توقفت لفترة أمام اسم هذه الرواية "نهايات سعيدة مشفوعة بسيرة الحارس الليلي للأوتيل" للكاتب "رجائي موسي" (دار كلمة 2014)، فالعنوان يستعيد تقاليد عناوين الأعمال الأدبية العربية الكلاسيكية، كما أنه يكاد يكون مقسما إلي شطرين.. حتي في طريقة تصميم الغلاف؛ فالشطر الأول منه "نهايات سعيدة" مكتوب بطريقة وخط مختلف عن الشطر الثاني "سيرة الحارس الليلي للأوتيل". استغرقني التساؤل عن العنوان لفترة إلي أن أكملت قراءة العمل.. وأظنني اعتبرته واحدا من مفاتيح ومستغلقات النص في آن واحد، لذلك ساعدني كثيرا الوصول لقراءة له في التوصل لطريقة للتعامل مع النص.
الرواية (132 صفحة) مقسمة إلي قسمين؛ الأول هو"سيرة الحارس الليلي للأوتيل" ويحكي قصة "اسماعيل" الذي تفانت أمه في تربيته عله يكبر ويكون شبيها بأبيه فينفي بشبهه هذا الاتهامات الموجهة لها في شرفها، وما أن يطرق اسماعيل أبواب الشباب حتي يقر أهل القرية التي نعرف أنها في الصعيد ولكن لا نعرف لها اسما محددا- بانتسابه إلي أبيه المتوفي، وعندما تحصل الأم علي هذا الإقرار "شبه المرحوم تمام" تتزوج مجددا، فيهرب إسماعيل إلي الشمال. القاهرة أحد أبطال هذا العمل، لكنها بطل شرير، نهرها قاسٍ يمتلئ بالجثث وشرطيها سادي يتلذذ بإخافة الأغراب، مدينتنا يحتل البول والروث أركانها لكن فقراءها طيبون. يجد البطل التائه من يتبناه.. إنه "إبراهيم".. ويقول الناس "ظهر ولد لإبراهيم".. يعمل إسماعيل مع "أبوه" الجديد، وعندما يموت الأب يبني له إسماعيل ضريحا ويحج الناس له بعدها في وقت معلوم كل عام. لا يحكي رجائي قصة النبي إبراهيم وولده لكن الإسقاط في الرواية علي القصة الدينية واضح، فكما قاد إبراهيم النبي ولده إسماعيل إلي حياة جديدة في مكة بحسب القصة القرآنية وجعله رأسا لشعب جديد، يقود إبراهيم "الرواية" إسماعيلها إلي حياة جديدة ويتركه رأسا من رءوس طائفة "العربجية" وحارسا لمركزها الديني الجديد "مقام (الحاج) إبراهيم". لا يقتصر تأثر العمل بالتراث علي تقاطعه مع القصص القرآني/التوراتي ولكنه يمتاح كثيرا من الموروث اللغوي (كنت ملكا مجوسيا، وكنت شامانيا)، والديني أيضا؛ فكما نقرأ أدعية إسلامية نري الرواي يقول إن "يد الله كانت حاضرة" معه في استدعاء للموروث الديني المسيحي. بل إن الكاتب يستدعي نصا كاملا من كتاب تراثي (الروض العاطر في نزهة الخاطر) علي مدي الصفحات (30، 31، 32) مستخدما إياه كقصة داخل قصة.
في الرواية يحمل كل الأبطال اسما فرديا، فيبدون كما لو أنهم لا آباء لهم، وكأن الكاتب يرفض أن ينسبوا لأحد سواه، ولكن هذه الطريقة تليق بأسلوب العمل الذي يقترب بشدة من "الواقعية السحرية"، التي تتبادل السيطرة علي كتابة رجائي موسي مع أسلوب الوعي. فالرواية تتميز بحكايات متداخلة مثل شجرة موز استوائية لا تمثل إحداها قشرة خارجية لقصة رئيسية ما بل هي حكايات متكاملة ومتداخلة ومنفصلة في آن واحد. كما أن الخيال المحلق يتداخل بشدة مع الواقع الإطاري للعمل، فالراوي (الحارس الليلي للأوتيل) يبحث في النهر عن جثة طفل يرغب في أن يدفعها في رحم زوجته عله يتحول إلي جنين حي؛ والأب (الجديد) للراوي له دوران في العمل فاسماعيل سيتزوج ابنته "الحبشية"، ليكون لإبراهيم بعدها وجهان؛ وجه الأب ووجه الحمو. ويظهر لنا لاحقا راوٍ آخر، إنه كاتب مفترض لسيرة "اسماعيل" التي تروي في العمل، وفي الحقيقة هو يظهر ويختفي خفيفا بدون أثر في النص كما يقول عن نفسه "أنا العابر حول إسماعيل ومدون سيرته. كنت كإله شديد الحرص علي نظافتي وبقائي طاهرا، وبلا أي غبار أو رائحة". لكن هذا الراوي المفترض لم يكن خفيفا كخفة الغبار بل أظنه أثقل النص بصفحات تعوق تطور السرد ولا تضيف له. يختتم القسم الأول من العمل من النهر كما بدأ منه، فصرخات القتلي التي كانت تصدر من النهر تكشف عن "غابة جماجم كاملة" مع انحسار النيل بشكل لم يسبق له مثيل، وعندما "راحت السلطة تبحث عمن يحمل هذه الآثام العظيمة" قررت تحميلها للعربجية "بعد أن قيل لهم (للشرطة) إن العربجية هم الذين يأتون إلي هذه المنطقة ومعهم ركام البيوت"، توجهت الشرطة إلي بيت اسماعيل بوصفه من رؤوس الطائفة المتهمة، ولكن البيت تشتعل فيه النار فجأة وبقوة حتي لا تترك له أي أثر. يختفي البيت والحبشية، ولكن يظل الحارس الليلي للأوتيل يحلم بطفل منها، وهكذا يختتم القسم الأول من الرواية بجثث وحرائق تكاد ترسم نهاية غير سعيدة ل"سيرة الحارس الليلي للأوتيل".
