في شارعٍ عريض قريب من بيت إنسال، علت أكوامٌ من الزبالة. تراكمت لتكوِّن أهرامًا عديدة، كانت هذه الأهرام نتاج شهور طويلة من إضراب الزبَّالين عن العمل. في البداية تكوَّنت كومة بسيطة في منتصف الشارع، وهكذا، صار كلّ مَن يرمي قذارته يقذفها إلي أعلي الكومة، وارتفعت الكومة حتّي كوَّنت تلا عاليًا يضاهي في ارتفاعه ارتفاع أهرامات الجيزة. ثم ظهر هرمٌ ثانٍ، وثالث ورابع، وارتصّت سبعة أهرامات في منتصف الشارع، وسُمي شارع الأهرام. ولسبب ما نسي الناس أنّهم هم من أنشأوا تلك الأهرامات من الزبالة. ومشي رجلٌ وفتاتان، واحدة في الحاديةَ عشرةَ والأخري لا تزال طفلة في الرابعة، الرجل أتي من مكان قريب، من تحت الكوبري في الشارع الكبير حيث يبيت كلَّ يوم، والفتاتان جاءتا هاربتين من أبٍ مجنون، لا تتذكران سوي القليل، كانتا في غير حاجة إلي ذاكرة أصلاً، فما سيحدث كافٍ لإحداث أروع التأثير في الفتاة الكبيرة، كانت تعلم أنّ ما سيحدث عظيم، كانت أيضًا تعلم أن لا مفرَّ من حدوثه، واستسلمت استسلام العالمين. ولم يكن هناك ما ترتكِن إليه إلّا العبث. أخذ الرجل يعبث بكومة الزبالة الصغيرة في الشارع الفرعي، أهرامات الزبالة الضخمة لا تصلح للنبش، هو يفعل ذلك كلَّ يوم، يستخرج من الأكوام الصغيرة ما يمكن أكله، الذي لم يفسد بعدُ، الذي راحت رائحته وأخذ العَطنُ يتسلّل إليه، يأكله قبل أن يفسدَ تمامًا، قبل أن يتحلّلَ أو يتغيّر لونُه، يمسك التفاحة ليشمَّها، ليميِّزَ رائحة العطن الخفيّة قبل أن تسيطر علي التفاحة بأكملها، وإذا رأي كسرة خبز متعفّنة، إذا رأي حبّة فاكهة وقد تعفَّن طرفها، فإنّه يقضم الجزء المتعفّن ويبصقه، ويأكل الباقي. رجل الزبالة. غالبتِ الفتاةُ الكبيرة حياءها، وأخذت تعبث بكومة الزبالة الأخري، بعد أوَّل دقيقة، وجدت رغيفًا كاملًا، لا يزال طريًّا، بينما وجد رجل الزبالة في كومته رغيفًا قاسيًا، وضعه في كيسه البلاستيك ريثما يبلِّله بالماء. ثم وجدت الفتاة الصغري بقايا دجاجة، لحمًا أبيضَ لا يزال ملتصقًا بعظام الصدر، رفعت القطعة لتريَها لرفيقتها الكبيرة، وابتسمتا معًا. لكنّ رجل الزبالة لم يجد سوي رغيف الخبز اليابس. تابعهما بحسد، ثم أدرك أنَّهما تهدِّدان نطاق عمله، وستشاركانه استكشاف الزبالة، مِعي أخري ستهضمُ طعامه. طردهما بكلامه، ثم أشاح بذراعه غاضبًا. لكنّهما لم تتحرَّكا، بسرعة أمسكت الكبيرة بحجرٍ من الشارع وقذفته به. أخطأ الحجر وجهه، فتقدّم بجسده الضخم، ضاربًا الفتاة ضربة واحدة فقط لترقد فاقدة الوعي، والأخري الصغيرة تنظر إليها ولا تفهم. في ذلك الوقت، كان الناس في هلع بالغ، يدورون حول المخابز وبائعي الطعام. بينما كان الشباب يقفون في الشوارع مسلَّحين بالعِصي، كلٌ يشتبه في جاره، يشتبه في أخيه، ثم يعود ليحتضنَه معتذرًا معترفًا بالخطأ. كان الجميع يقولون إنّ الجرح قد انفتح، وإنّ الصديد ينزّ منه بكثافة، وإنّهم في حال اختبار، لكنّهم أصرّوا علي إكمال