. كنت وقتها علي استعداد للقيام بأي شيء. كنت في العشرين من عمري.
اعتدلت، ثم جلست وأنا التفت حولي يمينًا ويسارًا، إلي أعلي وإلي أسفل كي أرخي عضلات رقبتي التي تصلبت. ما زالت إلي اليوم أقوم بهذه الحركة، وبالطريقة نفسها حتي أسمع صوت فرقعة عظمة، إنهم يطلقون عليها اليوم اسم كالانيتيكس.
واطئة، لطخة نحيلة فوق سطح من حشائش خضراء ذابلة. كأنه مكان انتزعوا من فوقه بعد أعوام أحد البراميل، فصار خاويًا، بلا ماء ولا نبات.
ما زلت أتذكر كل حركة قمت بها وقتها. أتذكر أني مررت بكفّي عدة مرات فوق الطين، وضغطت علي كل ما نتأ فوق الأرض، وسويته بأصابعي. أتذكر أني رحت بعدها أتقلب فوق الحشائش، أمعن النظر في ذلك المكان الخواء، كأنني أردت التخلص من شكوكي حول وجوده، وأنه ليس حلمًا راودني وأنا نائمة وسط الحشائش. لكني حلمت بالقارب، وحلمت أيضًا بتلك المقبرة الصغيرة. كلها أشياء محتملة. الإنسان يرقد، ويفكر، ثم يغلبه النعاس، فينام لمدة ساعة، أو ساعتين. ساعتين من الحياة يقضيهما في أحد الأغوار، وتظلان هناك إلي الأبد، محرومتين من أي فرصة في حياة كاملة، علي نحو أفضل. الحلم يجمع بين أشياء تبدو غير مؤتلفة، فيتأملها الإنسان ويسعي إلي أن يجد ما يربطها ببعضها. لوتسيا، أمي اسمها لوتسيا، طلبت مني منذ صغري ألا أناديها بكلمة ماما؛ لأنها تشعر كأنها عجوز خَرِفة كانت كثيرًا ما تنام بهذه الطريقة: عيناها مواربتان، بهما خطان أسودان رطبان، لا تطرف بهما، وأحيانًا كانت تحرك مقلتيها يمينًا ويسارًا كأنهما بندول ساعة. تتحسس بأصابعها مسند المقعد، وتجلس مُنكبّة علي نفسها، وقدماها أسفل جسمها. هكذا كانت تظهر فوق الأريكة البنية القديمة، كأنها خرجت من وسط الوحل كظل لأمي الحقيقية التي ما زالت علي قيد الحياة. ثم تستيقظ فجأة، وتقشعرّ. تصلح من شعرها، وتؤكد أن شيئًا ما قد حدث وهي جالسة دقيقة أو دقيقتين فوق الأريكة، ومستغرقة في التفكير. وهو ما لم يكن يحدث بالطبع. تقول إن أحدهم أخذ خُفّها، وسكب ماء من الغلاية الكهربائية، ثم أشعل التليفزيون، وغيّر الساعة في هاتفها المحمول. كان كثيرًا ما يظهر عليها الإرهاق بعد كل مرة تنام فيها هكذا. كنت أقول لها: كيف تكونين مرهقة وقد نمتِ لمدة ساعتين! لكنها تؤكد أنها لم تنم، فقط كانت تسترخي، وتقرأ الأخبار علي الشاشة. كانت تجيبني علي مهلٍ وهي تتنفس بصعوبة، أو تهمس وهي مسدلة العينين تدعوني أن أصدقها، وتطلب مني أن أصب لها الماء في الغلاية لأصنع لها قهوة سادة قبل أن أخرج.