ينطلق بنا العمل في قسمه الثاني "نهايات سعيدة" عبر طرق تجريبية تسعي لملامسة آفاق سردية جديدة، فالصفحات الأولي من القسم تستمد روحها من أنفاس قصيدة النثر أكثر من السرد القصصي، نقرأ فيها "أنا البعيد جئت أطالب بدمي المهدر منذ أن حزمت أمتعتك وغادرت قيلولتي المطمئنة علي سطح دارك"، ونقرأ بعد صفحات "أنا الحدث الذي سيأتي ويعلن أن الساعة اقتربت. أنا الكارثة المحققة التي تكنس كل أوساخ الأرض. أنا المسيح والشيطان، أنا العذراء والمومس، أنا يهوذا ويوحنا، أنا القبلة والشوكة". يبدأ القسم الثاني بمنولوج طويل للراوي عن جدته المتوفاة، لنكتشف أننا هنا لسنا بصدد إسماعيل، وليس صديقه القاهري، إنه بطل آخر من صعيد مصر، من المنيا تحديدا ذمسقط رأس إسماعيل- لكنه شخص آخر من عائلة قبطية "مرتاحة"، يروي حكاية كل شاب متعلم قبطي ينشأ في قري مصر التي تحكمها الطائفية والخرافات.. الجهل والمحبة. يقدم الراوي حزنه بصيغ مختلفة علي مدي صفحات، في أشكال سردية وشعرية.. لغة و"رسما": "في الليل أكون مستيقظا مثل نمر أو نجم أحرس قطعان حزني ويأسي وأنتظر غروب الوقت". ويحسب لدار النشر اهتمامها الشديد باستخدام أشكال مختلفة لتنسيق الصفحات وتقديم أصوات الرواة المختلفة بطرق بصرية متنوعة حسب الراوي وحسب حالة المقاطع أحيانا، منوعة بين أشكال الخط العربي ومستويات الحبر (ثقيل وخفيف) إلخ..
تسيطر علي الحكاية/النص المقدمة في المقطع الثاني منهج الحكي الذي يقترب من الواقعية السحرية كذلك مثل المقطع الأول، وإن بصورة أقل، ويظهر ذلك بقوة في المقاطع التي تكاد تكتمل قصصا قصيرة مستقلة مثل "طفل الخزانة" و"معجزة الحمار المعلق علي نخلة". ويقدم العمل وسط كل هذه الطبقات من الشعر والخيال رؤية اجتماعية تليق بباحث يساري مثل المؤلف، فتناوله للكهنة والقسيسين في القرية لا يخلو من سخرية مرة ومن تسليط للضوء علي تعاملهم الطبقي مع المؤمنين في نطاق عمل كنيستهم، ويقول عن قسيس القرية (في كل موعظة لابد أن يعرج إلي العشور والنذور، وآيته المفضلة.. قول الرب "هاتوا العشور وجربوني"). وتظهر روح الباحث في العمل بقوة من خلال إصراره علي تفسير كثير من المواقف والألفاظ في العمل عبر العديد من الهوامش التي يثقل بعضها النص أكثر مما يفيده، بل إنه يقدم في صفحة 116 رسما تخطيطيا لكنيسة هذه القرية بعد أن يشرح أين يقف كل من الفقراء والأغنياء داخل البناء الكنسي.
من اقتراب صفحات العمل من نهايتها تتضح أكثر مرامي العنوان؛ ف"نهايات سعيدة" يكاد يكون نصا منفصلا عن "سيرة الحارس الليلي للأوتيل".. ولكن لماذا جمعا في كتاب واحد باسم "رواية"، احتجت لمزيد من البحث للاقتراب من إجابة محتملة. وقد كان استخدام المؤلف للفظ "مشفوعا" هو أحد مفاتيح فهمي لهذا التركيب المعقد لعنوان الكتاب، ففي "لسان العرب" (الشافع هي التي معها ولدها) وهي كذلك في المعجم الوسيط، وربما يكون تولد النص الثاني من الأول هو السبب في أن يعتبر المؤلف أن نصه ("نهايات سعيدة" جاء "مشفوعا (أي مع أمه) بسيرة الحارس الليلي للأوتيل")، وربما قدم العمل لقراء آخرين إجابات مختلفة.