الطريق، لا رجوع اليوم، لا عودة إلي ما سبق، لن نُظلم ثانية، وكان الأمل يتضاعف مع كلّ نَفَس يغذّيه الجهل. لم تظهر علامات الندم أو الغضب علي وجه رجل الزبالة، الرجل ذو وجه جامد، لم يتحرَّك منذ سنين، حتّي عندما يتسوَّل طعامه لا يتحرَّك وجهه، وإنّما يحاول أن يرقِّق صوته. ومع صوته الرقيق، يضيف تأوّهات وزفرات هادئة، وربّما صفَّر، هذه التأثيرات التي يضيفها علي كلامه تجعله ودودًا حقًّا، لكنّ وجهه يبقي جامدًا. فقد رجل الزبالة عينه منذ سنوات، بياض عينه مغناطيس لأعين الناس، والرغيف دائمًا في كفّه يشغل الناس بالتفكير في حاله البائس، في حالهم البائس، رغيف كامل صُلب أو بقايا رغيف، هو أكثر ما يحصل عليه من الزبالة، وهو أهمّ ما يحتفظ به. يحرص رجل الزبالة علي أكل ما يجده فورًا، يأكل بقايا الفواكه، وقشور الخضراوات، ويجرش العظام بأضراسه، وقد يمتصّ النخاع الذي يحبّه، حتّي لو كان باردًا ثقيل القوام. لكنّ للخبز تعاملا آخر؛ يحبُّ أن يحتفظ بالخبز مدّة أطول، يبحث عن مصدر للمياه، ليبلّل الرغيف ثمّ يأكله، يحبّه طريًّا. يحتفظ رجل الزبالة بأرغفة عديدة في جيبه، في قميصه، في الكيس البلاستيك قرب موضع نومه، كلّما جاع أخرج واحدًا وأخذ يقضمه. يجوع رجل الزبالة وهو نائم، يستيقظ وحلقه جافّ، يشرب جَرعتين من الزجاجة بجانبه وهو راقد علي الأرض، ثم يُخرج رغيفًا ويبلّله بقطرات قليلة، ثم يلتهمه حتّي يشبع ويعاود النوم. يحرص دائمًا علي الرغيف والزجاجة بجانبه قبل أن ينام. رجل الزبالة مملٌّ سَمِج، يمرُّ علي البيوت، يعرف أسماء قاطنيها ويناديهم مضيفًا لقب حاج أو حاجة. وإذا لم يعرف الاسم ينادي: »يا حبيبي«، يتودَّد إلي الجالسين في بيوتهم، فيُلقُون إليه بالعملات المعدِنية وبقايا الخبز. آخرون يُخرجون رؤوسهم من الشبّاك هاتفين: »امشِ«. صوت رجل الزبالة ضوضاء عندما يعلو، ومع تكرار جملة »يا حاج« كلّ ثلاث ثوانٍ، يتحوَّل الأمر إلي كابوس علي السامع. لكنّ التكرار لا يأتي من فراغ، لا يتسوَّل رجل الزبالة طعامه إلّا إذا لم يجد شيئًا في أكوام الزبالة، الناس بخلاء هنا، يأكلون كلّ شيء، يأكلون اللحم والجلد والعظام، حتّي بقايا الفاكهة، كلّ ما يجده قشور البصل، وشعيرات جذوره المترَّبة، تلسع قشرة البصلة لسانه عندما يأكلها. وفوق كلّ هذا ظهرت الفتاتان، لا يوجد ما يكفي من الخبز حتّي تشاركاه. مرَّ إنسال بجانب رجل الزبالة، تحرّك وهو يهتزّ مبتهجًا، يناديه: »يا حبيبي، كلّ سنة وأنت طيب«. ولا يقول غيرها، ظلَّ يكرّرها برتابته المعتادة خمس مرَّات أو ستّ . تجاهله إنسال، ولاحظ الفتاتين تبكيان علي الرصيف القريب، كانت الفتاة الكبيرة قد أفاقت وأخذت تبكي بصوت خفيض، فبكت الصغيرة لبكائها. فكّر إنسال، إنّ قتل الفتاتين وزهرة ورجل الزبالة لن يحسِّن العالم، لكنّه سيريح الكثيرين. وفي لمحة غير متوقّعة، اقترب رجل الزبالة من الفتاة التي صفعها للتوّ، وأخذ يربِّت علي كتفها، كانت أضعف من أن تقاوم.
