ذاكرةُ النسيان حين جزّ الروماني عنقَ المسيح ودحرجته السيوفُ رأسا بعد رأس عبر العصور خجل الملاك من تلك المهانة فكشطَ المشهدَ من سجلّات الخليقة وأعاد تشكيله علي نحوٍ يليق بإله توّجَه بإكليل من الشوك وثبّته بالمسامير علي الصليب وزيّن حضوره بشموعٍ وصلوات وبهاء ثم حجب بقية الالهة في سماوات الخيال حتي لا يطالها سيف الروماني ( افتدي قداستها بدماء البشر ) تظل الآلهة آمنة في سماواتها طالما بقي الملاك الطيب الملاك الحارس ( الذي يشيخ الآن) قادرا علي أن ينهض بجناحيه ليدسَّ ريشته في كتاب المشيئة ويزيّن هوامشه بزخارف وخيال ( الخيالُ الذي يمنع العالم من التعفن ) عهدُ النسيان لم تكن خطيئتُه أنه ذاقَ شجرة المعرفة ( لم يكن بحاجة للمعرفة أصلا ) ولا أنه طمع في الخلود ( كان في حضرةِ الخلود فعلا ) خطيئتُه أنه تذوَّق نفسه فاشتهي الحياة ( لم يفطن إلي أن الحياة تقوده إلي الموت ) كان فرحا وجسورا وهو يتقافز إلي الأرض هاربا صوب أنثاه الأفلاكُ ترقص بهمّة من أجل أن تضئ له المشهد والملاكُ يرفرف فوقه ويستغفر: - "إن يكن عصي أمرَك فقد أطاعَ مشيئتك." ضحّي بالمعرفة وبالخلود من أجل قبلة ( ولا يزال يفرّ من موتٍ إلي موت ) كيف تستطيع في هذا الضيق أن تنبض بكل تلك المَعَازِف أن تقود بهجة الفلك من خلف قضبان ضلوعَك ؟! ضمّيني فأفرح بك بك.. أنبض بك بك.. بك نستعيد غرامنا الأول فرح الخليقة ( وكأنّي أو.. وكأنّك ) بك.. بك.. بك.. مآذن الفجر التي تفاجئني في قبلاتك تسبِّحني وتسبِّحك بألوان ونور أتطوّح في أحضانك بين شروق وغروب أتعلّق بالصبح النابض في شفتيك لكن مدارات الفلك تجرجرني نحو غروبٍ محتوم أومضُ.. وأغيب ( يظل حزني عليكِ ينزف في ترابي ) آه يا المعلّق في سماوات وحدتك تتنهّد شموسَك وأقمارَك وأنت ترنو إلي كل تلك الفتنة التي بيدك اشتغلت الفتنة التي بخلتَ عليها بخلودك ووكلتني ببهجتها قبل احتجابك الأليم لحزنك أن يذرف شتاءَه في قلبي وتلك الليالي الدامعة بالنجوم آه يا الحلم الذي كتبت علي قلبي يا الشوق الذي حمّلتني أمانته ( كيف تصرفني من حدائقك قبل أن أتمّ صلاتي ؟!) الملاكُ الذي ينهض مبكرا ليكحّل الأحداق بألوان وأنوار ويعيد ترتيب الأشكال في المرايا الملاك الذي حاول دائما أن يشحن العالم بذاكرةٍ مختلفة هل يمكنه أن يشحن الموت بذاكرة الحياة ؟ شجاعةُ النسيان كان يطارد امرأةً بزرقة البحر نبضت في زخارف وسائده منذ الطفولة يسْبحُها عاريا حتي آخر نظرة ( امرأة لا توجد إلا في الأحلام ) كيف يمكنه أن ينام ذلك الذي يسند رأسه علي بحرٍ لا يغفل ولا ينام ؟ ( آه يا البلاد البعيدة ) هل كان عليه أن يحرق المراكب وهو يدسُّ خطاه في السواحل الغريبة ويطيّر زفراته علي بلاد باعدها الماء وزمان تبدّدت خيالاته في خَبْط المجاديف؟ سرير عشق وشبّاك مُوارب علي بستان وصوت عازف يهبُّ من بين الأغصان: - يا لاللي أمان ( آه يا الليالي التي كانت آه يا العمر الذي كان ) هل كان عليه أن يحرق المراكب ليهبه اليأس كل تلك الشجاعة صوب مدن لم يخطر سيفُه علي بالها يوما ووجوه أعداء لا يستطيع خيالُه أن يخمّنها ليس بينه وبينهم سوي وعد الموت؟ ( اقرعوا الطبول عاليا حتي تسمع الذبائحُ أنين جلودها ) ثمة مدينة ستهبُّ بأعلامها وأناشيدها تمدّ رقابها علي طريق السيوف وتنزف عروقها من شارع لشارع ستتقلّب أقمارُها طويلا فوق أشلاء طافية ودماء وعيون تتجمّد علي خيال بعيد أزمنة بعيدة يهزج فيها الصغارُ بأمجاد الغابرين ويتقافزون بالصور واللافتات من نورٍ إلي نورٍ مهللين: "هذه الأرض أرضنا ترابها رفات أجدادنا" ( لا هم الأجداد بالضبط ولا أولئك هم الأحفاد ) ثمة مدينة ستبسط موائدها علي الطريق لتفتح لنفسها ممرا آمنا للحياة تخرج بزينتها وورودها تلوّح بأعلامها البيضاء للفاتحين ( هازئة بالطبول الجوفاء ) من هنا مرّ غرباء كثيرون سيكون عليه أن يمضي دائما أن يستعجل الوقت وهو يدوس بشجاعة كل الأشكال التي ترسمها ظلاله ( حتي لو كان علينا أن نختار كيف يمكننا أن نتخيّل الأمر؟ ) شموسٌ بعد شموس بلادٌ بعد بلاد ودائما علي الطريق صخورٌ لا يلتفت إليها أحد حبلي بأنوارٍ وألوان وصخب ( ثمة أشياء لا تستطيع أن تتكهّن بها ) من يستطيع أن يتسمّع نبضَ المشيئة في عروق الصخر أو وسوسة الأنوار في عتمته ؟ الشموسُ التي تتقلّب في حبات الرمال المحبوبات اللاتي يتشكلن علي مهل في عُسْر الخليقة هل يقدر أن ينظرهن سوي عاشق ورباب قادر علي الانتظار طويلا علي أبواب الحجر ؟ يمكنه أن يُضرم نار الشوق في الصواري أن يمضي من سيفٍ إلي سيف من أرض إلي أرض وهو يعد نفسه بابتسامة شجاعة في الميدان لكنه لا يستطيع سوي أن يطأطئ لإطراقة الخلسة التي لا بد أن تأتي في النهاية ذلك الموصوف بالرعب الذي فرت كلُّ البلاد من طريقه لا يزال يجرجر ظلّه وسيفه باحثا في الارض عن رماد امرأة يمكن أن تقبله أحضانُها ( آه يا البلاد البعيدة ) الزبَد الملح الأبيض الذي يتجمّع علي شفاه الموج كان يوما أغنيةً حارة تسري في عروق البحّارة مواعيدُ النسيان لم يبق منها غير عقْد نسيته علي الكومدينو كانت ليلتَها السياحية الأخيرة بعدها حلّقت في سماوات بعيدة امرأة لم تغسل شفتيها جيدا من مذاق رجالٍ كابدتهم في ليالي الوحشة غفت جنبي برجالها وتجاعيد بهجتها مقبرة مفعمة بالوعود ( ودائما سماوات بعيدة ) لا أنتظر موعدا أفضّل انتظارا طويلا يكفي لصنع تاريخ من الأسي بلاد وسماوات وأرصفة غريبة وشبابيك مفتوحة علي شوق أفضِّل صدفة بعيدة مدينة نائية خلف مطارات ومواني نهايات شتاء أو بداياته ( تلك الرعشة ) امرأة مثلك لا يليق ببهائها إلا مثل تلك المصادفات المدهشة ( قد أتحققُ كوعد أو أتفجَّرُ كمهزلة ) تستطيعَ أن تتأمل كلَّ تلك العقود المنسية الألوان والفضة بهجة البصر لكنك لن تستطيع أبدا أن تتذكر الوجوه ستطالعك العيون من خلال وجوه أخري في شوارع متشابكة تستهويك تفرّعاتها تستطيع أن تتمهل قليلا لتتبادل الابتسام وأنت تحاول أن تتذكر لكنك لن تجرؤ أبدا ستظل هكذا عابرا من وجه لوجه من ابتسام لابتسام ( هل يمكنك أن تغامر؟ ) أتفادي النظرَ إلي تلك الطرق الملتوية حول زوايا العينين والفم عناكب تتحدّر صوب السرّة بالتأكيد لا أحتاج تلك الأشياء الآن مجرد جلسة علي طاولة وكوب من الكولا أو الشاي سنحاول أن ننسج اللحظة معا أنا كلمة وأنتِ كلمة (أظن أننا نستطيع أن نتذكر سويا كل تلك الحكايات التي لم نعشها بعد الحكايات التي لن تحدث أبدا ) ابتسامة بين حين وحين ثم إطراقة وسلام ( تتركينني لمجلة أتصفّحها وفاتورة حساب ) سيكون أمامي وقت لأتأمل الملاك ذا القيثارة الذي يتأهب للانفلات من الصورة وهو يهمّ بالأوتار قرب شبّاك مفتوح علي رحيلك ليعزف شجنه خلف خطواتك يمكنني أن أسكن تجاعيد بهجتها لكن هل كان يمكنني أن أطلب أن تذهب معي إلي كل تلك الدموع الغزيرة أن تشاركني الرماد ؟ ( أنا لا أستطيع أن أعِد ) هل كنت أستطيع أن أصارحها بأن بيننا مسافة لا تستطيع أن تطويها القبلات ولا ثرثرات الليالي الباردة وأنني أنتظر رجلا يدهمه الموت فجأة ليهبني كبده ؟ تفجؤه سيارةٌ وهو في الطريق إلي حبيبته أطفاله مقهاه الليلي ينزف أشواقه علي الأسفلت اللحظات الأخيرة اللحظات الأحلي ( انتظارُكَ يوجعني ) أولئك الجالسون علي الكراسي المعروضون علي أرصفة الحياة بأشكالٍ وألوانٍ وأضواءٍ وصخب نماذج يمكن انتاجها بوفرة ( الرياح التي تنثر حبوب اللقاح تستطيع أن توحي بك مرة أخري ) كل تلك الوعود الضائعة الأجساد التي تتبدد فرصة بعد فرصة ( هل يمكننا أن نستعيد اللقطة ؟) بالتأكيد ثمة امرأة تليق ببهائها كل تلك العقود المنسية بالتأكيد ستمر يوما من هنا امرأة موصوفة في الأساطير التي لا ينكرها أحد ستمر لكن لن يكون هناك بصر ليشهد أنها هي التي هي سيهبُّ الملاكُ أمامها بالبوق ليفضَّ الأنظار عن طريقها ( تتبختر وحيدة في عراء المشهد )