حفنات من الطين والحجارة محفورة بمجرفة بلاستيكية صغيرة كانت تطوق جثة قِط، وتمنع عنه الديدان والذباب، وتَحُول دون فضولي لرؤيته، وتمنعني من أن أعبث بالعصا في صدره الصغير المفتوح. كان جسده ما زال دافئًا أمام بوابة صغيرة عند مدخل حديقة الجيران، دسوه في حفرة من أثر عجلة سيارة داستها دراجة جارنا النارية بكل ثقلها فقسمته إلي نصفين متساويين، صارا كأنهما قطعتين من النقانق الموصولة بحبل. عَلِقت الأتربة بفروه، وبدت إحدي أقدامه مكسورة بطريقة لافتة. لولا حدقتي عينيه، تلك الكرتان اللامعتان المتدليتان من محجر عينيه لبدا ذلك القط الصغير نمرا أسود جاء من رواية "نمر تراسي"، نمر صغير يرقد كما هي الحال دائمًا علي الطريق، كسولًا، معتدًّا بنفسه، ومستمتعًا بدفء الشمس، يتجاهل نظراتي الفضولية.
لم أتردد كثيرًا. كنت أعرف أن أحدًا لن يهتم برفع تلك البقعة السوداء من الطريق. كنت أعرف أيضًا أني لن أمنع نفسي من أن ألتقط عصًا أو سكينًا أو حتي مقص الحديقة وأعبث في الجثة بفضول حقيقي عما يوجد تحت الفرو، وعن ملمسه، ورائحته. هل له رائحة اللحم في مطعم المدرسة، أو أنه يشبه إصبعًا مبتورًا. كنت أعرف أني أفعل شيئًا لا يليق، ولا يليق أن أفعله هنا في الشارع، من دون رداء أبيض، وأدوات معقمة، وأمل في أن أعيد إليه الحياة.
قمت وأنا في السابعة من عمري مع أصدقائي بدفن أحد العصافير. عثرنا عليه أسفل إحدي الشرفات في الحي. كان كائنًا صغيرًا، وردي اللون. تُغطي جسده بضع ريشات رطبة، له عينان زرقاوان واسعتان. من الصعب أن تصدق أن طائرًا مثله يمكنه أن يحلق في الهواء، وتتابعه بسعادة وهو ينقر في فتات الطعام أمام أحد المتاجر الكبيرة. اخترنا له مكانًا هادئًا وجميلًا. قمنا بعمل حفرة علي عمق ثلاثة أصابع، وصنعنا له شاهد قبر صغيرا من ريشتين وحجر، نعم، حجر وصليب، تمامًا كما يجب، وكما يليق عند موت أي إنسان. أقمنا له أيضًا حفل تأبين حقيقيًا. فارتدينا ملابس رياضية داكنة اللون، وأحضرنا زهورًا وشموعًا صغيرة تناسب قبر العصفور الصغير، وقمنا بتلاوة الصلوات ونحن نحبس أنفاسنا، ونتلعثم في كل كلمة. ومن لم يعرف نص الصلوات كان يردد آخر مقطع منها. شعر كل منا بشكل خفيف برائحة الموت، فقط للحظة قصيرة، عندما أدركنا حتميته. لم نستطع وقتها أن ندرك أكثر من ذلك. إضافة إلي الخوف، والرعب الرهيب من الموت والتوقف عن الحركة؛ انتبهنا إلي أننا ما زلنا صغارًا، ضعيفي البنية والمقاومة، ويمكن أن نصطدم في أي وقت بسور السلم، وتنتهي بنا الحال فوق الرصيف أسفل العمارة وأقدامنا مكسورة. استمر ذلك الوضع للحظات ونحن نفكر في الموت وفي الطيور. بعد ذلك بأسبوع انشغلنا بأمر آخر ونسينا حكاية الطائر.
