كلما مررت علي بيت أو موقع سراي أقام فيها أحد عظماء مصر .. تذكرت أو تحسرت ! .. فبيوت الأدباء والمفكرين والعلماء والساسة والفنانين : تضيع معالمها وتندثر من ذاكرة الوطن ، فلا يبقي منها غير سطور في كتاب أو مقال ! .. وأتذكر أيضاً أستاذي الكاتب المفكر والساخر العظيم " كامل زهيري " عندما قال لي إنهم في باريس يحافظون علي ذاكرة المدينة ، فلا تمر في شارع أو حتي في زقاق ، إلا وجدت لافتة رخامية كتب عليها : في هذا البيت كان يعيش عالم جليل أو أديب أو فنان .. وحتي لو أزيل البيت وأقيم غيره في نفس المكان كتبوا : في مكان هذا البيت ، كان بيتا قديما عاش فيه هذا العالم أو الأديب أو الفنان ! .. وبينما باريس تتذكر ، فالقاهرة تنسي وتشغلها مشكلاتها .. أضف إليها التردي الثقافي وانحدار الذوق العام ومواجهة إرهاب المتاجرين بالدين والوطن !! فتحي رضوان " .. وبركة أم هاشم ! يجتمع لمفكر مناضل مثلما اجتمع ل " فتحي رضوان " المحامي والسياسي والكاتب والأديب الفنان والمؤلف المسرحي والخطيب البارع والمعتقل والوزير ! .. اعتقل فتحي رضوان تسع مرات في عصر مصر الملكية ، ومرة واحدة وأخيرة في عهد السادات حملة اعتقالات سبتمبر 1981 كان اعتقاله الأخير عقب حريق القاهرة في يناير 1952 بداية لسقوط النظام الملكي ، واعتقاله ضمن الآلاف من النخبة السياسية الوطنية في سبتمبر 1981 بداية لسقوط السادات ونظامه ! كان فتحي رضوان " معارضاً أبدياً " من طراز نادر ، وظل عبر عهود وأجيال نموذجاً راقياً للثبات علي المبدأ .. الوطنية عنده كانت صافية خالصة ، ولد في بوتقة السياسة ، ولكن هوي قلبه مع الأدب والفن ، تعددت مواهبه .. إحداها كان كافياً لنبوغ أي إنسان ، ومع نبوغه في عالم الفكر ، وعالم الأدب والفن ، والنضال الوطني : كان متمسكاً بالمثل العليا ، نور لواء " مصطفي كامل " وضع كل زعيم غيره في الظل .. حتي سعد زغلول ! ولم يجتمع لمفكر مثل هذا التوافق السلس بين الاسلام والقومية ، تشربت روحه بأصول الاسلام النقية ، وسيرة أبطاله ، وأدرك رسالته الانسانية التحررية السمحة ، ومزج كل ذلك بحقوق الناس في العدل والحرية ، وعاش الكفاح الوطني ضد الاحتلال والتبعية والظلم والاستبداد ، واستخلص الدرس الأول : أن من يتهاون في حقوق الوطن ، لابد أن يستبد بحقوق المواطن ! كل الوزراء في تاريخ مصر أتوا من منازلهم ، أما هو فقد جاء من " معتقل الهاكستب " عقب ثورة يوليو 1952 وزيراً للإرشاد القومي ، وهو الذي خطط وأشرف علي مشروع " مبني الاذاعة والتليفزيون" الحالي ، وقام الرئيس الراحل محمد نجيب بوضع حجر الأساس للمشروع ، ولأنه كان محباً للأدب والفن .. فقد كتب القصة والمسرحية والتراجم والسيرة الذاتية ، كان صاحب فكرة إنشاء " مصلحة الفنون " وكلف الأديب الفنان " يحيي حقي " برئاستها ، وكم من مواهب فنية خرجت من عباءة هذه المصلحة ! .. ودعم المجلات الثقافية وحركة الترجمة والأفلام التسجيلية وفي عهده ، وللمرة الأولي ، احتضنت الدولة رسمياً فنون السيرك ومسرح العرائس والفنون الشعبية .. روي فتحي رضوان ذكرياته في " الخليج العاشق " واختص " شارع سلامه " بحي السيدة زينب بكثير من التفاصيل ، وبكثير من الحب ، فهو الشارع الذي عاش فيه طفولته وصباه ، وينسب الشارع الي الأمير المهندس " سلامه باشا " مدير ديوان الاشغال العمومية وتساءل فتحي رضوان : " أيكون سحر السيدة زينب وسرها الباتع هو الذي قرر أن لا يتصل بحيها مكان أو إنسان ، إلا ارتفع شأنه وعلا مقامه " ؟ ! ..وللدلالة علي ذلك ، يسرد أسماء عدد من أعلام الأدب والشعر والصحافة والساسة والمقرئين .. الذين نشأوا أو أقاموا في هذا الحي العريق .. تحققت بركة الست الطاهرة .. أم هاشم وأم العواجز ,, فأصبح أشهر أحياء القاهرة ، وأعظمها فضلاً ويداً علي مصر .. حي الأغنياء الذين لا يعرفون كيف ينفقون ثرواتهم ، وحتي الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم ! ووصف فتحي رضوان شارع سلامه ، فكتب : " هو الشريان الذي تدفقت منه الحياة لأيامي في هذا الحي ، فهو الشارع الذي كان فيه بيتي ، وهو الذي شهد عدوي وركضي وصراخي وشجاري ولعبي ولهوي ، وقد عرفت زملائي فيه وعلي جوانبه ، ثم أخذت حياتي تتفرع منه الي شوارع أخري في الحي ، ثم الي دروب وعطوف وحوار وأحواش ، حتي أصبح هذا الحي امتداداً لوجودي " .. ولد فتحي رضوان في المنيا ، وانتقل مع أسرته الي شقة ب " عمارة الحكيم " أمام كازينو " الحمام " الشهير علي نيل الجيزة ، ثم انتقلت الأسرة الي حي السيدة زينب حيث استأجرت شقة في بيت الفنانة اليهودية " ميليا ديان " نجمة فرقة سلامة حجازي المسرحية ، والتي كانت تأتي في أول كل شهر في عربة حنطور وزفة لتحصيل الايجارات ، بين نظرات الإعجاب من أهل الحي والشارع ، وكان البيت قائماً في " شارع سلامه " علي بعد خطوات من شارع زين العابدين ، وكانت البيوت تصطف علي جانبيه في امتداده المستقيم الفسيح نسبياً أيام مصلحة التنظيم ! ليس بينها تفاوت كبير وليس فيها الرفيع الذي يتعالي بثرائه علي ما حوله ، وتعيش فيها عائلات كبيرة من الطبقة المتوسطة ، وكان فيهم القاضي والمهندس والتاجر وصاحب الأملاك .. تجمعهم ألفة المكان وسمات ناس مصر في ذلك الزمان ! عرض فتحي رضوان لصور من الحياة في شارع سلامه ، هي ذكريات لمواقف وأحداث عاصرها ، وشخصيات عايشها ، سجلها بأسلوبه السهل الجميل فتحولت الي متعة فنية .. صور ومشاهد من عالم الكبار : الرجال في الجبة والقفطان أو الجلباب البلدي ، أو في البدلة والطربوش وقد يحمل عصا أو منشة ! .. السيدات بالحبرة واليشمك .. وصور أخري ووقائع من عالم الصغار : لعبة عسكر وحرامية ، معارك الصبية .. ثم حرصهم علي شهود الزار و " الستات اللي راكبها عفاريت " ! .. أفراح زفاف بنات العائلات الكبيرة والتي " تبعث في الحي كله بهجة وسروراً " .. ومشاهد كانت تمر بشارع سلامه علي مدار السنة ، فيها لمحات من فنون أهل القاهرة عامة .. موكب وفاء النيل وجبر الخليج .. " صينية عاشورة " جولات المسحراتي في ليالي رمضان ، النقرزان ، زفة المطاهر .. " الشحاتة من أجل مولود يلتمس له أهله الحياة " باعة الدندرمة والقصب وحب العزيز والنجور ونداءاتهم الشجية الجميلة .. "صندوق الدنيا " وعالمه الساحر .. غواية الغجرية ونداءها العجيب المتوارث " نبين زين ونخط بالودع" تستطلع المستقبل للبنات والنساء والرجال أيضاً ، وتجري عمليات