في العمود السابق ذكرت قصتين عن قوة السينما المصرية وتأثيرها علي العرب ، وبعض الأجانب المتابعين لنجومنا العالميين ، الذين بالمناسبة يضمون بينهم المخرج الكبير يوسف شاهين الذي تخصه القصتين التاليتين : الأولي ذكرها لي أحد النقاد السينمائيين المصريين الذي كان يجلس ذات يوم مع شاهين في أحد المقاهي الباريسية علي الرصيف ، و فوجئ بقدوم الواحد بعد الآخر من الفرنسيين الداخلين للمقهي يتقدمون في زحام ليسلموا بحرارة علي شاهين ويبادلونه كلمات الإعجاب بفنه الراقي وذلك بمناسبة عرض أحد أفلامه في تلك الفترة في العديد من السينمات الفرنسية وشاهد إقبالا كبيرا. لقد وصف الصديق الناقد الموقف بما يشبه المظاهرة الصغيرة التي التفت حول شاهين طوال ساعتين حتي شعر بالإرهاق فاضطر لمغادرة المقهي . قصة أخري أسوقها عن قوة السينما المصرية شاهدتها بنفسي في بيروت عام 1974 م وهي أيضا تخص يوسف شاهين . حيث شاءت الصدف أن أكون في بيروت ساعة بدء عرض فيلمه الشهير " حدوته مصرية " وأذكر أنني وأصدقائي العاملين في جريدة السفير عانينا كثيرا للحصول علي تذاكر لحضور الفيلم واضطررنا لتوسيط الصديق الذي كان يكتب بانتظام في السفير مقالات بديعة وهو كان دوما علي صلة قرب مع شاهين ، المهم انه حصل لنا بالعافية علي التذاكر وفوجئنا بما يشبه الخناقة أمام شباك التذاكر كما زحام رهيب حول السينما . المهم بدأ عرض الفيلم وكانت ردود فعل المشاهدين تذكرك بما تراه وتسمع حين تحضر أحد أفلام شاهين الذي يعد بحق أستاذا في اللعب مع المشاهدين الذين تراهم في البداية يتذمرون ، ثم فجأة يضجون بالضحك ، ثم فجأة يلهجون بالبكاء ، ثم يتحولون للتصفيق ، ثم يغنون مع الشيخ إمام: " مصر يامه يا بهية / يام طرحة وجلبية / الزمن شاب وأنتي شابة / معجبانية وعفية " بكل قوة وعنفوان . يغنون بكل حماس ممكن حتي إن المفاجأة تركبك فتضطر للبكاء . انتهي الفيلم لكن الناس عادوا يغنون " مصر يامه يا بهية " وهم يقفون ويتجهون لأبواب الخروج في حراك وجداني جماعي راحت جدران دار السينما تردد أصداءه فتزيده قوة علي قوة . وسط الزحام الشديد وصلنا للشارع المتفرع من شارع الحمرا الشهير الواسع فإذا الناس يمضون حتي يصلون إلي شارع الحمرا ،وهم يغنون مصر يامه يابهية لتتحول إلي مظاهرة تلقائية بلا زعماء أو قادة ، راحت تقطع غناءها هتافات بحياة مصر العربية زعيمة العالم العربي ، ولم يكن أمامي أنا الغريب في بيروت سوي مواصلة البكاء . وتزداد الدهشة حين تشاهد مظاهرة أخري قادمة من سينما أخري في شارع آخر ، كانت تعرض نفس الفيلم ، لتقترب المظاهرتان وتندمجان في مظاهرة كبيرة عفية ، ولم يكن هناك لا قائد أو زعيم. كانت هناك بهية . كانت مصر الشابة العفية هناك يتنادي بها أهلك يابيروت الجميلة . وهذه قصة أخري من قصص قوة السينما المصرية . الله يخرب بيوتكم يا جهلة .