لم يضيِّع رجل الزبالة وقته، عاد مع الفتاتين إلي مكان مبيته، بيته الصغير تحت الكوبري، في المكان المتّسع قليلِ الارتفاع تحت المطلع، وضع رجل الزبالة ألواحًا خشبيّة نصف محطّمة، كوَّن بها حوائط لتحميَه من الريح، مساحة صغيرة جدًّا اختبأت خلف كومة من أكياس الزبالة السوداء. كانت هذه الأكياس تحميه من تطفّل المارّة والشرطة. استلقي رجل الزبالة في منزله، علي مساحة أربعة أمتار مربعة، تشغل المساحة وسادة صغيرة، وصحف عديدة مرصوصة في كلّ مكان، وحشية صغيرة لا لون لها. كانت رائحة العفن حاضرةً في المكان بشدّة، وصوت سيّارات قليلة تمرُّ فوق رأسه علي الكوبري، وأنين الفتاة الكبيرة يأتي من تحت جسده المتعرِّق، لم يضاجع رجل الزبالة طفلة من قبل، لم يختبر هذه النعومة والرقّة من قبل، كذلك، لم يعتد أن تبكيَ امرأة تحته بكاءً مكتومًا خفيضًا هكذا. في الخارج كان الناس مشغولين بوهم الدنيا، يُقتلون في كلّ شارع، وكان القنَّاصة يجتهدون في أداء مهامّهم. واستلقي إنسال محاولًا النوم، لكنّه لن ينام إلّا ساعة واحدة قبل الفجر. كانت الفتاة الكبيرة تنشج بعنف، كان الألم طاحنًا، لكنَّها لم تصِح، فقط أنّت. خوفًا من إيقاظ الأخت الصغيرة النائمة في ركن البيت الصغير. فكَّر رجل الزبالة لو كانت ترفضني لقاومت، لخمشت وجهي وضربتني، لكنّها تريد ذلك. وعندما رفع وجهه وحدَّق في وجهها أعجبته دموعها ووجهها الخائف. تباطأ ثمّ توقَّف قليلًا وهو يتابع هدوء وجهها، ثم عاد يرهز بعنف مفاجئ مستمتِعًا بالألم والنشيج المكتوم. تابع ما يفعله بحماسة.
تقلّبت مصائب كثيرة علي ظهر رجل الزبالة، فقد عينُه منذ ثلاثين عامًا، وظلّ طوال عمره يذكر ذلك اليوم؛ كان جالسًا علي قهوة في الضاهر، حينما بدأت مشاجرة بجانبه، فقام من مكانه كي يسرق حافظة أوراق جلدية تركها أحد المتشاجرين علي كرسيّه، انتبه واحدٌ إليه وهو يمسكها ويهمّ بالهرب فصاح مناديًا الناس. قاتل رجل الزبالة بشراسة، حتّي عندما سالت عينه وأيقن أنّها راحت إلي الأبد استمرّ في القتال، لم يشهد الناس لصًّا يقاتل مثله أبدًا، لهذا استقرّ الجميع علي أن يتركوه ليذهب دون تسليمه للشرطة. أصيب بانزلاق غضروفيّ أبقاه راقدًا علي الأرض مدَّة طويلة، عندما عمل في مصنع للبلاستيك. ولصلة البلاستيك بالزبالة، استطاع ترك المصنع والذهاب إلي معمل زبالة، هكذا كان يسمّيه: »معمل«. حيث يتمّ فرز زبالة البيوت وتصنيفها إلي بلاستيك، وورق، ونفايات عضوية. وعمل لا يتطلَّب سوي عين واحدة، وملابس مهترئة، فلا أهمّية لمَن يعمل في فرز الزبالة. هناك، في الأكوام العديدة التي كانت تصله يوميًّا، وجد رجل الزبالة طعامًا كثيرًا، وقتها كان يأنف من تناوله، كان يكسب جيّدًا، ويأكل جيّدًا، ويعيش جيّدًا، وضاجع مَن عملن معه كثيرًا، وضاجع جاراته أكثر. كان ثورًا بحقّ، جسدًا ضخمًا ووجهًا مشوّهًا من جرَّاء المعارك العديدة، وعين بيضاء. كان الظلام خير ستر لوجهه في أثناء المضاجعة. لكنّ طعام الناس الملقَي في الزبالة كان يؤرِّقه دومًا؛ فاكهة طازجة وأجزاء من دجاجات لا زالت بلحمها وجلدها وأرغفة خبز يابسة، رأي الملايين من بقايا أرغفة الخبز، طعامٌ يعافه المرء لكنّه طعام حقيقي. كان يرميه للخنازير وهو يتمزَّق. كانت هذه أفضل طريقة للتخلّص من النفايات العضوية؛ الخنازير تأكل كلّ شيء. ثم قالوا إنّ الخنازير ستقتل الناس، ستنقل إليهم مرضًا خطيرًا، وحفر رجل الزبالة حفرة ضخمة، كان صاحب المعمل يحفر معه وهو يبكي بحرقة، ولمّا حان الوقت، طلب من رجل الزبالة أن يكمل المهمة منفردًا فهو لن يستطيع مساعدته. حطّم رجل الزبالة جماجم الخنازير السوداء الصغيرة بعصا حديد، واحدًا تلو الآخر، ولمّا هرب واحدٌ منها تركه، كان يعلم أنّ الخنزير سيقتله أحد العاملين خلال دقائق، هذه جثّة لن يدفنها. رمي رجل الزبالة جثث الخنازير في الحفرة، ثمّ أهال عليها التراب. بعد ذلك بأيّام قليلة، سرَّحه صاحب المعمل. قال إنّه سيبحث عن مهنة أخري، لا مجال للعمل في الزبالة بلا خنازير، ونصح رجل الزبالة بالبحث عن عمل آخر، قال إنّ العمل في الزبالة انتهي إلي الأبد.