الختان للبنات ! .. ثم مشهد تاريخي يفيض بالنور " ليلة أن دخلت مصلحة التنظيم فوانيس غاز الاستصباح الي الشارع ، نور أبيض ساطع لم نر مثله من قبل " .. وسهر أهل الشارع جميعهم في هذه الليلة تحت الفانوس حتي الصباح ! ويحدثنا فتحي رضوان عن إمتداد حي السيدة زينب ليشمل أحياء الانشا والمنيرة المبتديان ، حيث تجاوزت بيوت الباشوات وكبار رجال الدولة ، وارتفعت معالم كان لها دور بارز في نهضة مصر الحديثة فقد انتقلت " دار العلوم " التي أسسها علي باشا مبارك بدرب الجماميز سنة 1871 الي ناحية شارعي : محمد بك عز العرب والشيخ علي يوسف بالمنيرة ثم انتقلت في التسعينيات الي داخل جامعة القاهرة ، وقد أخرجت دار العلوم تخبة من العلماء والقضاه والفقهاء والأدباء عندما كانت تابعة للأزهر الشريف ، وبالقرب من ميدان السيدة زينب .. بيت " ابراهيم السناري " الذي كان مقراً للعالم الفرنسي " مونج " رئيس المجمع العلمي المصري في زمن الحملة الفرنسية ، وبجواره " المدرسة السنية " واحدة من أقدم مدارس البنات في الشرق والتي أخرجت رائدات مصريات في شتي المجالات ، ونافست مدرسة محمد علي الابتدائية ومدرسة الخديوية العتيدة . كما ضم الحي عدداً من دور الصحف والطباعة والنشر ، دار الهلال ، جريدة السياسة ، دار المقتطف والمقطم ، دار البلاغ ، الكشكول ، اللطائف المصورة ، الجهاد ، الصباح ، أبو الهول والمجلة الجديدة .. وبالقرب من ميدان " لاظوغلي " أسس مصطفي كامل باشا " دار اللواء " .. وبالقرب منها بيت الزعيم سعد زغلول باشا " بيت الأمة " الذي اتخذه المصريون مركزاً لثورة 1919 وفي شارع خيرت أقام أحمد عرابي باشا عقب عودته من المنفي وانتسب الي هذا الحي العتيد عدد من المفكرين والأدباء والصحفيين : مصطفي لطفي المنفلوطي ، الشيخ عبد العزيز البشري ، محمد السباعي ، أحمد رامي ، د. محجوب ثابت ، حافظ محمود ، يوسف حلمي ، أحمد حسين ، كامل الشناوي ، علي الجارم ، ابراهيم المازني ، يحيي حقي ، وأقام فيه فنان الشعب بيرم التونسي بعد عودته أو هروبه من سفينة المنفي عام 1937 وحتي رحيله ، كما انتسب إليه إثنان من أعظم وأشهر قراء القرآن الكريم : الشيخ أحمد ندا والشيخ محمد رفعت ثم انتقل فتحي رضوان مع أسرته الي منزل تميزه " المشربيات " يطل علي شارع الخليج المصري الذي يسير به خط ترام " السيدة العتبة " وللترام أعظم الأدوار في حياة الصبي وأهل القاهرة عموماً في ذلك العصر ، الي أن هدم هذا البيت الكبير وشيدت في موقعه " سينما الأهلي " الشهيرة والتي هدمت أيضاً في عصر الأبراج الأسمنتية " وفيه كل شئ قابل للبيع " ! .. ثم انتقلت الاسرة الي عمارة علي الطراز الحديث ( خمسة طوابق وعشر شقق للعائلات فقط ) يملكها " الحاج طه " زعيم الحلاقين و " حلاق الزعيم " سعد زغلول ! .. كانت هذه العمارة الفريدة بشارع السيدة زينب الذي يبدأ من شارع الخليج المصري وينتهي عند أول شارع السد البراني ، يفصلها بيت عن بيت " حافظ محمود " رئيس تحرير السياسة ونقيب الصحفيين فيما بعد ، وفيه أسس مع شباب الحي " جمعية القلم " ! حي سعيد .. وأيام حافلة بالذكريات والأحداث الوطنية وبشخصيات مصرية عظيمة كان منهم " فتحي رضوان " !