بعدها بأربعة أو خمسة أعوام رأيت قِطًا ميتًا أمام بوابة حديقة بيتنا الريفيّ. كنت ساعتها وحدي. من دون تعليق قد ينم عن ارتيابي، ومن دون وهم الإيمان بالملاك الحارس، ومن دون حزن حقيقي علي القط الصغير الذي لم يسمح لي يومًا أن أضع يدي عليه، وخوفًا من طبيعتي الفضولية رحت أتفحصه عن قرب. وبعد لحظات من التردد لمسته بإصبعي. كان ما زال دافئًا، وطريًا مثل غطاء السرير المطروح. بدا أقبح قليلًا من غيره من القطط وهي نائمة. لم أشعر نحوه بالأسف، ولم أشعر بشيء غير عادي. فهو لم يكن صديقًا لي، كان مجرد متسول، يظهر عندما يكون في يدي طعام، لم يظهر أي امتنان علي إطعامي له. حاولت أن أستدعي ولو دمعة واحدة، لكني لم أنجح. حاولت أيضًا أن أتجاهل النظر إليه، لكني لم أستطع.
عدت إلي الحديقة، وأخذت مقشة من وراء الباب، ثم بدأت أنظف غرفتي كي أشغل نفسي بشيء آخر غير القط. حملت كومة القمامة علي صفحات جريدة قديمة، وتوجهت نحو البيت-كنت غالبًا أرش القمامة فوق الحشائش الموجودة أمام بيتنا الريفي مباشرة - من دون أن ألقي ولو نظرة سريعة علي البقعة السوداء الموجودة علي الطريق. بعدها رحت أنفض أغطية السرير والوسائد. تخيلت أن أحدهم يناديني من خلف شجيرات سور الحديقة؛ فألقيت الوسائد علي الحشائش وأسرعت خارج البوابة، فلم أجد أحدًا. لم أجد سوي تلك البقعة التي تضيء مثل ممحاة فوق سبورة المدرسة، ثقب أسود يجذب أنظار الفتيات الفضوليات. أمسكت الجاروف حتي تمكنت من نزع الجثة عن الأرض بعد ثلاث أو أربع محاولات. حملته في الجاروف وقفت أمام البوابة أفكر في أن ألقي به في حديقة جارنا عبر السور. وفي النهاية قررت أن أُودّعه بطريقة لائقة.
كانت جنازة العصفور طقسًا سريًا، وهادئًا، وباردًا أيضًا. كانت بمثابة تأكيد لصداقتنا، وللخوف الذي جمعنا. لم يكن الأمر يتعلق بالطائر، بل بنا نحن أطفال الحي الذين أحسوا بأنهم كبار ذوو أهمية طالما أصبح لديهم سر مشترك، وطالما كان هذا السر مرتبطا بالموت. فعل كل واحد منا شيئًا ما من أجل ذلك الطائر من دون أن ينبث بكلمة، أو ينشب أي شجار نتيجة التعليق علي عمل الآخرين. لم يتبرم أحد، أو ينطق بكلمة سوقية. كان الجميع علي قناعة بأن العمل الذي هبط عليهم من السماء عمل شديد الأهمية.
كان دفن القط عملًا عاديًا كغيره من الأعمال القذرة المرهقة. استخدمت فيه أداة كبيرة وثقيلة علي يدي الضعيفة. فقدت الكثير من قوتي ومن حرصي وأنا أدور حول البيت وحول أشجار التفاح. أجوب أرجاء الحديقة المهملة، حتي إن الجثة الصغيرة سقطت علي الأرض رغمًا عني فرأيت جانبها الآخر الذي كان في حالة سيئة. احترت أين أدفنها. ثم أخذت حجرًا أبيض كبيرًا من وسط كومة من الحصي ملقاة في أحد جوانب البيت ما زلت أحتفظ به في فجوة في الحائط أعلي السرير، وبجوار جمجمة القط البيضاء ثمة قطعتان متشابهتان منه ثم شددت ساقي وفردتهما، وقذفت الحجر خلف ظهري، فصنعت حفرة في المكان الذي سقط فيه الحجر. أخذت جاروفًا بلاستيكيًا صغيرًا يشبه ذلك الذي يلعب به الأطفال في الرمل. وضعت القط الصغير المتهالك في الجاروف الكبير مرة أخري، ثم أدخلته إلي الحفرة بعناية كأنني أضع عجينًا في وعاء الطهي. فركت الجاروف بالحشائش جيدًا، ثم أعدته إلي مكانه ثانية. أغلقت الحفرة وسويتها، ثم وضعت فوقها كتلة الحشائش التي كنت قد انتزعتها من عليها من قبل. ثم دستها بقدمي حتي لا تبرز فوق الأرض، ورغم ذلك بدت غريبة. في النهاية اجتززت النبتة التي تكسرت، وألقيت بها في حديقة جيراننا عبر السور، مُعتَمدة علي انتشار الحشرات الضارة عندهم. كنت واثقة أنه بعد عدة أسابيع وربما قبل ذلك ستنمو الحشائش بالتأكيد فوق تلك النقطة البيضاء البور، وسيختفي أثر المقبرة إلي الأبد.
