تظل ولفترة ليست بالقصيرة إشكالية علاقة الدين بأنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية مطروحة للنقاش الثقافي والمجتمعي، حتي تتجلي الرؤية لدي الشعوب وتتمكن وحدها من فرض نظام أمثل يحقق العدل ويلبي الحقوق. هذه الإشكالية كانت محورا للمنتدي التراثي الأول الذي أقامه معهد المخطوطات العربية واستضافه معهد البحوث والدراسات العربية الاثنين الماضي تحت عنوان "النص التراثي السياسي..مقاربة جديدة لطرائق الفهم والتعامل"، وأداره الدكتور فيصل الحفيان، وألقي المفكر الإسلامي اللبناني أ.د. رضوان السيد محاضرته الأساسية ننقل هنا أهم ما جاء فيها. تحدث د.رضوان في إطار أطروحته "استعادة التقليد"، وأجملها في أن معضلة الإسلام اليوم تتجلي في الحركة الإسلامية بامتداداتها المختلفة السلفية والإخوانية، دون تمييز، والتي حرفت هدي الإسلام وأقحمته في مضايق السياسة، وهو ما تسبب في كوارث لا حصر لها، ليس آخرها ما حصل في مصر أثناء حكم الإخوان، وقد ازدهرت هذه الحركات في ظل هجوم عنيف ومتواصل علي التقليد في الثقافة العربية والإسلامية، والذي ابتدأ منذ القرن 19م، وتلاقت فيه التيارات العقلانية أو الحداثية مع التيارات الإسلامية، فكل نقد للموروث الديني هو تعزيز لمرجعية الحركة الإسلامية، وخدمة مجانية لها، إن نقد الموروث الديني والتقليد في الحياة العربية يصب في صالح التيارات السلفية والإخوانية. واستطرد: "فالسلفية السعودية المعارضة للخلافة والمتشبسة بدولة الملك عبد العزيز وتقليد تقاسم السلطة بين الشيخ والأمير، ليس لأن الشيخ أو غيره يفرض الشريعة، فالسلطة هي التي تحرس الدين، قد تمردت في السبعينات، يقولون بتأثير الإخوان الذين لجأوا للسعودية من سوريا ومصر، فالسلفيون بدأوا بالتأخون والإخوان بالتسلف في تلك الفترة من السبعينيات والثمانينيات، حتي وصلنا إلي الأمر الراهن عندما التقت الصحويات السلفية مع الإخوانية في مجري الدين، ثم بدأت بعض النخب تكتب في مسألة تطبيق الشريعة في دولة القانون، وأن هذا هو الإسلام الجديد الذي يتلاءم مع الحداثة والعصرية دون فساد، بالإضافة إلي الشعبية التي نشأت لهم عند العامة نتيجة أن الدولة الوطنية العربية لم تنجح". وبناء عليه، دعا الدكتور رضوان إلي وقف استهداف الموروث الديني، الذي يغذي وجود التيارات السلفية والإخوانية، ويمنحها القدرة علي الاستمرار، وبالمقابل يدعو إلي استدعاء التقليد ومنحه شرعية النفوذ في الواقع، وأهم عناصر التقليد التي يراهن عليها لتفكيك نسق الحركة الإسلامية، هو إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية التقليدية، وتعزيز أدوارها "العبادة والفتوي والإرشاد"، وتنظيف الساحة من كل العناصر التي تشوش عليها أو تشاركها الوظيفة سواء كانت سنية أو شيعية، وقف تحوير المفاهيم الإسلامية التي مارسها الإخوان والسلفيون؛ والمساعدة علي إقامة الحكم الصالح. وأوضح السيد: "لابد لصون الدين في أزمنة التغيير من ثلاثة أمور؛ الأول، القيام بنهوض فكري وديني، من خلال عمليات الإصلاح الديني، والثاني، إعادة بناء المؤسسات الدينية لتمكينها من القيام بالوظائف والمهام التي كانت لها والتي لم تستطع القيام بها في المرحلة الماضية، أما الثالث، فهو الانخراط من جانب المثقفين في عمليات إقامة أنظمة الحكم الصالح أو الرشيد في البلدان العربية التي سادت فيها وتسود الديكتاتوريات العسكرية والأمنية المهولة، صحيح أن بعض الذين ردوا عليّ جادلوا بشأن الأنظمة الاستبدادية، وهل هي أفضل أم التيارات المتشددة التي تتصارع معها، الاعتراضات الحقيقية، من جانب الإصلاحيين والتنويريين، كانت علي اتجاهات عمليات النقد المفهومي من جهة، والدعوة لتقوية المؤسسات الدينية التي نال منها الضعف، وضاعت وظائفها ومهامها بين الأنظمة الاستبدادية والثوران الإسلامي". ويستكمل: "في مجال النقد المفهومي أو نقد عمليات تحويل المفاهيم، لاحظت أن التقليد السني صار ملعونا باعتباره أرثوذكسية رجعية مملوءة بالانسدادات، وانحطاطات الألف عام، وقلت إن هذا التصور أو هذه التصورات التي نشرتها التيارات الإصلاحية والسلفية والتنويرية، وطرب لها المستشرقون ودعاة صراع الحضارات، تمثل نزوعا غير تاريخي، ولا يفهم الإسلام والمسلمين، فصحيح أن