أخجل من الاعتراف أني تأخرت في قراءة الشاعر المصري فتحي عبد السميع ، وحزنت لتأخر تلك القراءة . عوضت ذلك بأن قرأت كل أعماله الشعرية دفعة واحدة وإن لم أقرأ بعد " القربان البديل : طقوس المصالحات الثأرية في جنوب مصر " الذي صدر عن المصرية اللبنانية مؤخراً. شاهدت الشاعر الوزّان وتحولات التفعيلة بتململاتها إلي قصيدة نثر كما في " خازنة الماء " التي حملت " فقرات " توضح أن صاحب هذه الروح لديه ما هو أعمق وأكثر براحاً من الحرص علي استمرار الالتزام باتساق لفظي أو صوتي مع مفاهيم وتوقعات جمالية ثابتة مسبقة . لذا في جديده " الموتي يقفزون من النافذة " تظهر نفائس خيالية وتعبيرية وبالأخص في قصائد " منديل ورقي " ، " مكابر يبكي بشكل مختلف " و " كأي ميت " أو في قصيدة " تمثال رملي " في الديوان الذي بنفس الاسم . عبد السميع لا يريد أن يُبهِظ نصه بتحميله فوق طاقة تصوره ذ المتطور ذ عن الجمال. العامية التي يورد مفرداتها في بعض قصائده تشي بوظائف متعددة . تحقق العامية دوما " ليونة " وحميمية ما قد تغيب عن مفردات الفصحي و " رسميتها " لكن ثمة وظيفة أخري لها في بعض نصوصه تتقصي متطلبات جمالية أكثر وربما كانت رمزية وأوقاتا خجولة متقشفة مثله. مفردتا " جردل ومقشة " بديلاً عن " دلو ومكنسة " بتكرار منتظم في إحدي القصائد لهما هذا الدور إذ تلعبان في سياق ترميزي ساخر . ولعل هذا الجنوبي لا يستخدم ما يستخدمه غيره من عامية حتي حين يريد التعبير الوصفي المباشر مما أوحي لي بعدم التهيب من اللغة وبحساسية عالية تجاهها . أيضاً من أقوي خصائص شعريته حضور البيئة الصعيدية بمكوناتها ومفرداتها فمن يكتب لي أنا المصرية مثله عن لدغة العقرب في البيت لأخ رضيع ، عن الأم التي تقوم ب " تفلية " أي تنظيف شعرها غير عبد السميع ؟ لكن المهم هنا أنه يجعلني أعيد تقييم مشاعر تخصني في علاقتي بهويتي . مكوناتها تتلاقي مع بعض مكوناته وتفترق عنها في أخري. ثمة قصائد قد تشعرك أنك سائح وأخري تدفعك للبكاء . صورة الذات الشاعرة عن نفسها مهمة هنا فهي ذات تدرك أن نظرة الآخرين لها تري طيبتها وقدرتها علي التعاطف والتماهي مع آلامه بوصفها ضعفاً . لهذا تري الطيبة وقد أصبحت شيئاً نشعر بالحنين إليه مما يفجر بداخلها حالتين : السخرية العميقة ومخزونات العنف تجاه الآخر كما في عدد من القصائد . إن الاعتراف بالضعف قد يعني الرغبة في كشف كل شيء تظهر كبادرة لفعل عطاء هائل ممزوجة بذكريات لا تكف عن الإيلام . كتابته ليست إكزوتيكية والصعيد عنده يعكس ثقافة عميقة التلبس والسيطرة علي وجدانه ،حيث مفردات اليومي مُحمّلة بغرائبية تحيل دوالها علي نفسها بجغرافيا الصعيد ، بتاريخه ، بالمفاهيم والطقوس الرازحة تحت بؤس مختلف عما هو مديني وبالأحري حداثي . ثمة " سر " في صعيده يختلف عن " الصعيد المُشعرَن " لدي غيره والنهر في شعريته يحضر علي نحو شبه مؤسطر كما في الثقافة الشعبية. قال لي في مؤتمر " قصيدة النثر المصرية " الماضي " أنا باكتب عن الحاجات اللي أعرفها " ، وذكرتني قصيدته " عتمة صغيرة" بقصيدة عميقة التعاطف مع الثعبان ل " دي . إتش . لورانس " حملت عنوان " Snake" ..طبعا أحب اجترائه علي الفكرة السخيفة " البائتة " التي تقول بموت المقولات والقضايا الكبري في قصيدة النثر. أي موت والقضايا تبدأ وتنتهي بموت الإنسان ؟ يطول الوصف أوقاتاً لدي عبد السميع بما يأخذ القصيدة في منطقة " القصيدة-القصة" . عنده أحببتها. يكتب عن الآخرين كثيرا و عن نفسه ، يكتب عن لقطات ترتع فيها القسوة الاجتماعية مما يفتح مساراً " فلسفياً " لشعره. في " الإبريق و رنة الخلخال " و " ولد علي ظهر عقرب " يفتح الشاعر عيوننا وأرواحنا بقوة .. نشهق. أي زهو للفنان حين يجعلنا ذ باستمتاع - نشهق!