لم يبحث أحد عن القط يومًا ما، ولا حتي ذلك الرجل الذي داسه بدراجته النارية وهو نائم، ولا حتي الجيران. هؤلاء كانوا لا يأتون إلي الحدائق البعيدة عن المدينة إلا لجمع بعض الثمار. حتي أنا لم أفكر فيه. فلم يكن قطًا مميزًا في شيء. فالكثير منه يتسكع في المنطقة، وما أن يختفي أحدهم حتي يظهر بعدها بيومين قط غيره. كنت واثقة بأنه آجلًا أو عاجلًا ستزحف إلي هنا قطط أخري، لتلاطفني، وتدور حولي، وتتمرغ بين قدمي. يكفي أن أترك أمام البيت علبة ملوثة ببقايا الزبادي، أو عظمة أو قطعة خبز. القطط مثل ذبابة العنب التي تتوالد لحظة سقوط أول قطرة في قاع الكأس. سوف تدق الباب بمخالبها وتموء. وما أن تحصل علي بعض الطعام تنصرف، وتختفي لتبحث عن حفرة في الجدار، أو تنسل أسفل بوابة البيت، أو تسير بكل هدوء وهي ترفع ذيلها في الهواء استهزاء بهُريرَة سمحت لها بأن تشاركها طعامها رأفة بها. قطة صغيرة كانت من الجبن والبطء ما منعها من أن تنال بعض حنان ودفء القط الأكبر.
كنت دائمًا أحكم إغلاق باب الكوخ قبل أن أغادر المكان، وكذلك بوابة الحديقة العالقة بين أوراق شجيرات السور المتوحشة. انخفضت درجة الحرارة فجأة بمجرد أن توارت الشمس خلف السحب المترامية. ارتديت سترة طويلة الذراعين، وأخرجت من جيوبي بأصابع مرتعشة فتات الخبز، وألقيتها وسط آثار المارة. عند سقوط الأمطار كانت تلك الأخاديد تزداد عمقًا، وتزيل عنها مياه المطر الأحجار والرمال. توقفت للحظات في المكان الذي أنهي فيه القط حياته بطريقة بائسة، ورحت بشكل عفوي أحفر بحذائي في المكان الذي علقت به بضع شعيرات سوداء، فانهارت حبات رمل صغيرة داخل الحفرة. لم أشعر بشيء غير عادي، لم أشعر باشمئزاز أو بحزن. وتملكني الملل والجوع.
أردت أن أحكي لأحدهم عن ذلك القط الأسود. كان الحادث يسيطر علي عقلي. تمامًا مثلما تعلق يد أحدهم بين أبواب الحافلة وأنت تعرف أن ما حدث أمر عاديّ وأن الحياة مستمرة. كل ما حدث مجرد ألم بسيط في يده. يرتبك السائق، ثم يعاود النظر في المرآة العاكسة. تعود بعدها إلي البيت، وتقابل جارك فوق السلم؛ فتحكي له عن الحادثة. فتصيبه بالارتباك؛ لأنها المرة الأولي التي تخاطبه فيها، وهو لا يعرف ماذا تريد منه. لكنك تشعر بالارتياح، فتودعه، ثم تغلق الباب خلفك وتنسي كل ما حدث.
مددت يدي إلي الخلف، فلمست دائرة من أرض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.