التقليد السني والشيعي عانيا مشكلات قوية من داخلهما وفي مواجهة حضارة العصر وعصر العالم منذ القرن التاسع عشر؛ لكن الحملات عليهما من كل حدب وصوب، أدت خلال قرن وأكثر إلي تحطم التقليد وحلول الأصوليات محله، لدي السنة والشيعة، فلدي السنة، ظهر الجهاديون وظهرت الأحزاب الدينية الداعية لإقامة الدولة الإسلامية، ولدي الشيعة انتهي عمليا تقليد أو اعتقاد الإمام الغائب، وحضر الإمام، وجاءت ولاية الفقيه التي استولت بالمذهب علي الدولة وإدارة الشأن العام". يستطرد متسائلا: "ولكن؛ هل كان ظهور الأصوليات دليلا علي صحة أو سلامة التقليد الديني؟" ويجيب: المسألة هنا ليست في الصحة أو البطلان، بل في المفاهيم التي سادت عن التقليد، فكان الإصلاحيون والسلفيون قد أخذوا علي التقليد إغلاقه باب الاجتهاد، وقصْره علي ما آلت إليه المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انفتح تقليد المذاهب الفقهية لدي السنة والشيعة داخل المؤسسات وخارجها، لكن الأمر ما لبث أن اتخذ طابعا مبدئيا لدي المتدينين من الإصلاحيين والسلفيين علي حد سواء، فقد أراد الطرفان العودة إلي ما قبل التقليد، وإنْ لأغراض مختلفة أو متباينة، أراد الإصلاحيون العودة للكتاب والسنة للإفادة من قيمهما وعمومياتهما الخالية من أعباء التاريخ، وأنه من حق المسلمين إيجاد المؤسسات التي لم يعرفها تاريخهم الديني والوطني لحفظ وصون هذه الحقوق لإنسانهم واجتماعهم البشري كما صار متعارفا عليه في عالم اليوم". السلفيون، أرادوا جرف التقليد كله باعتباره بدعا وانحرافات يعود ليضيف- لفتح باب الاجتهاد بالاستمداد من الكتاب والسنة مباشرة، ووسط التحديات الكبري التي سادت في حقبة ما بين الحربين، أو حقبة نشوء الدولة الوطنية، ثم ظهور الأنظمة العسكرية والأمنية فيها، انحازت فئات من الجمهور إلي فكر الهوية الساخط علي كل شيء غربي، والخائف علي دينه من كل شيء، ويضيف أيضا: "لا أزعم أن التنويريين والعقلانيين النقديين كانوا هم من تسببوا فيما آلت إليه الأوضاع في التفكير الإسلامي بشأن الدين والدولة، لكنهم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعندما كانت هذه الفصاميات تتعملق، كانوا هم ينصرفون إلي نقد الموروث أو التقليد أو التجربة التاريخية للأمة في الدين والاجتماع والثقافة، فأسهموا عمليا في نصرة الأنظمة العسكرية، كما أسهموا في تسليم أعناق الجمهور إلي الإخوان". ويستكمل موضحا: "إن التراث والتقليد هي انشقاقات حاصلة في الدين قد حطمها الأصوليون، في فقه العيش، وفي الانسجام بين الدين والدولة، ونقد التحويلات في المفاهيم من جانب نهضويين دينيين ومدنيين سواء أكانوا مع الدين أو ضده، يسهم في صنع تصور آخر لإمكانيات استمرارية تاريخية منفتحة، وليس العودة إلي ماض أو تقليد لن يعود، لابد من الانتهاء من شرور التقليد والأرثوذكسية". ويعود ليتساءل من جديد: "من الذي يقوم في الزمن الجديد، زمن ما بعد العسكريات والأصوليات بالمهام الدينية التي يحتاجها جمهور المتدينين؟ من يمثل التعليم الديني والفتوي وقيادة العبادات والإرشاد العام؟ لابد من إعادة بناء المؤسسات لكي تقوم بهذه المهام التي تشرذمت في أزمنة الفصاميات، أو وقعت بأيدي الأصوليين ودعاة الفضائيات الطائفية والمتشددة ولن تكون المؤسسات بمعزل عن رقابة السلطات لصون الاستقرار، وصون الحريات الدينية في العبادة والتعليم في الوقت نفسه، لكنها لن تكون تابعة لها، لأن تجربة الدولة الوطنية مع الملف الديني لم تكن تجربة ناجحة". كما يشير في النهاية: "إن الذين يقيمون تفاضلا اليوم بين داعش والأسد، فضلا عن خطلهم الأخلاقي والإنساني، ينسون أن الأسد ووالده وأبناء عمه وأقاربه مثل صدام والقذافي والنميري والبشير والعسكريين الجزائريين، كانوا بين أهم أسباب فشل تجربة الدولة الوطنية، لذا، لابد من أنظمة للحكم الصالح والرشيد، تنهي معاناة الناس من المذابح والإبادات، وتنهي وحشية الانتحاريات التي خرجت علي هؤلاء في الأصل، وتمكن بالفعل من القيام بإصلاح ديني يريده التنويريون بإلحاح". واختتم حديثه قائلا: "لابد من إخراج الدولة من بطن الدين وإخراج الدين من بطن الدولة، صونا للدين والدولة معا، فالنصوص الدينية عندما تدخل في الحكم تصبح مواد قانونية وليست عبادة".